محمود الوهب
لا يمكن الحديث عن الفقيد منصور الأتاسي، ونشاطه السياسي دون الإحاطة بواقع الحزب الشيوعي السوري في تلك المرحلة الإشكالية التي عاشها الحزب مع نمو ظاهرة القومية العربية بدءاً من زمن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ثم لدى تجربة الوحدة السورية المصرية، ودور حزب البعث فيها، واستيلائه، فيما بعد، على السلطة في سورية منذ 8 آذار/مارس من العام 1963 ثم انقلاب حافظ الأسد المؤيد عالمياً من الدولتين الكبريين “روسيا وأميركا” على خلفية قرار مجلس الأمن 242 الذي رفضته مجموعة صلاح جديد اليسارية، وقضى بإزالة ما سمي بـ “آثار العدوان الإسرائيلي”، وإيقاف حرب الاستنزاف ضد إسرائيل التي سعت للهدف نفسه، ومن ثم إحلال السلام بين العرب وإسرائيل. أما إقليمياً فقد أيدت المملكة العربية السعودية حافظ الأسد ورحب به تجار دمشق، تحت زعم تخليصهما من بؤرة البعث “الشيوعية” المعروفة بجماعة صلاح جديد الراديكالية، وكانت قد أتت بانقلاب 23 شباط/فبراير 1966 وقد قيل بأن حرب 1967 حدثت للخلاص منها ومن جمال عبد الناصر وقيل أيضاً أن المملكة السعودية لها دور في تلك الحرب. وهكذا جاء حافظ الأسد وتعاون معه الحزب الشيوعي السوري على عكس موقفه، آنذاك، من الأسد وعسكره، ولكنه موقف الاتحاد السوفييتي الذي لا يعارض.
(2)
في بداية العام 1991 والاستعدادات لتحرير الكويت بقيادة الولايات المتحدة الأميركية من احتلال صدام حسين لها أخذت موجة من الغليان في الحزب الشيوعي السوري بين مؤيد ومعارض لمشاركة سورية تلك الحرب إذ هي في النتيجة ضد العراق، وقد أتت إثر انتصاره على إيران، وهي تحت إمرة الولايات المتحدة الأميركية التي يعدها الحزب الشيوعي عدواً رئيساً للشعوب كافة، وكانت كوادر الحزب تموج بتأثير من بيروسترويكا غورباتشوف إذ ثمة من أيدها، فهي إعادة للبناء والانفتاح على الشعب، وثمة من زعم أنها مؤامرة صهيونية، وما زاد الطين بلة أن وصال فرحة بكداش ألقت خلال تلك الفترة كلمة في مجلس الشعب خلال جلسة مخصصة لامتداح حافظ الأسد فقالت ما قالته من ابتذال كلمات ضالة ومضللة، وغريبة على لغة الحزب السياسية، فصبت بذلك زيتاً على نار تشتعل بين صفوف الحزب، وكان خالد بكداش قد عقد مؤتمراً قسم الحزب شاقولياً في تموز/يوليو 1986 إذ قسم اللجنة المركزية نصفين، وصيَّر الحزب جناحين. وأتى الانقسام أكثر فداحة من الانقسام الأول الذي فجره بيان 3 نيسان/ابريل 1973. وإذا كان الانقسام الأول على أساس فكري وتنظيمي فإن هذا الأخير كان تنظيمياً بامتياز إذ تجاوز خالد بكداش الربع الأول من ثمانينيات عمره، وأخذت زوجه “وصال فرحة” تعمل على ترتيب الحزب لتكون قيادته عائلية، وعلى ذلك فقد انفض عنه ثلاثة أرباع مكتبه السياسي المنتخب في مؤتمره الأخير وهم: نبيه رشيدات وفهد درة وخلوف قطان ولم يبق سوى عبد الوهاب رشواني إضافة إلى خالد بكداش الأمين العام. وكان عمر السباعي قد سبقهم بإنشاء تكتل مع “رمُّو شيخو” تحت اسم “الكادر اللينيني” فزاد في البلبلة سوءاً على سوء، وهكذا، وفي أواخر عام 1990 زارنا في حلب الرفيق عبد الوهاب رشواني وكنا آنئذ مازلنا فيما نعتبره “الحزب الأم” (تنظيم خالد بكداش). ولم يكن مجيئه إلا لشرح رؤية الحزب وإقناع الرفاق بتأييد دخول سورية حرب تحرير الكويت تحت قيادة الأميركان. وقال فيما قاله: لقد اجتمعنا نحن قادة الفصائل الثلاثة، يقصد خالد ويوسف ومراد، ووافقنا على أن تشترك سورية بتلك الحرب وكان في هذا الكلام صفعتان الأولى هي الانصياع لرأي حافظ الأسد الذي قبض ثمن دخوله. أما الصفعة الثانية فيمكن صياغتها على نحو سؤال هو: “ما دمتم سياسياً متفقين في مثل هذه المواقف” فما الذي جعلكم أشتاتاً؟!”
(3)
خلال تلك الفترة أصدر جناح يوسف فيصل رسالة وجهها إلى الفصائل الشيوعية كافة دعاها لمؤتمر توحيدي وكانت قد نمت على هامش الانقسامين الرئيسين (بدأهما خالد بكداش تحت شعار مبدئية الحزب، إذ كرَّس الأول بيان الثالث من نيسان عام 1972 والثاني عَقْده للمؤتمر السادس منفرداً في تموز/يوليو 1986) عدة انقسامات صغيرة إضافة إلى ما أشير إليه منها منظمات القاعدة التي قادها مراد اليوسف، وكذلك مجموعة وحدة الشيوعيين السوريين التي انفصلت عن رياض الترك ومنها كتلة الأخوين يوسف وحنين نمر التي انفصلت عن رياض الترك ثم عادت وتوحدت مع جناح يوسف الفيصل في المؤتمر السادس أوائل عام 1987.
أسفرت رسالة يوسف الفيصل عن عقد المؤتمر السابع الموحد الذي جمع معظم تلك التنظيمات في حزب واحد كنا، من ضمنهم، نحن مجموعة من كوادر منظمة حلب تعادل ثلث اللجنة المنطقية، ومكتبها التنظيمي، ومكاتبها النوعية، ومنظماتها قد أعلنا ببيان مكتوب الانضمام إلى المؤتمر الموحد ومن بين هؤلاء رفاق كان هاجسهم أن يكون صوت الحزب أعلى، وأن تكون فاعليته في المجتمع أقوى، وتتناسب مع ما يصدره من بيانات، ومقالات ودراسات. وبخاصة ما يتعلق بمواجهة البرجوازيتين: الطفيلية والبيروقراطية، وفسادهما، ونهبهما الدولة والشعب. ومن هؤلاء الرفاق “ديبو سليمان” و”شريف تمو” و”مصطفى الدروبي” و”محمود الحاج علي” وآخرون من الكوادر النشيطة، وكان داعماً لنا خلوف قطان الذي لم يرغب في المتابعة، بعد مغادرته المكتب السياسي، كما أسلفت. خلال ذلك المؤتمر، تعرفت على الرفيق الفقيد منصور أتاسي، وأخذت أتابع مداخلاته في اللجنة المركزية للحزب، وكانت تعكس تلك الأجواء التي تحدثت عنها، وما كان يدور في قواعد الحزب الشيوعي من احتجاج على ممارسات السلطة وفسادها، وسطوتها، وواقع الجبهة البائس دون اتخاذ الحزب مواقف عملية أكثر حزماً، وبروز مظاهر ليست من سمات الشيوعي الثوري فثمة ممالأة للبعث وتبرير لعدم اتخاذ موقف جدي يتصدى للتدهور في الحال السورية عموماً، وإشغال الرفاق باستهداف مواقف سورية الوطنية على قاعدة ابتدعها خالد بكداش: “لو كنا ننطلق من الأوضاع الداخلية لكنا حتماً في المعارضة” وواضح أن هذه المقولة بعيدة عن الديالكتيك الذي يربط بين قضايا الداخل والخارج في مسار لا يتجزأ، وبخاصة على المدى الطويل، وفي مثل قضايا الفساد إذ ربما كان الداخل في مثل الحال السورية، آنذاك، أهم..!
(4)
لعلِّي أطلت في المقدمة لأبين صورة الحزب الشيوعي السوري، والنظام المتحالف معه لإنارة شخصية الرفيق الفقيد أبي مطيع التي كانت تنطوي على نوع من القلق السياسي سببه الانشغال بحال الحزب والبلاد ووضعهما المغلق. فالفقيد وأمثاله من المواطنين الأنقياء الذين انضموا إلى الحزب الشيوعي في خمسينيات القرن الماضي وستينياته ومارسوا في بداية حياتهم الحزبية رومنسية نضالهم الوطني كما كان “دانيال نعمة” يسمي مراحل نضال الشيوعيين الأولى، إذ كان العالم يغلي بثورات تنبئ بعالم جديد فعلاً. لكن الأمور أخذت تتراجع لتترسخ مكانها أنظمة استبدادية في بلدان العالم الثالث دعمها الاتحاد السوفييتي تحت فكرة أنهم ديمقراطيون ثوريون لكنهم، في الحقيقة، لم يكونوا على قدر المسؤولية تجاه شعوبهم فقد سدوا منافذ التطور والتقدم بإغلاقهم الحياة السياسية، ومنع الأحزاب والصحف الحرة، وضيقوا على ما تبقى من أحزاب انعشتها مرحلة الخمسينيات، ومنها الحزب الشيوعي السوري الذي قبل بالتعاون مع حافظ الأسد، ولم يكن ليساند أي انقلاب عسكري مؤملاً انتصار الاتحاد السوفياتي لكن الرياح جرت في اتجاه آخر، فكان أن أخذ الحزب يتآكل بطرق مختلفة ومن هنا كان تردد منصور، وقلقه الدائم، وبحثه عن بؤرة ضوء ما، فساهم في أكثر من فصيل شيوعي، ولكن دون جدوى، فنوافذ الأسد أضيق من أن يخترقها خيط ضوء أو تعبرها نسمة حرية.
(5)
وتجيء الثورة السورية، فيجدها الكثيرون من الوطنيين اليساريين فرصة، ويحاول أبو مطيع أن يفعل شيئاً، وقد تداعينا نحن الذين انحزنا إليها من الشيوعيين وآمنا بضرورة التغيير، والتقينا في دمشق مجموعة من عدة تنظيمات، وعدة محافظات في بيت الرفيق صبحي الجاسم (اعتقل فيما بعد هو وابنه فهد ولم يفرج عنهما حتى الآن) خلال العامين 2011/2012 ثم في بيت في جرمانا وتحدثنا فيما يمكننا فعله وكانت رغبة منصور قوية لتشكيل تنظيم ما، والحقيقة لم أكن متشجعاً إذ كانت الأغلبية منا كباراً في السن. ولم يكن بيننا حضور للشباب ثم أصبح التنقل عسيراً بين المحافظات. وسمعت فيما بعد باعتقال منصور ومغادرته سورية بعد الإفراج عنه. لكنَّ الأيام جمعتنا ثانية في عينتاب، ولنتعرف عن قرب أكثر، وبالود كله أراد أن نعمل معاً لكنني اعتذرت إذ كنت قد باشرت عملاً ثقافياً. لكنني اقترحت عليه جريدة أو مجلة. ففاجأني بعد فترة بالرافد مقترحاً أن أكون رئيس تحرير فوافقت لكنني لم أستطع الجمع بين عملي والمجلة، فاعتذرت وفي كل ذلك أظهر منصور هدوءه وليونته وودَّه ودماثته في العمل والتعامل مع الآخرين ما يشير إلى إيمانه بسعيه نحو وطن حر وديمقراطي عجز حزب البعث عن إيجاده رغم شعاراته البراقة.
لروح منصور الأتاسي السكينة، وعليها السلام، ولأسرته ورفاق دربه وافر الصحة، وعلو الهمة أملاً في متابعة طريقهم الوطني المستنير.
المصدر: اشراق