حازم نهار
في أواسط عام 2011، في استديو خاص بقناة فضائية غربية، سألتني المذيعة، قبل الظهور على الهواء بنصف ساعة تقريبًا، على سبيل “الدردشة”: ما الذي تريد أن تتحدث عنه في اللقاء، والرسائل التي تريد إيصالها للمشاهدين؟ فأجبتها، وهي المتعاطفة مع السوريين: سأتحدث عن سورية، وعن حلمنا بتغيير الأوضاع المتردية، وبناء وطن ديمقراطي، وتحقيق العدالة، وأشياء أخرى من هذا الوزن.
ابتسمت قليلًا، وقالت: أنصحك ألّا تتحدث في هذه الأمور الكبيرة. استغربتُ النصيحة، وسألتها عن أي شيء سأتحدث إذًا؟ قالت: حدِّثهم عن نفسك، تجربتك، معاناتك… إلخ، فضحكت مستهجنًا: لم آتِ إلى هنا لأتحدث عن نفسي، أصلًا أخجل أن أتحدث عنها في وقتٍ يمرُّ فيه بلدنا وأهلنا بأسوأ حال. أجابتني: إذًا لن تصل رسائلك، ولن يتعاطف معك المشاهدون. في الغرب لا يهتمون بالاستماع إلى القضايا الكبرى، وأحيانًا لا تعنيهم، هم يهتمون بالفرد، وعندما يتعاطفون مع الأفراد، يهتمون بقضاياهم.
سار اللقاء، وقتها، وفق صيغة تجمع نوعي الحديث؛ حديث عن القضايا الكبرى التي تشغلنا، وشيء من الحديث عن التجربة الذاتية. في ثقافتنا، عندما يتحدث المرء عن نفسه، يتكون لدينا، عمومًا، شعور غير مريح تجاهه، أو يمكن أن نكرهه أيضًا، ومن الشائع جدًا أن الفرد عندما يُضطر إلى استخدام كلمة “أنا”، يُتبعها سريعًا بعبارة “وأعوذ بالله من كلمة أنا”، تعبيرًا عن رغبته في إظهار التواضع، أو ربما لمعرفته بالوقْع السيء للكلمة عند المستمع، ومن ثمّ خوفه من رقابة المستمع/الآخر على كلامه أو “أناه”.
ذكرني هذا الحديث، وقتها، بعلاء الدين نجيب، بطل رواية “عالم بلا خرائط” لعبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا؛ علاء الدين نجيب هذا مناضل سياسي وروائي معروف في مدينته “عمورية”، أحب امرأة من نور ونار، نجوى العامري، عجنته وطحنته ونثرته؛ كان حبُّه لها يشبه ذاك الذي تحدث عنه نزار قباني في قصيدته “زيديني عشقًا”: الحب الذي أخذه إلى حدود الشمس، ونثره كغبار الذهب المطحون، ودهَسه مثل حصانٍ قوقازيٍّ مجنون.
أطلق الحب روح “المناضل” علاء الدين نجيب، وحرّرها من رتابتها، ليقول في إحدى تجلياته: لقد شغلتني القضايا الكبرى، لأكتشف في المآل أن القضايا الصغرى هي التي حدَّدت مسار حياتي. كان علاء يخشى التعبير عن نفسه أو “أناه”؛ فقضاياه الكبرى تجعل حضور الجماعة والحزب في حياته وحديثه مركزيًا، فيما الذوات الفردية وهواجسها ورغباتها غير مهمة أو لا قيمة لها.
ربما كان هذا واحدًا من الأسباب الرئيسة أصلًا لوصول القضايا الكبرى إلى طرق مسدودة. ألم تكن أحزابنا السياسية، مثلًا، قاتلة للأفراد والذوات؟! ألم تضع أحزابنا نصب عينيها إعادة إنتاج أعضائها وبرمجتهم وفق تعاليم الأيديولوجية وأوهامها؟! لتكون الحصيلة طمس الفروق ومحو التباينات بين الأفراد، تمامًا مثل معمل الزجاج الذي ينتج كؤوسًا بمقاس واحد؛ يصبح أفراد الحزب، طوعًا أو قسرًا، متشابهين، يذوبون، وتمّحي ذواتهم لمصلحة الجماعة الحزبية، متحولين إلى مسوخ أو أرقام لا قيمة لها.
إذا كان هذا هو حال الجماعات الحديثة، فلنا أن نتخيل أدوار الجماعات الموروثة التي تسحق أفرادها وتطحنهم وتحشرهم بين أسوارها؛ القبيلة، الطائفة، الإثنية؟! في الحقيقة، إن شخصية الفرد لا تُستنفد في أي جماعة، وإن كل عضوية لهذا الفرد في أي جماعة تمثِّل وجهًا من وجوه شخصيته فحسب. من ثمّ، فإن الجماعة الصحية هي تلك التي تنطلق من الاعتراف بالفرد واحترام خصوصيته وذاتيته.
في زمن مضى، كان لدي صديق، مناضل حقيقي، بل محارب، ليبرالي ويساري في آن معًا، جميل وحنون وعاطفي، في داخله حبٌ وفرحٌ كبيران، روحُه عاشقة للحياة والبشر على طول الخط، ولا يعرف إلا الابتسام. لكن، كنت أشعر، في السهرات العامة، أنه يتحوّل إلى كائن خشبي، يكون سعيدًا بالناس وبفرحهم وغنائهم ورقصهم، لكنه لا يتحرك عن كرسيه.
في إحدى السهرات، أصرّت ابنة صديق لنا، عنيدة وذكية وجميلة، على دعوته إلى الرقص. ارتبك، رفض بشدة.. رفض مرات عدة.. لكنها أصرت وأصرت. جاملها مرغمًا، وسار أخيرًا وفق نغمتها، وأخذ يحرِّك جسده قليلًا وببطء، وهو ينظر نحونا. كنت أنظر إليه، شعرتُ أنه أقرب إلى “روبوت” أو رجل آلي في حلبة الرقص.
بعد ساعة اختلفت حركاته، أصبحت رشيقة قليلًا. بعد ثلاث ساعات، أصبح صديقي نفسه يدعو الأخريات إلى الرقص، حتى أنه قليلًا ما جلس معنا إلى الطاولة.
جلس معنا قبل نهاية السهرة، فسألته: أين كنت تخبئ هذه المواهب يا صديقي؟ أجابني: كنت أشعر بالارتباك كلما حاولت الحركة والرقص.. كنت أتخيل لينين وتروتسكي وجورج بوش، وغيرهم، يقفون في الزاوية مستنكرين عليَّ حركتي وفرحي أو ساخرين من “تفاهتي”، فأتجمّد في مكاني، وأقمع روحي، ثم أهمد وأتبلّد.
ربما يكمن السبب في الأيديولوجيا أو التربية أو العادات أو البحث عن صورة خارجية مقبولة وفق المعايير السائدة، متخمة بالرزانة، والبلادة أيضًا، أو غير ذلك. لكن المهم أنها كلها تتحوّل، بمرور الزمن، إلى سوار غليظ يحيط بروح الفرد، ويمنعها من التعبير عن نفسها بلا خوف أو قلق من رقابة الآخرين. وربما لأجل ذلك، تسود صورة عن المثقف/ السياسي أنه لا يضحك، ولا يعرف النكتة، ولا يسعد بها. إذا كان هذا ما تفعله الأيديولوجيا والتربية والصور المجتمعية المصطنعة والزائفة بالفرد، فما الذي يمكن أن تفعل بالدول والمجتمعات؟!
بعد إصابته بالسرطان، وبعد وقفة التأمل والمراجعة التي امتدت عشر سنوات لم يكتب فيها شيئًا، تحوَّل سعدالله ونوس إلى “كشّاف بواطن” مهجوس بالإنسان والفرد والذات، لكن من دون التخلّي عن رؤية السياسي والاجتماعي؛ لقد وسّع ساحة التفكير لتطال كل شيء، برؤية جسورة في الكشف والتعرية. ففي أثناء تداويه من جراح النفس والجسد، قدّم ونوس أهمَّ مسرحياته وأكثرها إيلامًا وكشفًا؛ مسرحيات مدهشة في مناخاتها الأخّاذة، وأحداثها التي تتمركز حول “الأنا” التي لم تعد تُعلن عن وجودها وحضورها بخوف، بل أصبحت ترفع صوتها عاليًا. إنها وقفة جريئة وصادقة مع الذات، ومع الثوابت والمعايير والضوابط والمحرمات، ومع الحياة.
“طقوس الإشارات والتحولات”، مسرحية كتبها في عام 1994، وتتحدّث عن عاصفة تحوّلات شهدتها شخصيات أرستقراطية دمشقيّة في مجتمع القرن التاسع عشر، وقد ذُكر في مقدّمة المسرحية عن أبطالها: “إنّهم ذوات فرديّة تعصف بها الأهواء والنوازع وترهقها الخيارات، وسيكون سوء فهم كبير، إذا لم تُقرَأ هذه الشخصيّات من خلال تفرّدها وكثافة عوالمها الداخلية…”. فالعالم الداخلي للإنسان الفرد كثيف ومعقد، ولا يمكن اختزاله أو تنميطه أو حشره في بعد واحد، غالبًا ما يكون مزيفًا وهشًا وظالمًا، كما هو حاصل غالبًا.
في سياق الأحداث، تتحوّل الشخصيات، وتتوجه إلى مصائر جديدة؛ تنفلت من بيئة مجتمعية صاغت علاقات أفرادها وفق نمطية راسخة تميل إلى الفضيلة الزائفة وحراسها، على حساب الصدق والمشاعر الفردية. يُسيّر ونّوس شخصياته القلقة تلك على درب تحولات الجسد والنفس، مع ما يفتحه هذا الطريق من تغيرات اجتماعية وسياسية.
عاشت “مؤمنة”، بطلة المسرحية، في بيتٍ توطّنت فيه روائح الدين والنفاق في آن معًا. حصلت على طلاقها من زوجها نقيب الأشراف، وبدأت طقوس تحوّلاتها؛ بدأت حياة جديدة، واتخذت اسمًا آخر، ألماسة. رغبت في تجاوز زيف بيئتها، فتحوّلت إلى غانية محترفة، يرغبها الجميع، واشتهرت في المدينة كلها. إنها تتوق لتصبح “ظاهرة تقلقل وتخلخل علاقات المدينة وبنيتها الدينية الساكنة”. أما زوجها، نقيب الأشراف، فقد تحوّل، بعد الطلاق، إلى درويش من دراويش أهل الصوفيّة.
تقيم “ألماسة” علاقة مع المفتي الذي يجرِّب اللذة معها بكثيرٍ من فنون العشق والهوى. يتعلق بها المفتي، ويعرض عليها الزواج، فترفض. ويسألها: ما أنت أيتها المرأة! ماذا تريدين، وعمَّ تبحثين؟ تجيبه: إني أبحث عن شيء لا يمكن أن يفهمه رجلٌ مطمئن النفس مثلك. وتتابع “حيث أتأرجح على الحافة، وتناديني الهاوية، يُخيّل إليَّ أنه، وفي لحظة سقوطي، سينبتُ من مسامي ريشٌ ملون. من جذور نفسي سيطلع الريش مزدهرًا ومكتملًا، وسأحلِّق في الفضاء كالطيور والنسائم وأشعة الشمس”.
ماذا تريد ألماسة؟ تعبِّر عن رغبتها في مكان آخر: “أحلم أن أصل إلى نفسي، وأن أكون شفافة كالزجاج. ما تراه العين مني هو سريرتي، وسريرتي هي ما تراه العين مني”…. “أول المقامات في رحلتي هو أن أرمي وراء ظهري معاييركم. ينبغي أن أتحلَّل من أحكامكم، ونعوتكم، ووصاياكم كي أصل إلى نفسي”. يُهدّدها أخوها صفوان بالقتل، صونًا لشرف العائلة، فتجيبه: “أنا يا صفوان حكاية، والحكاية لا تُقتل، أنا وسواس وشوق وغواية. والخناجر لا تستطيع أن تقتل الشوق والوسواس والغواية”.
في ثقافتنا السائدة هناك نقطة ضعف رئيسة، تتجلى في إنكار مفاهيم “الفرد” و”الذات” و”الأنا”؛ ما يعني، في الحصيلة، ضمور مفهوم الإنسان بوصفه قيمةً عليا، وبدلًا منها هناك حضور كثيف لحالة “كتلية” أو “جماعية” مرضية، وهذه تتوافق مع التكوينات العشائرية والقبلية والطائفية والإثنية التي تقتل أفرادها وتخنقهم، وتنمِّي فيهم سلوكًا “جماهيريًا” يرتكز على الغرائزية والشعبوية في السياسة، وسلوكًا “نفاقيًا” في الحياة الاجتماعية، يرتكز على الدفاع المستميت عن التقاليد كلاميًا، وممارسة غيرها واقعيًا.
المصدر: المدن