منذ بداية الثورة السورية رفعت جميع الدول والقوى والجهات المعنية بالمسألة السورية، شعار “الحل في سوريا سياسي لا عسكري”، وبرغم دخول الصراع عامه العاشر لم يسجل الشعب السوري أي بوادر انفراج أو بارقة أمل لحل سياسي، ومرحلة انتقالية جديدة تنهي المأساة المستمرة برغم كل التصريحات بأن الحرب قد انتهت.
والغريب أن جميع أطراف الأزمة متفقون على شكل الحل بأنه سياسي بحت.
الكاتب والسياسي محمود الوهب، يتحدث في حوار مع المرصد السوري لحقوق الإنسان عن الحرب، ومعاناة الشعب السوري، وشروط الحل السياسي لتحقيق آمال كل سوري حر.
س1- هل تعتقد أن سورية لا تزال بعيدة عن مشهد المرحلة الانتقالية التي من أبرز شروطها، التوافق الدولي الأمريكي-الروسي، والإقليمي (تركيا– إيران– إسرائيل) ويبدو حتى الآن وحسب المعلوم أن التوافق على حل سياسي لا يزال بعيد المنال؟
ج- ما هو مرئي على أرض الواقع، واستناداً إلى النشاط الدبلوماسي الذي مارسته روسيا تجاه سورية مؤخراً وما تضمنه من قضايا عالقة سواء ما تعلق بإدلب أو بشرق الفرات، إضافة إلى التمسك بوقف القتال ومؤشره الهدنة المستمرة في إدلب وتوازن القوى في الجزيرة.. كل ذلك يشير إلى أنَّ الحلول السياسية أخذت تلوح في الأفق.. ولعلَّ روسيا قد حققت ما حققته من مكاسب اقتصادية وسياسية لقاء ما قامت به من نشاط عسكري مكثَّف يمكن القول معه: إنها وصلت إلى نوع من العجز عن الاستمرار وخاصة بوجود متدخلين آخرين، ويبقى أن تكلل توافقات المتدخلين على ما وضعوا أيديهم عليه (بالطبع لا أحد من هؤلاء نظر إلى ما يريده الشعب السوري).
لقد وضعت مسارات الثورة السورية وتعرجاتها المعارضةَ الرسمية في خانة أحادية الرؤية والمصالح، وهي اليوم أقرب إلى التوافق على ما هو قائم، كما أنَّ النظام قد يُكْرَهُ على التخلي عن مزاعمه في السيادة على كامل التراب السوري وفق صيغ مقبولة لا تتناقض مع الرؤية التركية في شرق الفرات، مع الأخذ بعين الاعتبار الوجود الأمريكي.. إذ يمكن إيجاد نوع من الحكم الذاتي أو نظام لا مركزي يحقق مطالب الأقوام غير العربية.. وها قد اقتربت الانتخابات الأمريكية ما قد يفسح المجال أمام الرئيس الجديد لأن يتفرغ للوضع السوري.. وعلى كل حال، فالأمريكان ليسوا بعيدين، إذ حين يطرح الروس أمام السوريين حلولاً لشرق الفرات، لايستطيعون تجاهل الرؤية الأمريكية، وقد تُبقي التفاهمات البابَ موارباً للدبلوماسية كي تستعيد وحدة سورية أرضاً وشعباً، إن ظلت بعض القضايا معلقة ولم ينفَّذ القرار 2254 بحذافيره.. ولكن هل يمكن لمثل هذا الحل أن يتم في حال وجود بشار الأسد؟ لا أعتقد ذلك، فالأمور في هذه الحال لن تسير على نحو سليم، وسوف تكشف الأيام القادمة حقيقة ذلك، علماً أن الوفد الروسي الأخير حاول طمأنة الأسد بالبقاء لدى حديث المعلم عن استحقاق الانتخابات الرئاسية عام 2021.
س- برأيك أستاذ محمود، ما ملامح المرحلة الانتقالية، ومن ترجح لقيادتها ضماناً لانتقال سلس وسلمي يقود البلاد إلى المرحلة الديمقراطية المنتظرة؟
ج-الحقيقة أن المرحلة الانتقالية غير واضحة الملامح حتى الآن.. لكن المؤمّل، وبعد كل هذه الدماء وكل هذا الخراب أن تقود المرحلة الانتقالية هيئة مستقلة عن النظام والمعارضة على السواء، وسورية لا تفتقد رجالاً وطنيين وأكفاء، بحيث تمثل الهيئة الطيف السوري كله وتؤمن بالديمقراطية ولابد، إن وجدت الهيئة الانتقالية أن تعمل على تحييد الجيش، والخلاص من الميليشيات كافة، ويمكن أن تتألف الهيئة الانتقالية من مختصين في القانون والإدارات المختلفة، ولديهم خبرات كافية، ويمكن أن يعملوا تحت إشراف الأمم المتحدة وإن لمدة محددة.
س- هل مشكلة السوريين الدستور، وهل دفعت سورية والثورة السورية هذا الثمن الباهظ للحصول على دستور جديد فقط، برغم أهمية الدستور في تحديد القواعد الناظمة والمؤسسة للدولة؟
ج-إذا كنت تعنين الهيئة الدستورية فلا.. أبداً ليس كذلك، برغم أن الحاجة إليه ضرورة موضوعية.. الدستور عندنا، وبالرغم من أنه أعطى صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية لم يكن أحد ليكترث به، وغالباً ما يوضع على الرف.. مشكلتنا في أن الحكومات العربية تفصِّل الدساتير على حجمها.. وغالباً يضع الدستورَ مَنْ يحكم.. والمشكلة الأكبر في بلادنا تكمن في الهالة التي يحيط بها الرئيس نفسه، وتحيطه بها جوقة الفساد من الأقربين، الأمر الذي يضعه فوق الدستور وفوق القوانين كلها، وفوق الشعب نفسه..!
س- هل البيئة الاجتماعية السورية والوضع الأمني في البلاد ووضع السوريين الموزعين في الداخل السوري والخارج، هل يساعد كل ذلك على إنجاز انتخابات نزيهة وذات مصداقية وفق معايير متعارف عليها وتحت إشراف ومراقبة جهات دولية؟
ج- من يمعن في الواقع السوري يقول: إن الأمر يحتاج إلى زمن كي تستعاد الثقة من خلاله.. ولكن من جهة أخرى يمكن تحقيق ذلك إذا توفرت الإرادة الدولية المستندة إلى توافقات تأخذ بعين الاعتبار الوضع المأساوي للشعب السوري.. ولابد من تهيئة موضوعية، كأن تسبق الانتخاباتِ عودةُ من يرغب من السوريين إلى وطنه، والإفراج عن المعتقلين كي تصبح الأمور ممهدة لإنجاز انتخابات ديمقراطية وحرة.
س – حكومة دمشق غير جادة في الحوار، ومعارضة مرتهنة لقرار تركيا والإدارة الذاتية غائبة.. هل لديكم آمال في تحقيق إنجاز عبر اجتماعات جنيف وأستانا وغيرهما، وما هو الحل برأيكم؟
ج – حكومة دمشق اليوم تعاني أوجاعاً مختلفة يعكسها الوضع المعيشي والاجتماعي والخراب الذي نجم عن الحرب، خراب البشر والحجر وهي من تسببت به، ويشكل عليها اليوم ضغطاً قوياً، وأرى أن مؤيدي النظام قد ضعف صوتهم عما قبل.. فهم اليوم مسكونون بهمومهم وأحزانهم.. أما ارتهان المعارضة لرأي واحد، برغم سوئه، فلعله يساعد أكثر في حلحلة الأمور، فجزء مهم من الارتهان يعود إلى صراعات المعارضة واختلافاتها.
س – وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف قال مؤخرا إن “قانون قيصر” والعقوبات الغربية الأخرى ضد سورية أضرت بالدرجة الأولى بالمواطنين السوريين البسطاء، على عكس ما يصرح به الغرب، داعياً إلى مراجعتها.. كيف تقرأ هذا الموقف؟
ج – هذا تصريح يخص النظام، ما يعني أنه للاستهلاك داخل سورية، وهو من جهة ثانية يمس الروس أنفسهم، ومصالحهم الاقتصادية وشركاتهم التجارية التي تعمل داخل سورية وتتأثر بتلك العقوبات.. أما المواطن السوري فلا يهمه اليوم غير رغيف الخبز وهذا، فيما أعتقد، غير مرتبط بقانون قيصر.
س- في أحدث تصعيد، تشير معطيات ميدانية إلى أن الاستقرار الأمني في شرق الفرات، شمال شرقي سورية، بعيد المنال إذ لا تزال خطوط التماس بين فصائل المعارضة السورية و”قوات سورية الديمقراطية” (قسد) تشهد اشتباكات محدودة، في اتهام لقسد بمحاولة استمالة شيوخ العشائر في ظل تهديدات بعضهم بإنشاء كتائب عسكرية من أبناء المنطقة لحفظ الأمن.. كيف تقرأ المشهد شمال سورية، والى أين يسير برأيكم؟
ج- بداية لابد من الإشارة إلى أنَّ الأغلبية السكانية في منطقة شرق الفرات هي من العرب وفق إحصاءات دقيقة.. ثم إن هناك انتهاكات قامت بها “قسد” ضد العرب وغيرهم تحت حجج واهية، ووفق بعض المصادر الإعلامية ثمة اغتيالات لزعماء بعض العشائر، ناهيك عمّا ارتكبته “قسد” مستبيحة قرى عربية كثيرة في ريفي اعزاز وعين العرب، إضافة إلى أنها تتصرف في المناطق التي تحتلها وكأنها أقامت دولة خاصة بها، إذ فرضت على المدارس التي تحتل مناطق أهلها مناهج تربوية بعيدة عن المناهج السورية وفيها تجاوزات على التاريخ والجغرافيا والقيم الاجتماعية المتوارثة، وكذلك فعلت الفصائل العسكرية الشيء نفسه في مناطق أخرى.. ثمة مخاوف كبيرة من أن تقود مساعي الراغبين بالفيدرالية إلى التقسيم، وهذا مرفوض سورياً.. وفي الحقيقة إن كل من حمل السلاح تجاوز على المدنيين وممتلكاتهم، وفرض “أتاوات أو خوات” وخصوصاً على الحواجز.. ربما يرى بعضهم أن الأماكن التي تحتلها “قسد” أكثر استقراراً لجهة الأمن إذا ما قيست ببقية مناطق النفوذ الأخرى، ويعود السبب هنا إلى وجود الراعي الأمريكي إذ لا تجرؤ قوات النظام، مثلاً، ولا الميليشيات الطائفية الدائرة في فلكها على التحرش بها، وتخضع قوات المعارضة للتفاهمات الأمريكية-التركية، لذلك ما يحدث من انتهاكات عند خطوط التماس أحياناً لايرقى إلى مستوى المناوشات العسكرية، أما ما يذكر بخصوص شيوخ العشائر فقد يكون حدث ذلك في مناطق سيطرة النظام والميليشيات المحسوبة عليه، وفي مناطق “قسد” حيث النفوذ الأمريكي لم ترق التحركات إلى درجة تشكيل كتائب عسكرية مع الأخذ بالحسبان أن ورقة العشائر لم تعد، بأذهان بعضهم، تملك القيمة المعهودة بسبب الانقسام والتفتت الذي أصاب هذه المنظومة كغيرها من البنى الاجتماعية السورية وقيام كل الأطراف المتنفذة بالملف السوري باللعب بهذه الورقة ما أفقدها مضمونها.
س- تعالت في الفترة الأخيرة أصوات تطالب بمؤتمر وطني جامع للسوريين، مؤتمر سوري- سوري.. هل يمكن تحقيق هذا المنال وإنجاحه في واقع متشعب حيث التدخل الخارجي والانقسامات والخلافات السياسية والعسكرية لقوى المعارضة؟
ج- المؤتمر السوري مطلب منذ الأيام الأولى للحراك الشعبي أوائل العام 2011 وكنتُ قد دعوتُ إلى ذلك في 23 نيسان 2011 كـ”مواطن سوري فرد” على صفحتي (بالطبع لم يستجب أحد)، برغم أن بعض الصحف العربية نشرت تلك الدعوة.. ودعا الحزب الشيوعي الموحد إلى ذلك أيضاً، وقد ذهب النظام بعد شهر تقريباً إلى عقد اجتماعات مصغرة في أغلب المحافظات السورية واستمع إلى آراء السوريين ومطالبهم، لكن الأجهزة الأمنية وعملاءها قلبوا الطاولة، واختاروا مع رأس النظام ما عرف بـ “الحل الأمني” لتذهب المعارضة، فيما بعد، مذاهب شتى، خلف هذه الدولة أو تلك، وتسعى إلى هذا الممول أو ذاك، ولتعقد مؤتمرات أخذت طابع التجمعات على أسس قومية أو دينية أو طائفية، يعني بالنتيجة مؤتمرات محاصصة لاقتسام البلد وتفتيته.. وبالمقابل انصرف النظام للإستعانة بالإيرانيين أولاً ثم بالروس، وكانت حينذاك قد انتشرت الفصائل المسلحة بعد أن استخدم الجيش العنف وفتح النار على المتظاهرين في أكثر من ساحة وأكثر من بلدة ناهيك عن القناصة الذين راحوا يصطادون المتظاهرين عن بعد.
اليوم، وبعد أن غاب الصوت السوري الأصيل، أخذت تبرز الغيرة الوطنية التي تنبع من الواقع المؤلم لغياب ذلك الصوت وأخذت تدعو إلى مؤتمر سوري-سوري، وقد كنت أحد هؤلاء وضمّنت اقتراحي بعض مقالاتي، وخاطبت أفراداً، ومؤسسة تعنى بالفكر السياسي، ولكن لا مجيب.. أعتقد أن المؤتمر الذي يشكل صوتاً ثالثاً مهم جداً ويمكن أن يلعب دوراً إيجابياً ويوضِّح أمام المجتمع الدولي إرادة السوريين الحرة.. ويمكن إذا ما تهيأت للمؤتمر ظروف الإنعقاد الحر أن يلعب دوراً إيجابياً في جوهر المرحلة الإنتقالية.
س- ماذا يترتب عن الحل السياسي في سورية وهل من السهولة تجاوز كل التراكمات الحاصلة؟
ج – الحل السياسي كله إيجابيات، وخصوصاً إذا جاء متكاملاً، تضمن وقف القتال وسحب السلاح وتحييد الجيش وإخراج الميليشيات وعودة المهجرين والنازحين وإطلاق سراح المعتقلين والمغيبين قسراً.
س- هل روسيا وهي أكبر حليف للنظام عاجزة برأيكم عن فرض رؤيتها على دمشق؟
ج-ربما ثمة ما يعرقل! إيران مثلاً.. لكن الروس يستفيدون من هذا الأمر لترسيخ مواقعهم السياسية والعسكرية والاقتصادية، وتراهم أحياناً يضغطون وأحياناً يلاطفون.. فما بين تعيين ألكسندر يفيموف ممثلاً للرئيس بوتين (قيل عنه حينها مندوب سام) إلى عدم استقبال وليد المعلم لنظيره سيرغي لافروف، ثمة مساحة تكشف الصراع القائم ولعب الأسد على التناقضات.. لكن الروس في الواقع يفعلون ما تمليه مصالحهم.
المصدر: المرصد السوري لحقوق الانسان