علي العبد الله
في فضاء المعارضات السورية دعوة هائمة إلى توحيد سياسي مدخلا إلى حجز موقع راسخ ووازن في معادلة الصراع، وعلى طاولة التفاوض بشأن مستقبل سورية، لضمان تحقيق مطالب ثورة الحرية والكرامة. وهذا يفتح على ضرورة التأسيس المنهجي والعقلاني للعملية، ويكشف، في الوقت نفسه، عن تواضع فرص النجاح في ضوء الشروط الذاتية التي تعكسها هذه المعارضات، في بنيتها الفكرية والسياسية والتنظيمية وممارستها العملية.
تنطوي الدعوة العتيدة على وجاهة وحيوية لما يمكن أن تتيحه عملية التوحيد السياسي من فرص، للخروج من المستنقع الراهن ومآلاته السوداء؛ لكن موانع وعقبات كبيرة تحول دون تحقيقها. أولها، وأكثرها مأساوية، الداعون إليها أنفسهم، حيث الفجوة واسعة بين الدعوة النظرية والممارسة العملية التي تقود إلى تحويل الفكرة دعوة زائفة وخادعة، حتى لا نقول لعبة سياسية، هدفها تبرئة الذات وإلقاء اللوم والمسؤولية عن الحالة البائسة التي بلغتها المعارضات على الآخرين، فما يفعله معظم الدعاة لا يتعارض مع هذا الهدف النبيل: التوحيد السياسي فقط؛ بل ومع جملة الأهداف الوطنية التي قامت الثورة لتحقيقها، ويدّعي معظمهم الانتماء إليها والسعي إلى بلوغها، وأولها إقامة نظام ديمقراطي، قاعدته المواطنة، وهدفه الحرية والكرامة التي تترتب على تحقيق العدالة والمساواة بين المواطنين، من دون تمييز أو تهميش أو إقصاء.
تتجسّد إشكالية الدعوة في التعارض الحاد بين مستدعيات التوحيد السياسي، نظريا وعمليا، وما يفعله معظم الدعاة بدءا من تشكيلهم كياناتٍ سياسية على أسس قومية ومحلية ودينية ومذهبية: التحالف العربي الديمقراطي في الجزيرة والفرات، أعلن عنه العرب السوريون، كما وصفوا أنفسهم، في الجزيرة والفرات، يوم 23/6/2020. حركة استقلال الجزيرة وحوض الفرات، أعلن عنها يوم 2/7/2020. جبهة السلام والحرية، أعلن عنها يوم 29/7/2020، المجلس السوري للتغيير في حوران، أعلن عنه يوم 1/11/2020. اللجنة الوطنية المشتركة في الجنوب، تحت التأسيس. وتشكيلات تأسست على أسس قومية أو محلية ظهرت أخيرا كان سبقها قيام تشكيلات عديدة على أسس مماثلة، قومية ومحلية ودينية ومذهبية، بعد عقد مؤتمراتٍ سياسيةٍ وتجمعات هادرة، مثل: المجلس الوطني الكردي، أعلن عنه في 26/10/2011 في إربيل في العراق. الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية، أعلن عن تشكيلها عام 2012، تحوّلت إلى نوع من حكم ذاتي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013. منظمة سوريون مسيحيون من أجل السلام، أعلن عنها عام 2013. مؤتمر كلنا سوريون للطائفة العلوية، عقد في القاهرة يوم 23/3/2013. تجمع ثوار المنطقة الشرقية، تشكل عام 2013 في دير الزور. رابطة سوريون مسيحيون ديمقراطيون، أعلن عنها عام 2014 في إسطنبول. الرقة تذبح بصمت، تأسست في إبريل/ نيسان 2014، حركة رجال الكرامة، أعلن عنها عام 2014 في السويداء. المجلس العربي في الجزيرة والفرات، تجمع سياسي اجتماعي لأبناء المنطقة الشرقية، أعلن عنه في القاهرة يوم 20/9/2017. الحركة الوطنية الديمقراطية السورية في الشمال، أعلن عنها عام 2018. وعشرات، إن لم يكن مئات، المواقع الإلكترونية التي تنشر نشاطات تشكيلات محلية وتروج لرؤاها السياسية.
وهذا، بالإضافة إلى المستوى الفردي من سلوك الدعاة، حيث يسود بين المعارضين، خصوصا بين متصدّري الصفوف الأولى، سلوك نافر من الفردية العالية وحب الذات والظهور والبحث عن النجومية، والدمج، بشكل مثير، بين شخصياتهم وآرائهم؛ ما يجعل نقد الرأي، بالنسبة لهم، بمثابة إهانة شخصية، وتقديس البيئة الخاصة، السياسية والاجتماعية. يلفت النظر، في هذا المجال، ما يكتبه معارضون عريقون عن أشخاص توفوا من جماعتهم السياسية أو تيارهم الفكري من مديح وثناء وتضخيم للمزايا الفردية والنضالية التي استغرقت عمر المتوفى كاملا، والتضحيات التي بذلها على طريق تحقيق الأهداف السياسية والحزبية، تُضخّم سلبيّتُها إطلاقيةً في الأحكام والفجور عند الاختلاف، حيث يتم القفز من الخلاف على رأي أو موقف إلى حكم قاطع باتر على شخص المخالف ومجموعته السياسية، والدخول في تحليل نياتٍ أكثر منه تحليل وقائع ومعطيات، خطوة يعتبرها علماء السياسة من المحرّمات والكبائر، والتحوّل من الخلاف حول رأي أو موقف إلى الإدانة الشاملة، فالخطأ في الرأي والموقف يتحوّل خيانة ومؤامرة. كلهم علماء في السياسة ومخطّطون استراتيجيون؛ ما قالوه هو الصواب بعينه، لم يرتكبوا أخطاء، سبقوا في كشف نقاط الضعف والخلل في مؤسسات المعارضة، ونبهوا منها، لكن كلامهم لم يُسمع، ما يعني أن صفحتهم بيضاء، والحق على الطليان، كما يقول المثل الشعبي. علما أن قسما كبيرا منهم لا يملك مؤهلات علمية أو سياسية، وأنهم حصلوا على مواقعهم في مؤسسات المعارضة بموجب حسابات وتوازنات إقليمية أو دولية، ولاعتبارات تخص الدول الداعمة. ما حوّل ساحات النضال ومؤسسات المعارضة إلى ساحةٍ لصراع ديكة أكثر منها فضاءات للعمل المشترك، المنظم والمخطط، والتعاون المثمر في جوٍّ من الود والأريحية، والتفهم للظروف والالتباسات التي قد تدفع فردا أو مجموعةً إلى سوء التقدير والخطأ؛ ما يفرض المرونة والتريّث في إطلاق الأحكام بين رفاق الدرب، وحصر الملاحظات في حدود موضوع الخلاف؛ وعدم توسيع دائرة النقد نحو التحطيم والتخوين.
للفيلسوف الهنغاري، جورج لوكاش، حكم معبّر حول الخلاف في الرأي أو الموقف داخل تيار ثوري، قال: “عندما يتحاور طرفان في تيار واحد حول نقطة خلافية، فالذي يسقط هو سوء الفهم، لا أي من المتحاورين”، فالنظرة الذاتية والمبيّتة والكيدية وصفة للتحطيم والدمار والفشل. وهذا من دون أن ننسى سعي كثيرين من هؤلاء الدعاة النهم إلى تحقيق منافع شخصية، عبر الارتباط بقوى إقليمية ودولية فاعلة في الملف السوري، وما رتبه هذا الارتباط على مؤسسات المعارضة من سلبياتٍ بتحويلها إلى ساحة صراع وتنافس بين خطط وبرامج قوى إقليمية ودولية، على حساب مصالح الشعب السوري وثورته المجيدة، وما نجم عنه من انعدام ثقةٍ عميق؛ وتنافس غير بريء؛ وحرب الجميع على الجميع؛ ومن حصاد سياسي مرّ وتبعاتٍ مدمّرة على الثورة وحاضنتها الشعبية. كيانات، ببنيتها السياسية والاجتماعية، وممارسات، بطبيعتها الذاتية الفجّة، تتناقض جوهريا مع الشعار “الأثير” إلى قلوب أصحاب الدعوة: المواطنة، تفتح على سياق مختلف، يقود، بالضرورة، إلى أحد حلين: المحاصصة السياسية، كان أعضاء في المجلس الوطني السوري من محافظة درعا طالبوا بمقاعد أكثر للمحافظة، بذريعة أنها مهد الثورة، أو الترهل والتشتت والتلاشي.
لقد باتت المعارضات السورية في حالةٍ من التعارض والتناقض الحادّين؛ حيث كل شخصٍ أو مجموعةٍ منها يسير في اتجاه، يعتبره الاتجاه الصحيح، ويسعى إلى جذب الآخرين للسير فيه، ما زجّها في مشهدٍ عبثيٍّ من التفاضل القاتل، تحسم إمكاناتها وقدراتها وجهودها ونجاحاتها من بعضها بعضا، بدلا من أن تتكامل وتتعاضد مع بعضها، فتزداد قوة على قوة. وأمام حالة الضياع والفوضى، لا بد من فترة هدوء ومراجعة ودراسة للواقع والاحتمالات والمخارج، وإعادة نظر في المنطلقات والخطط والممارسات، عملا بالحكمة البدوية “عندما تضيع في الصحراء اجلس في مكانك”.
المصدر: العربي الجديد