علي محمد شريف
لطالما ارتبط مفهوم الثورة في الوعي الجمعيّ للمجتمعات العربية، بما زرعته وكرّسته المناهج التعليمية والتربوية ووسائل إعلام النظم الاستبدادية من مفاهيم وأفكار مضللة. وبخاصّة تلك التقدّمية منها، إذ غالباً ما كان مفهوم الثورة يقتصر إمّا على النضال ضدّ المحتلّ الأجنبيّ المستعمر للأوطان، أي بما يمكن تسميته بحركة التحرر الوطني الذي يأخذ شكل المقاومة الشعبية بأبعادها المختلفة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ولعلّ الأهم منها المقاومة المسلحة، وإمّا على الانقلابات العسكرية التي مكنت مجاميع من الضبّاط من الإطاحة بالحكومات المدنيّة والوصول إلى السلطة وتسنم مقاليد الحكم.
ولئن كان التحرير وطرد المحتلّ واجباً وطنياً يقتضي الكفاح الذي هو في حقيقته عمل ثوريّ، إلاّ أنّ الانقلابات العسكريّة لا تعدوا أن تكون سلوكاً خيانيّاً ومؤامرة لا تمتّ للثورة بأية صلة، فهي صنيعة أقلية من الطامحين للسلطة والثروة مدفوعين ومدعومين، على الأرجح، من قوى خارجية تضررت مصالحها بوصول حكومات وطنية استحقت قيادة البلاد وإدارة شؤونها بما منحته لها شعوبها من شرعية بإرادة حرّة واعية.
إنّ من أولى الخطوات التي يلجأ إليها الانقلابيّون، حال شروعهم في تنفيذ مؤامرتهم، هي سيطرتهم على وسائل الإعلام ليمارسوا التضليل والتبرير لعدوانهم على الدولة والنظام، ولكي يصوّروا سلوكهم الخيانيّ على أنّه مجرّد استجابة لرغبات الجماهير، وأنّهم ليسوا أكثر من ممثلين لإرادة المدنيين في التغيير باعتبارهم، وهم العسكريّون، طليعة المجتمع وقادة للثورة، ثمّ إنهم، فور نجاحهم بالاستيلاء على مراكز السلطة والحكم، يسارعون إلى إصدار مرسوم للعفو كي يجنبوا أنفسهم المساءلة الجزائية عن جرائمهم التي يطالها القانون.
ومن اللافت والمثير للسخرية أنّ هذه الطغم الانقلابية، المستولية بمحض القوة والمكر على زمام الحكم ومراكز السلطة، تلجأ إلى أسطرة جريمتها الشنيعة وإلى تقديسها وتمجيدها، وإلى إلحاقها بمصفوفة من الصفات والإضافات كاذبة ومضللة، لتغدو ثورة شعبية وتصحيحية ومباركة ومجيدة..، كما تعمد إلى جعل التاريخ المشؤوم لفعلها الجرميّ عيداً وطنيّاً يكره المواطن المغلوب على أمره على الاحتفال به والحمد والتسبيح باسم الطاغية الملهم والدكتاتور المبجّل.
غير أنّ الأخطر يأتي بعد أن يبسط الطاغية سلطته ويحكم سيطرته على جميع مؤسسات الدولة، حيث تبدأ مرحلة تجريف الحقيقة وتحريف الوقائع، وتزوير التاريخ وكتابته بما يخدم رغبة الدكتاتور الصارمة للاستئثار والبقاء في السلطة، وبما ينسجم وصورة المثال المقدّس والتجسيد المطلق للقوة والقدرة والإعجاز الذي تختصّ به الآلهة.
وفق رؤية المستبدّ، وفي محاولة لفبركة رواية تصادق على الزعم بخلوده وبمطلق شرفه ونبوغه وحكمته، تعمل أجهزته الأمنية والعسكرية على حشد القوى وتعبئة كل الطاقات والموارد لتنفيذ خططها، ولعلّ أدوات الإعلام والثقافة والتعليم وميادينها هي الأكثر أهمية وخطورة لخلق صورة مضللة ووعيٍ مزيّف بالواقع في كلّ مفاصله وتجلياته، ولاختلاق أكاذيب وتقديمها على أنها حقائق وثوابت لا يجوز المسّ بيقينيتها المفروضة.
هكذا نجد أنّ الانقلاب بقوّة الدبّابة والمدفع على السلطة الشرعيّة هو بداية لقلب المفاهيم وتزييف الوعي وإنكار الحقيقة، ومقدّمة لنسف الهويّة الوطنية والإنسانية للأفراد والمجتمع، ولتدمير تراثه وحاضره ومستقبله، بحيث يصبح الخائن أميناً على الأمّة وقضاياها، والمجرم قائداً ملهماً، والعميل بطلاَ قوميّاً ورمزاً للمقاومة والصمود..، فيما الوطنيّ الشريف المؤمن بقيم الحرية والعدالة، مطاردٌ بتهم العمالة والخيانة ووهن نفسيّة الأمّة وبالتآمر على النظام الثوريّ التقدّمي، مصيره الاعتقال والتعذيب والقتل، أو النفي والتشريد والتهجير.
إذا كانت الثورة في رأي عديد من المفكرين هي كسر للحلقة الصلبة المغلقة على مجموعة متحالفة من أصحاب المصالح المحتكرين لمصادر الثروة والسلطة، فإنّها في رأي آخرين فعل وحراك شعبي يهدف إلى التغيير الجذري السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وبالرغم من أنّ البعض ينفي عن الثورة وصفها إذا رافقها العنف ويشترط الالتزام بالوسائل والأدوات السلميّة للتغيير، لكنّ هذا الاتجاه في الحقيقة يتجاهل طبيعة الأنظمة الاستبدادية وبنيتها الأمنية والعسكرية المتوحشة التي لا يمكن لها إلاّ وأن تصبغ بياض الثورة برماد الحرائق، وأن تغرق مطالبها الورديّة في مستنقع الدم، فهذه السلط بإرثها الدمويّ وبتاريخها الموغل في المجازر تعلم يقيناً مصائرها المظلمة فيما لو تسنّى للضحايا والمظلومين والناس الأنقياء امتلاك ناصية العدالة وأصبحت قضاياهم المحقة على منصّة القضاء النزيه العادل.
لم تنته الثورة السوريّة الكبرى بعد. إنّ جلاء المستعمر الفرنسيّ لم يمنح سوريّا استقلالها الحقيقي، فالاحتلال ما زال قائماً إنما من خلال وكلائه ومندوبيه المحليين، وهو أشدّ خطورة ووحشيّة وقسوة لأنّه يتقنّع بوجوه تدّعي الانتماء إلى الوطن، إنّ حرية سوريا وامتلاك قرارها الوطنيّ يوجب على الشعب الاستمرار في ثورته، واستكمال مهام التحرير والتغيير باقتلاع نظام الإجرام الأسدي وشركائه لأنهم ركائز المستعمر، قديمه وجديده، فبدون زوال الاستبداد والطغيان لا يمكن استعادة الوطن العزيز المستقلّ وإعادة كتابة التاريخ الحقيقي لسوريا، كما لا يمكن إعادة بناء الدولة المنهارة وإعادة بناء الإنسان.
المصدر: اشراق