ستيفن فيرتيم*
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
قبل ثمانين عامًا، اتخذت الولايات المتحدة قرارًا مأساويًا بالسعي إلى الهيمنة العالمية. وقد تجاوز عمر المشروع الغرض منه.
أياً كان الرئيس المقبل للولايات المتحدة، فإنه لن يقرر مستقبل دور أميركا في العالم. جو بايدن لا يدرك أن هناك مشكلة من الأساس. والرئيس ترامب ليست لديه إجابات.
الآن بعد ثلاثة عقود من “حقبة ما بعد الحرب الباردة” التي ما تزال تحمل اسم الحقبة التي سبقتها، لا تمتلك الولايات المتحدة أي هدف محسوس متقاسم على نطاق واسع ويتم الشعور به بعمق لكونها قوة عالمية هائلة. وتحتل الهيمنة المسلحة الأميركية اليوم موقعًا مشابهًا لموقف الهجرة الليبرالية، أو التجارة الحرة، أو التأمين الصحي الخاص قبل عقد من الزمن. ومع أن النخب السياسية اعتبرتها أمراً مفروغاً منه، فإنها أصبحت ناضجة لمناقشتها وتحديها تحت السطح.
أحد مصادر التحدي يأتي من التجربة الحديثة: لقد أسفرت حروب أميركا عن إشاعة الفوضى في جميع أنحاء الشرق الأوسط الكبير وأعادت العنف ذا الصبغة العسكرية إلى الشوارع الأميركية. وهناك مصدر محتمل آخر: مع قيام الليبراليين والمحافظين بمراكمة الديون، فإنهم سيواجهون ضغوطًا لخفض المبلغ الهائل الذي يزيد على تريليون دولار سنويًا الذي ينفق على الأمن القومي.
لكن التحدي الأكبر والأكثر عمقاً متجذر في الماضي. إذا لم يعد الكثير من الأميركيين يفهمون سبب وجوب اضطلاع بلدهم بمهمة المراقبة الشُّرَطية على العالم، فذلك لسبب وجيه: لقد تجاوز بقاء التفوق العسكري للولايات المتحدة غايته الأصلية.
قبل ثمانين عامًا، بينما كانت تستعد لدخول الحرب العالمية الثانية، اتخذت الولايات المتحدة خيارًا مصيريًا -ليس بالسعي إلى تحقيق التفوق العسكري فحسب، وإنما بالحفاظ عليه لفترة طويلة في المستقبل أيضاً. وهذا القرار، المأساوي حتى في ذلك الحين، أصبح الآن مُقعِداً وسبباً للجمود. لقد جعل قادة أميركا ينظرون إلى الهيمنة المسلحة على أنها الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تتواصل الولايات المتحدة من خلالها مع العالم.
الآن يتوق كلا المرشحين لمنصب الرئيس إلى استعادة قوة أميركا المدّعية لنفسها الصلاح حول العام 1945 -السيد ترامب بترشيحاته للجنرالات باتون وماك آرثر، والسيد بايدن بتعهده بالدفاع عن “النظام الدولي الليبرالي” لما بعد الحرب. وهذا الحنين إلى الماضي هو بالتحديد سبب عدم قدرتنا على مواجهة مشاكل اليوم التي ترجع في أصولها إلى أعظم لحظاتنا كأمة.
* * *
ما تزال ذكرى يوم 7 كانون الأول (ديسمبر) 1941 تعيش كحدث مجلل بالعار، باعتباره التاريخ الذي هاجمت فيه اليابان ميناء “بيرل هاربر” ودفعت الولايات المتحدة إلى التورط في الحرب العالمية الثانية. وبحلول ذلك الوقت، كان قادة الولايات المتحدة يخططون مسبقاً لتهيئة أميركا لتكون القوة العظمى المتفوقة في الحقبة المقبلة. وكان حدث مذهل وقع قبل 18 شهرًا من ذلك التاريخ -سقوط فرنسا في يد ألمانيا النازية- هو الذي دفعهم إلى اتخاذ قرار الهيمنة.
عندما تداعت فرنسا في غضون ستة أسابيع، بسط أدولف هتلر سيطرته فجأة على أوروبا. وسرعان ما انضم إلى إيطاليا الفاشية واليابان الإمبراطورية لتشكيل تحالف “المحور”. ولأول مرة، واجه الأميركيون احتمالًا موثوقًا بأن القوى الشمولية الاستبدادية يمكن أن تصعد إلى الهيمنة في أوروبا وآسيا. ووافق الكونغرس بسرعة على تنفيذ تحشيد عسكري واسع النطاق وعلى أول عملية تجنيد على الإطلاق في وقت السلم.
ومع ذلك، أدرك المراقبون أقوياء الملاحظة أن الولايات المتحدة كانت في وضع مثالي تُحسد عليه. واعترف كاتب العمود، والتر ليبمان، بذلك عندما انهارت فرنسا: “سوف لن نتعرض للغزو”. سوف تحبط المحيطات، مدعمة بالدفاعات الجوية، أي هجوم على الولايات المتحدة من خارج نصف الكرة الأرضية الغربي. وكان اقتصاد البلاد مكتفيًا ذاتيًا، خاصة بعد “الكساد العظيم”، لدرجة أنه لم يكن يعتمد على التجارة الخارجية.
لهذه الأسباب، أراد بعض الأميركيين حماية نصف الكرة الغربي بأكمله من أي هجوم خارجي، وإنما لم يكونوا يريدون الذهاب أبعد من ذلك. وسرعان ما التأم تحالف انتقائي -والذي ضم الاشتراكي الديمقراطي نورمان توماس، والرئيسين المستقبليين جون إف كينيدي وجيرالد فورد، والطيار المعادي للسامية تشارلز ليندبيرغ- تحت شعار “أميركا أولاً”. وكان هؤلاء يأملون في تعزيز نزعة النفور الأميركي التقليدي من أي تشابكات مع “العالم القديم” (الذي ربما ما يزال بإمكانه مقاومة حكم “المحور” وحده من دون تدخل أميركي)، والحفاظ على “العالم الجديد” كحصن للحرية.
لكن معظم نخب السياسة الخارجية توصلوا إلى وجهة نظر مختلفة. صحيح أن الولايات المتحدة يمكن أن تظل آمنة من خلال توجيه دفتها بعيداً عن سياسات القوة الأوروبية. ومع ذلك، طمحت أميركا، أو طبقتها الحاكمة، إلى المزيد. لقد رغبت في التفاعل وإجراء المعاملات عبر جميع أنحاء العالم وتحديد اتجاه تاريخ العالم. وفي الواقع، كانت هيمنة دول “المحور” لا تهدد أراضي الولايات المتحدة بقدر ما كانت تهدد رؤيتها التوسعية لنفسها. وأعلن الرئيس فرانكلين روزفلت في حزيران (يونيو) 1940 أنها إذا ما قُيدت وتقوقعت، فإن أميركا ستصبح “جزيرة وحيدة في عالم تهيمن عليه فلسفة القوة”. ومثل هذا المصير، كما حذر، سيترك الشعب الأميركي “محتجزًا في سجن، مقيّد اليدين، جائعاً، يقوم بإطعامه من خلال القضبان من يوم إلى يوم سادة القارات الأخرى المزدرون الذين لا ينطوون على أي رحمة أو تعاطف”.
بينما تحدث روزفلت، كانت الولايات المتحدة آمنة ومزدهرة ومهيمنة إقليمياً. أما الآن، بعد أن أثبتت القوى الشمولية كونها قادرة على تحقيق السيادة في أوروبا وآسيا، فقد بدت قيادة نصف الكرة الغربي وكأنها “عزلة”، بل وحتى سجن. لم يعد بإمكان الولايات المتحدة أن تبشر بالدخول في عالم جديد وأفضل ما لم تحصل على القوة العسكرية اللازمة لفرض سلطتها. وحتى لو أن النازيين فشلوا في تحقيق الأسبقية والهيمنة، فمن هو الذي قد يحاول تالياً؟ من الآن فصاعدًا، ستحمل الولايات المتحدة السلاح -ليس من أجل إلحاق الهزيمة بطغاة اليوم فحسب، وإنما أيضًا -وبشكل خاص- لردع مستبدي الغد.
فهم الخبراء أن الهيمنة العالمية ستأتي بثمن باهظ: الحرب الدائمة، وتحول أميركا إلى ما يشبه الإمبراطورية. وكانت “هيمنة الولايات المتحدة والإمبراطورية البريطانية على العالم” هي الطريقة التي لخص بها المحلل العسكري هانسون بالدوين رؤية زملائه المخططين في العام 1941. ولم يكن المفكرون العامون أقل جرأة على الإفصاح عن العواقب. وأشار قطب النشر، هنري لوس، في مقاله الذي أعلن فيه عن “القرن الأميركي”: “قد تتطلب أنظمة الطغيان مقداراً كبيراً من مساحة العيش. لكن الحرية تتطلب، وسوف تتطلب، مساحة للعيش أكبر بكثير من الطغيان”.
* * *
على مدى نصف قرن، حققت القيادة الأميركية الأهداف التي حددتها لنفسها. حققت الولايات المتحدة انتصارات مطلقة على دول “المحور” في العام 1945 وعلى السوفيات في العام 1991، حتى بينَما شنّت أعمال عنف مستمرة ضد الغواتيماليين والفيتناميين وغيرهم. وطالما حاول الشموليون كسب الأرض، مهددين بإغلاق العلاقات الليبرالية وتخريب “النظام العالمي”، احتفظت الولايات المتحدة بتسويغ منطقي متماسك لسعيها المكلف إلى الهيمنة المسلحة: نحن أفضل منهُم.
عندما انهار الاتحاد السوفياتي، نادراً ما فكر المسؤولون في الانسحاب وتقليل عمليات الانتشار والالتزامات الأميركية. بل على العكس من ذلك، قاموا بتوسيعها. وبدا أن الحلم الأصلي للعام 1945 –حلم خلق عالم واحد موحد تحت إشراف أميركي ويتبع الشروط الأميركية- قد وصل أخيرًا. من يستطيع أن ينكر ذلك في “النظام العالمي الجديد” الذي أعلنه الرئيس جورج إتش. بوش وهو يستعد للحرب على العراق “لا بديل عن القيادة الأميركية”؟ على أي حال، تمت تسوية روسيا بالأرض. وظلت الصين فقيرة. وخفضت الولايات المتحدة إنفاقها العسكري، لكنها خرجت من عقد التسعينيات باعتبارها ذلك العملاق العالمي الهائل.
ومع ذلك، مرت العقود ولم ينشأ أي منافس شمولي ليحل محل الأعداء السابقين. كان أعداء أميركا الجدد بالكاد قادرين على اكتساب قوة عالمية هائلة، بغض النظر عن كيفية تضخيم قادة الولايات المتحدة لدول ضعيفة باعتبارها “محور الشر”، أو التهديد الإرهابي باعتباره “الفاشية الإسلامية”. في بواكير القرن الحادي والعشرين، إذا كان ثمة قوة سعت إلى الهيمنة على العالم، وإكراه الآخرين والاستخفاف بالقواعد، فقد كانت الولايات المتحدة. بدأ التفوق الأميركي، الذي تم إنشاؤه لتمكين الانخراط والمشاركة عبر الحدود، في عرقلة تلك المشاركة. اليوم، تنشر الولايات المتحدة قواتها في أكثر من 170 دولة. ويعمل جيشها ضد الإرهاب في حوالي 40 في المائة من دول العالم. وتستهدف العقوبات الأميركية عشرات الدول.
الآن يعترف الكثيرون في واشنطن بوجود تجاوزات. وقد تعهد السيد ترامب والسيد بايدن على حد سواء بجلب الحرب التي لا تنتهي إلى نهاية. وفي الوقت نفسه، يحدد القادة في كلا الحزبين الصين على أنها الخصم الذي كانت الولايات المتحدة غافلة عنه -إنها قوة شموليّة توسعية ومشفرة، والتي يمكن أن يؤدي احتواؤها إلى استعادة الغاية للقوة الأميركية. ومستشهداً بـ”أيديولوجية الصين الشمولية المفلسة”، يبشر وزير الخارجية مايك بومبيو بفجر جديد للقيادة الأميركية. وقال في تموز (يوليو): “إن تأمين حرياتنا من الحزب الشيوعي الصيني هو مهمة عصرنا”.
أهي كذلك حقاً؟ إن الصين دولة سلطوية آخذة في الصعود، لكنها بالكاد ألمانيا النازية أو روسيا السوفياتية. فالصين منفتحة أمام الأعمال، سواء كان بشروط عادلة أم لا؛ وهي أكبر دولة تجارية في العالم ومرشح غريب حقاً لتشكيل خطر استبدادي يضم نشاطه زوايا الأرض. فعلى عكس منافسيها في القرن العشرين، امتنعت الصين منذ فترة طويلة عن الغزو المسلح. وعلى الرغم من أنها تهدد تايوان، فإن أحداً لا يعتقد أنها توشك على غزو حلفاء الولايات المتحدة مثل كوريا الجنوبية أو اليابان.
كان هناك وقت اعتقد فيه الأميركيون أن الهيمنة المسلحة أعاقت وأفسدت المشاركة الحقيقية في العالم، ناهيك عن كونها أساسه. لكن ذلك الاستبصار دُفن وانتهى، وربما أصبح الآن أبعد الذاكرة الحية تقريباً. لكنه ربما لم يذهب جملة وتفصيلاً. *Stephen Wertheim: نائب مدير البحوث والسياسات في معهد كوينسي لفن الحكم المسؤول، وباحث في معهد سالتزمان لدراسات الحرب والسلام بجامعة كولومبيا. وهو مؤلف الكتاب المقبل “الغد، العالم: ولادة التفوق العالمي للولايات المتحدة” Tomorrow, the World: The Birth of U.S. Global Supremacy، الذي تم اقتباس هذا المقال منه.
*نشر هذا التقرير تحت عنوان: America Has No Reason to Be So Powerful
المصدر: (نيويورك تايمز) / الغد الأردنية