أيمن أبو هاشم
لطالما شكّلت قضية الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في السجون الصهيونية، أحد أبرز القضايا الكفاحية التي أكدت بتفانٍ مشرّف على عدالة القضية الفلسطينية. حتى في خضم الانقسامات الفصائلية الحادة، التي شهدها المعترك السياسي الفلسطيني، بقيت نضالات الأسرى وتجارب صمودهم، التي استبسلوا خلالها في مقارعة سجانيهم، بمثابة أكاديمية وطنية في تخريج المناضلين جيلاً بعد جيل. يتوحد طلاب الحياة والحرية بين جدران سجونها وزنازينها، على أصالة الانتماء لهويتهم الوطنية، ودفاعهم المستميت عن حقوق شعبهم الراسخة بكل عنفوان واقتدار.
وجه المفارقة وربما وجوهها العديدة، التي كشفتها تجربة الإضراب التي خاضها الأخرس لثلاثة أيام بعد المئة، وهو يتلوى على سريره في مشفى كابلان الإسرائيلي، بينما كان يحوم خطر الموت فوق رأسه، نتيجة تدهور حالته الصحية، تجلّت في رسالة الفيديو، التي تكلم فيها بصوتٍ مهدود في اليوم التسعين من إضرابه، وأعرب فيها “عن وقوفه إلى جانب سورية وجيشها في وجه المؤامرة الكونية، التي يقوم بها المجرمون التكفيريون ومن يساعدهم من القوى الخارجية”. قبل الخوض في مغزى ودلالات هذه المفارقة التي أثارها فيديو الأخرس، لا يغيب عنّا أمثلة أخرى؛ حملت رسائل مُلتبسة من هذا النوع، خلال محطات الثورة السورية على وجه الخصوص، وفي أغلب الأحايين انقسمت على وقعها الآراء والمواقف، تبعاً لاختلاف زاوية التعامل معها والحكم عليها.
ففي حين وجد “حلف الممانعة” في تصريحات الأسير الأخرس حول سورية مادة سخيّة لإضفاء شرعية مُضافة على منطق المتاجرة بفلسطين وقضيتها، ومانشيت إخباري عريض، لتزيين الصورة البائسة لنظام الإجرام الأسدي، والتسابق نحو ترويجه على معرّفات المؤيدين للرئيس القاتل، للتغطية على أحد إنجازاته المخزية في حشر مواطنيه كالسجناء خلف قضبان صناديق الأفران المغلقة، بانتظار الحصول على رغيف الخبز. وجد السوريون الغارقون في حوليات الموت والبؤس والقهر، أن كلام الأسير الذي يُفترض أن يذكّرهم بمأساة المعتقلين والمغيبين من أبنائهم، يضيف على جراحهم الغائرة ملحاً على ملح، ويوقظ أسئلتهم الحارقة مجدداً، حين يحظى سفاح سورية الأشر (بشهادات الوطنية والمقاومة)، بلسان شاهد فلسطيني اختبر الظلم والقهر بكل جوارحه وأنين أمعائه…!
ربما ما عاد مفاجئاً أو صادماً أن تصدر بين الفينة والأخرى، مواقف وتصريحات تصب في خانة تبيض صفحة الأسد وسجله الأسود، سواء من قِبل قيادات ونخب فلسطينية أو عربية، تدافع عن نزعاتها ومصالحها الحزبية أو الشخصية التي رمتها في حضن الاستبداد، على حساب دماء ومعاناة الشعب السوري. أما موقف الأسير الأخرس حيال الشأن السوري، وغيره من مواقف أسرى ومناضلين آخرين، تميزوا بإخلاصهم وتضحياتهم تجاه القضية الفلسطينية، فتحثنا على فهم حقيقة هذا التناقض في مواقفهم المساندة للنظام السوري، من حيث خلفياته وأسبابه التي دفعتهم لتبني رواية القتلة. ما يثير مسألة الاشتغال الجدي على تغيير تلك المواقف بصورة جذرية، فيما يخص الثورات العربية وقضايا الحرية والتغيير. فلا مناص أن التعامل مع هذه الحالات شديدة التأثير في واقعها المجتمعي والوطني، يفرض أولاً كسر الثنائية الحادة تجاههم، والتي تتفارق بين المديح المطلق أو الإدانة المطلقة.
مثل هذه المهمة الفكرية والأخلاقية، التي تحقق التطابق النظري والعملي، بين قضية الحرية التي لا تتجزأ، وبين قضية العدالة التي لا تقبل الازدواجية، باتت مهمة مُلّحة لا يجوز القفز عنها، ليس فقط من باب مقارعة ودحض السردية الرائجة في الداخل الفلسطيني، والتي تحاول قلب الحقائق وتزييفها، لخدمة المستفيدين من تضليل أصوات لديها مصداقية كفاحية في المجتمع الفلسطيني، لا تدرك حقائق المأساة السورية بكل وعي وأمانة وتبصر كما نتوقع منها. بالتلازم مع تفويت الفرص أمام تجار ومقاولي القضية الفلسطينية، وفي مقدمتهما النظامين السوري والإيراني، من استغلال مشاعر وتضحيات الوطنيين الشرفاء، ومن استخدامهم كمتاريس تدافع عن روايات المتاجرين والمجرمين، من خلال شيطنة الثورات، وتغييب سردية الشعب السوري وحقه بالحرية والكرامة، واجترار اللازمة الشهيرة للنظام السوري عن (المؤامرة الكونية والمجرمين التكفيريين كما ترددت على لسان الأخرس).
نعم من الموجع للعقل والوجدان، أن يُضحي أسير بحياته وبكل شجاعة من أجل قضية شعبه العادلة، فيما يدافع عن نظام وجيش قتل مئات الألوف من شعبه، وهجّر الملايين من بيوتهم، واعتقل وعذب حتى الموت أعداداً هائلة من المعتقلات والمعتقلين، لو فكر أحدهم/نّ بأن يُضرب عن الطعام، لكان مصيره الشبح والصعق والكي والتقطيع حتى الموت!!
إزاء ذلك لن يُجانب الصواب كثيرون في قولهم: لن يغفر الأسر ولا إضراب الأخرس وكل من مايزال ينتظر خلاص فلسطين، على يد جزار سورية الموغل في دماء شعبه، مواقفهم تلك التي تفتقر للحساسية الأخلاقية، والتي لا يمكن تبريرها أو السكوت عنها. غير أن الاكتفاء بهذا الحكم القيمي على مشروعيته الأخلاقية، لا يجوز أن يغلق علينا أبواب التفكير النقدي، حول دور الكيانات والشخصيات المُدافعة عن ثورات الحرية، في تصويب وتنقيح الكثير من العيوب والخطايا، التي كادت أن تطمس الصورة التضحوية النبيلة للثورات ومضامينها الوطنية والتحررية.
يصعب تغيير مواقف وقناعات خاطئة وضارة، حين يتم التساهل بالمقابل حيال مواقف وتوجهات لكيانات ثورية ومُعارضة، لم تتجرأ بحكم حساباتها السياسية الخارجية، على إدانة مسارات التطبيع التي اخترقت العديد من الدول العربية مؤخراً. كما يغدو متعذراً مواجهة الأخرس وأقرانه بالحقيقة، فيما لا خطوات ولا سياسات جدية، لإيصال صوت منكوبي الاستبداد وضحاياه، إلى ساحات ومنابر يستحوذ عليها دعاة المقاومة والممانعة، ويستغلون مشاعر الناس البسطاء، لغسل عقولهم، وحرف أنظارهم عن هوية المتسببين الفعليين في تدمير بلادنا. ما هيأ المسرح لهذا التلاعب والعبث، تلك الأسوار التي أقامها المستبدون، كي يمنعوا بناء جسور التواصل والتفاعل بين الشعوب، وقد نجحوا في ذلك أكثر مما فعله المحتلون. لعل من محصلات تلك الأسوار الشاهقة، أنها أنتجت جهلاً لا يستهان به بأحلام وأوجاع وآمال، من جمعتهم روابط تاريخية ومصيرية مشتركة، قبل أن تقطع أوصالهم مغارز الاحتلال ولعنة الاستبداد.
تشير تلك الحقائق وبصورة مُضاعفة، إلى ضرورة تجاوز أوجه التقصير في ردم الهوة بين طلاب الحرية على اختلاف جبهاتها، وامتلاك رؤية عميقة لبناء مداميك الثقة بخيار الحرية والتغيير، تؤدي إلى تفكيك خطاب ومقولات القوى المناهضة للثورات. لا يستوي أبداً أن نطالب العالم بالوقوف مع قضيتنا على أحقيتها الساطعة، فيما لا نبذل الجهد المطلوب لإيصال صوت الحق والحقيقة كما ينبغي ويليق بتضحيات الشعب. كان مؤسفاً إلى حد المرارة، أن يأتي الناشط الياباني أمادا صديق الثورة السورية إلى برلين، ويعتصم في أحد ساحاتها، لإيصال صرخات المعتقلين السوريين لكل العالم، فيما تعج المدينة بألوف النشطاء والمثقفين السوريين، الذين غابوا عن مشاركته وقفته الإنسانية النبيلة.
ثمة إذا مسؤولية كبيرة في العمل على دحض أكاذيب وأباطيل قوى الطغيان، واختراق الحواجز والأسوار، التي تحول دون وصول ثقافة الحرية والكرامة في كليّتها وترابطها الوطني والأخلاقي، إلى أوسع مدى فلسطيني وعربي وعالمي، وانتزاع حصرية المقاومة من أصحاب الشعارات الزائفة، كي لا تبقى قضية فلسطين محط تلاعب واستثمار وتشويه، وكي لا تبقى قضية الشعب السوري في خانة الخسران، والتي تزيدها الرسائل المُلتبسة يتماً على قهر.