أحمد العربي
إبراهيم الجبين كاتب متنوع الإنتاج، سوري مستقر في بلاد الاغتراب، متميز في كتاباته، هذه الرواية الثانية التي أقرأها له. بعد “عين الشرق”. يوميات يهودي من دمشق رواية كتبت ونشرت أول مرة عام ٢٠٠٧م. وهي تتناول موضوعا ذا طابع إشكالي، مجرد ذكر كلمة يهود أمامنا، تجعلنا نتحفّز نفسيا و نستحضر في ذاكرتنا القريبة والبعيدة؛ ماذا فعل الصهاينة في بلادنا فلسطين وبلاد العرب المحيطة بها ؟ يشد الإنتباه أكثر بدءاً من عنوان الرواية “يوميات يهودي من دمشق”. هذا يعني أننا أمام اليهود في سورية، في وقت ما.
بصراحة إنه موضوع مثير، ويدفع لقراءة الرواية بروح التشوق لمعرفة هذا الموضوع المهم بالنسبة لنا، عن اليهود، وهو موضوع حميم أيضاً، فهو يتحدث عن دمشق، وهي أمنا التي ترعرعنا فيها وعلى ضفافها، وقد كانت ذاتنا التي عرفنا قيمتها بعدما، طُردنا منها، كما طرد آدم وحواء من جنتهم السماوية.
تبدأ الرواية من “إخاد” اليهودي ابن مدينة دمشق، والذي عاش فيها أباً عن جد، رافضاً الالتحاق كأغلب اليهود بدولتهم التي صُنعت بإرادة دولية، دولة الصهاينة في فلسطين التي لم ينتم إليها إخاد في يوم من الأيام، بل ظل يسمي وجوده في دمشق بالـ “هنا” ودولة الصهاينة بالـ “هناك”.
لإخاد صديق عربي مثله، ابن لدمشق أيضا وهو إبراهيم، كاتب الرواية، وهو بهذا الشكل سيكون أحد أبطال روايته، إن لم يكن بطلها الأساسي، فالرواية تتناول محاور عدة، وكلها تلتقي عند إبراهيم.
نتابع من خلال العلاقة بين ابراهيم وإخاد، ولقاءاتهما وحواراتهما، تفاصيل واقع يهود دمشق، ونكتشف أن لهم جذوراً عميقة تاريخياً، لهم بيوتهم وكُنسهم وتجمعاتهم، وحياتهم التي عاشوها، سنكتشف أيضاً أن اليهود السوريين والعرب عموماً، لم يكونوا على رأي واحد من بناء دولة الصهاينة في فلسطين، البعض وجدها جنّته الموعودة، وذهب إليها بعد إعلانها مباشرة، بإرادته أو رغماً عنه. والبعض استمر في بلاده التي يعرفها، والقليل منهم ندد بالدولة الصهيونية الغاصبة، وأعلن موقفا عدائيا حيالها.
يتابع إبراهيم حياة إخاد وأختيْه العانسين، ويدخل معه في حوارات كثيرة، يتوغل في العمق التاريخي لتواجد اليهود في دمشق، بالعودة الى دور اليهود العلمي في الحضارة الاسلامية في الأندلس، عبر شخصية موسى بن ميمون وكذلك في بلاد الشام منذ الامويين والعباسيين وما بعد ذلك، كذلك التاريخ الحديث.
يتعرّف إبراهيم من خلال إخاد على إرث يهودي تحت البيوت وفي مخازن عمرها مئات السنين، في دور العبادة، ومن خلال المخطوطات الكثيرة، الآثار المخبأة تحت أحجار دمشق القديمة التي يصفها إبراهيم وكأنها مدناً متراكبة فوق بعضها البعض، تحوي طبقات متعاقبة ومتجاورة نشأت عبر تاريخها الطويل. يتعرف إبراهيم على بعض طقوسهم، ويشير بتشكيك إلى قصة ذبح أحد الرهبان المسيحيين وصنع الخبز المغمس بدمه، في طقس فطير صهيون.
إبراهيم يعيش حياة منفتحة في علاقاته النسائية، كلها يحياها تحت مسمى حب، لكنه منغمس بالجسد وغرائزه، والحب عنده متعدد على عدد النساء اللواتي أحبهنّ. أحب ليندا اليهودية والتقاها في كثير من الأماكن وكانت بينهما علاقة جسدية، كذلك نور وسواها. سنتجول مع إبراهيم و إخاد في دمشق ومعالمها الموغلة بالقدم، وفيها المعابد العبرية والمسيحية والإسلامية متجاورة. قبر الشيخ محيي الدين ابن عربي، ومغارة الأربعين، ليحضر التاريخ بكل تفاصيله في كل عطفة وشارع في دمشق.
في الرواية مسار آخر مختلف يتناوله الكاتب الراوي، حيث يصف كيف التقى بصديقه محمد نيازي، الذي نطل من خلاله على واقع الجماعات الجهادية الاسلامية، ونحن في زمن التجييش الإسلامي من أجل الجهاد ضد السوفييت في أفغانستان. ثم وبعد زمن يتحول العمل الجهادي ضد الأمريكان الذين موّلوه ودعموه، ليصنع الجهاديون غاراتهم على برجي مركز التجارة العالمي في مانهاتن عام٢٠٠١م اللذين دمرهما المتطرفون بطائراتهم المدنية “الجهادية”، لتكون فاتحة لإحتلال أفغانستان ومن ثم العراق. وهنا يصف إبراهيم مشهداً يصوّره في وسط مركز التجارة المدمّر والذي عرف بالغراوند زيرو في نيويورك.
يتابع إبراهيم تحولات صديقه نيازي الداعية الجهادي التكفيري، ودعوته للشباب للذهاب الى افغانستان والعراق وقتال الأمريكان الكفار. لنطل على علاقات نيازي الاستخبارية، وتحوله الغرائبي إلى داعية سلام ووئام واحترام لعقائد الناس وأديانها. حيث يتضح هنا الاستثمار الغربي المشترك مع الانظمة العربية للظاهرة الاسلامية الجهادية، سواء عبر رعايتها وتوجيهها، أومحاربتها، كل ذلك لخدمة مصالح كل طرف، المباشرة منها والبعيدة المدى.
ينتقل إبراهيم في حديثه عن صديقه اليهودي إخاد واختيه راحيل وزينب العانسين، اللتين لم تغادرا الى الكيان الصهيوني، زينب التي أحبت مسيحيا، كان قد تحول الى راهب واعتكف في أحد الأديرة، ويروي لنا إبراهيم مغامرته معهما وكيف استطاع جمع زينب به بعد غياب سنوات طويلة. كذلك يحدثنا عن بعض اليهود ممن لم يستطع التكيف “هناك” في الكيان الصهيوني ويتتابع عودته الى دمشق. سينتقل إبراهيم في كثير من الأمكنة وحكاياه تسكنه، دمشق ذاته الحاضرة فيه دوما، بتنوعها الديني والمجتمعي، تتجاور بقبول متبادل عبر مئات السنين.
سيلتقي مجددا بإخاد في أمريكا في إحدى زياراته ليعيدا سيرتهما الاولى. سيصل الى استنتاج أن العصر القادم هو عصر هيمنة اليهود؟!!، وكأنه يقرأ المستقبل الذي نعيشه الآن، حيث نستطيع القول دون مواربة أننا نعيش “العصر الإسرائيلي” من خلال الركض للتطبيع معها، مع بيع القضية الفلسطينية في سوق الإهمال والنسيان.
تنتهي الرواية وإبراهيم ما يزال يعيد تجميع خيوط أبطال روايته، إخاد الذي أصبح “أرون” وأصبح صاحب دور وحضور في المشروع اليهودي العالمي، ذاكرة حب إبراهيم لليندا ونور، صديقه نيازي الجهادي العالمي الذي وصل الى غوانتنامو، وعاد ليكون جزء من خطط “النظام العالمي” في التعاطي مع موضوع الاسلام الجهادي. لنكتشف أن لا شيء كان بالصدفة وأن كل شيء مدروس.
في تحليل الرواية أقول:
إن إبراهيم الجبين في هذه الرواية يجمع بين الكتابة الروائية السردية، وتقنية اللقطات السينمائية المتنوعة التي تخدم ذات الموضوع وذات الإتجاه. لسنا أمام سرد روائي متنامٍ يصل إلى مراد الراوي عبر إنضاج النص رويدا رويدا. لا يحصل ذلك في رواية “يوميات يهودي من دمشق”. السرد متنوع لأطراف عدّة، والزمان يذهب ويعود بين ماض يحضر، وبين حاضر يصبح ماضيا، الثابت الوحيد في الرواية هو إبراهيم وحضوره الذاتي عبر تداعياته التي يصوغها في النص الروائي بين يدينا.
الرواية تومئ عن معرفة عميقة متنوعة عند إبراهيم الجبين بتاريخ الأديان، بدمشق وعصورها المتراكبة والمتجاورة، بالعالم الذي نعيش، بالذات والحب وحضور الأنا الفردي عند كل إنسان منّا على أنه محور العالم، دون تواضع، على الأقل كما يضمر كل منا بنفسه، والإعتراف بالجسد وحقوق الحب الكثيرة المتنوعة، وكأنه الأصل الذي تحاول الأديان والقيم والعادات تقييده وضبطه. لكنه لم ينضبط.
رسالة الرواية واضحة: الاعتراف بأن بلادنا مهد لكل الرسالات السماوية، وفيها منذ مئات السنين من ينتمون لهذه الرسالات، وأن الواقع الطارئ بوجود الكيان الصهيوني لا يغير حقيقة هذا التواجد والتعايش. لكن الحقيقة مؤلمة فواقع الكيان الصهيوني، قد شرّد ملايين الفلسطينيين، وبنى دولة الكيان الصهيوني “إسرائيل”هي الأقوى في المنطقة على جزء من فلسطين، وهي تحت الرعاية الأمريكية، وحاربت العرب واحتلت ارضهم، وتحولت الآن الى قبلة للأنظمة للاعتراف بها ونيل رضاها ورضى الأمريكان ورعايتهم، كما توقعت الرواية.
لا يغيب عنّا ايضا كيف أشارت الرواية إلى صناعة الإسلام الجهادي واستخدامه وتحولة لسلاح تذبح به شعوبنا، وتستخدمه الأنظمة مبررة اضطهادنا، ويجعله الغرب مبررا لاحتلال بلادنا.
أخيرا كتبت الرواية قبل سنوات من الربيع السوري الذي يوضح ترابط المشروع الصهيوني ودولته مع الأنظمة المستبدة الحاكمة وأمريكا والغرب، واتفاقهم على استعباد شعوب المنطقة واستغلالها وسرقة ثرواتها، ولو أدى ذلك الى قتل شعوبها وتشريدهم واحتلال بلاد هو قام بتدميرها ايضا…الخ. كما حصل في سورية.