بيير بورديو ترجمة: نائلة منصور
نص بورديو هذا من النصوص المرجعية في سوسيولوجيا الترجمة والفكر والحقل الثقافي.1 على المستوى الوطني لبلد ما، وعلى مستوى عابر للبلدان أو للمركزيات الوطنية، يؤكد بورديو من خلاله على ماديته في مقاربة تاريخ الفكر والثقافة، حيث لا يمكن إهمال الشروط الاجتماعية والسياقات التاريخية المرافقة للإنتاج الفكري، وكذلك المرافقة لـ «استيراد» و«تصدير» كاتب ما أو نص ما من خلال ترجمته. مفهوم الحقل الثقافي من المفاهيم المركزية عند بورديو، أي ما يحكم إنتاج كاتب ما في عصر ما وفي مكان وسياق ما من موازين قوى واستقطابات وهيمنة رمزية هنا وهناك. وما يقوله المقال هو أن عمليات النقل والترجمة ليست بريئة من هذه الحسابات، ولكنها تجري بشكل آخر عبر البلدان، ويدخل فيها الحقل الثقافي الخاص بكل بلد، وأيضاً سوء الفهم الناتج عن عدم تناظر أو تطابق الشروط والسياقات بين البلدان المتناقلة للأفكار والنصوص.
في الحقيقة، ما يفصلّه بورديو، حتى على مستوى عمليات الاختيار أولاً والفاعلين في عملية النقل، بل وحتى خيارات دُور النشر وتصميم الأغلفة وكل تفصيل في عملية النقل، كل ذلك شديد الفائدة للتفكّر في الترجمة سياسياً، وهذا ما نلحظ أنه بدأ يحصل من وجهة نظر نقدية في العالم الثقافي العربي، حيث تنقد الخيارات والسياسات الترجمية وفق المقولات المادية التي يعرضها بورديو، والمحقّة غالباً في نقدها، رغم ظاهرها الحتمي الذي يغفل دور الأفراد وإراداتهم الشخصية غير الخاضعة دائماً للسياقات المادية التاريخية. إلا أن ما يستحق التفكير حقاً حين نبتغي تطبيق المقولات البورديويّة بحرفيتها هو: هل يمكننا أن نتكلم عن مفهوم «حقل» ثقافي وطني عربي على غرار الحقول الأوروبية التي يتحدث عنها بورديو؟ وما هو دور الإنتاج الثقافي الناطق بالعربية خارج جغرافيا الحقول الوطنية العربية، في المهجر على سبيل المثال؟ هل يخضع للشروط الاجتماعية نفسها، أم أن هناك ترسيمات أخرى؟ هل يمكن إغفاله تماماً (أو إماتته رغبوياً)؟ على كل حال، ما يدعونا إليه بورديو ويقوله حرفياً في النص هو تمرين مسلٍّ لمراقبة ما يحدث في الحقول الثقافية التي تتناقل النصوص والأفكار. نذكر أخيراً أننا أغفلنا مقطعاً صغيراً شديد الالتصاق بالسياق التعليمي الفرنسي وتصنيفات المدارس.
*****
أرغب اليوم أن أقترح عليكم بعض التأملات، التي تبتغي الهروب من طقوس الاحتفاء بالصداقة الفرنسية الألمانية والاعتبارات الإجبارية حول الهوية والآخَرية. أعتقد أنه في شأن الصداقة، كما في شؤون كثيرة، ليس جلاء الرؤية بمضاد للعاطفة، بل على العكس تماماً. وهكذا فإني أودّ أن أعرض عليكم بعض التأملات حول الشروط الاجتماعية للتناقل العالمي للأفكار، أو بعبارات اقتصادية لها دائماً أثر القطيعة مع ما سبق، تأملات حول ما يمكن أن نطلق عليه الاستيراد والتصدير الفكري. ما أريد توصيفه، إن لم تكن القوانين، حيث لا أملك تلك اللغة المدّعية، فهو على الأقل الاتجاهات في هذه التبادلات العالمية، التي عادة ما نصفها بلغة صوفية أكثر مما هي لغة عقلانية. باختصار، أريد اليوم أن أقدم برنامجاً لعلم العلاقات الدولية التي تنظم الشأن الثقافي.
بدايةً، أُتيحَ لي أن أسترجع تاريخ العلاقات بين فرنسا وألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية، وبدقة أكثر كلَّ العمل الذي أُنجز لتعزيز التواصل والتفاهم بين البلدين، وخاصة في الحقل السياسي. وربما قد يكون من الضروري أن نحلل تحليلاً تاريخياً دون هوادة كل الشغل الرمزي الذي كان ضرورياً لطرد تهويمات الماضي، على الأقل لجزء من شعبي البلدين. وسيتوجب أيضاً، علاوةً على تحليل عمل الهيئات الرسمية ببعديها الرمزي والعملي، سيتوجب تحليل مختلف الأفعال التي كان من شأنها أن تبدّل سلوك الفرنسيين والألمان على حد سواء في تنويعاتهم الاجتماعية. يمكننا على سبيل المثال من خلال تموضعنا في الحقل الفكري، أن نصف مراحل عمل هذا التحول الجمعي؛ في حالة المفكرين الفرنسيين يمكننا أن نَصِفَ التصالح ومن ثم الافتتان بالمعجزة الألمانية، وفي المرحلة الحالية هذا الإعجاب المتراوح ذو الحدين، الذي يتجسد في أوروبوية إرادوية متسامية، يحاول من خلالها كثيرٌ من عُمّال الساعة الحادية عشرة1 أن يجدوا بديلاً وتعويضاً عن وطنيتهم القومية المتوفاة. إلا أنكم تفهمون جيداً أنني لن أرضى بأن أخوض في هكذا اعتبارات سطحية، بقدر ما هي مختصرة.
ما الذي يمكننا أن نفعله اليوم إن كان لدينا هم حقيقي يتعلق بتعزيز الحياة الفكرية العابرة للحدود الوطنية؟ غالباً ما نعتقد أنّ الحياة الفكرية عابرة للحدود بشكل عفوي وطبيعي. لا شيء أشد خطأً من هذا الاعتقاد. إن الحياة الفكرية، كما كل الفضاءات الاجتماعية، هي مكان للقوميات والإمبرياليات، والمثقفون ينقلون كما الآخرين، أحكاماً مسبقة وصوراً نمطية وتمثيلات اختزالية، أولية جداً، وتتغذى بحوادث الحياة اليومية وبسوء الفهم وبالجروح (على سبيل المثال جرح النرجسية الناجم عن أن يكون المرء غير معروفٍ في بلدٍ أجنبي). كل هذا يدفعني للقول أن إنشاء علم حقيقي عابر للحدود الوطنية هو بداية كل أممية باختصار، وهو شيء لا يتم تلقائياً دون تدخل. في الشأن الثقافي كما في شؤون أخرى، لا أؤمن بترك الأشياء تحدث بنفسها، ونيتي في معرض هذا الحديث هو إظهار كيف أن منطق ترك الأشياء تحدث بنفسها في التبادلات الدولية غالباً ما يقود إلى أن ينتقل الأسوأ ويُمنَعَ الأفضل من أن ينتقل. أَستلهمُ فكرتي هنا كما في أمكنة أخرى من قناعة علموية لم تعد دارجة في أيامنا هذه، فنحن في عصر ما بعد حداثي. هذه القناعة تحملني على الاعتقاد بأننا إن عرفنا الآليات الاجتماعية، فسنزيدُ حظوظنا في التمكّن منها، خاصة إن كانت هذه الآليات قائمة على عدم المعرفة إلى حد ما. وأقول إلى حد ما لأن «القوة الذاتية للأفكار الحقيقية» تصطدم بمقاومات عائدة إلى المصالح والأفكار المسبقة، وإلى اللواعج والشغف العاطفي. هذه القناعة العلموية تأخذني إلى الاعتقاد بأنه من المهم أن نقيم برنامجاً بحثياً أوروبياً حول العلاقات العلمية الأوروبية. وأعتقد أنه المكان واللحظة المؤاتية لقولي هذا، لأني أعرف من خلال جوزيف يورت2، والنصوص التي أعطاني إياهها للقراءة، أن أحد أهداف المركز المُفتتح اليوم هو تحديداً العمل من أجل معرفة متبادلة للبلدين وللتقليدين. وأريد أن أسهم هنا بأن أقول بكل تواضع كيف أرى المشروع، وماذا كنتُ لأفعل لو قُدِّرَ لي أن أقوده.
تخضع التبادلات الدولية لعددٍ من العوامل البنيوية المولدة لسوء التفاهم. العامل الأول هو أن النصوص تنتقل دون سياقاتها. هي فكرة يطلقها ماركس بشكل عابر في بيان الحزب الشيوعي، ولا تتعلق بقواعد حول نظرية التلقي… يلاحظ ماركس أن المفكرين الألمان غالباً ما أساؤوا فهم المفكرين الفرنسيين أسوأ فهمٍ، لأنهم استقبلوا نصوصاً حاملة لشرطها السياسي وكأنها نصوص صافية، ولأنهم كانوا يحولون العامل السياسي الذي كان ينظم هذه النصوص إلى ذات متجردة متسامية عن كل سياق. لهذا، فالكثير من سوء الفهم القائم بين البلدين يتأتى من أن النصوص لا تحمل معها سياقاتها. على سبيل المثال، سأفاجئكم وربما أصدمكم بمثالي: أعتقد أن منطق سوء الفهم البنيوي وحده هو الذي أتاح حدثاً مدهشاً مثل أن يمنح رئيس جمهورية اشتراكي تكريماً فرنسياً لكاتبٍ مثل إرنست يونغر.3 مثال آخر هو هايدغر الذي كرسه ماركسيون فرنسيون في الخمسينات. يمكنني كذلك أن أطرح أمثلة معاصرة، ولكن بما أني غالباً ما سأكون منخرطاً في هذه الأمثلة، فلن أفعل لئلا تخالوا أنني أستغلّ سلطتي الرمزية التي مُنحت لي مؤقتاً كي أُصفّي حسابات مع غرماء غائبين.
أن يتم تناقل النصوص دون سياقاتها، وألّا تحمل معها الحقل الذي أُنتجت فيه (وأنا هنا استخدم مصطلحاتي الخاصة) إلى متلقين يؤولونها وفق شروط إنتاج حقلهم الفكري الخاصة، والمختلفة تماماً عن شروط الحقل الأول؛ كلُّ ذلك يولّد سوء فهم عظيم. وبناء على توصيفي، الذي أعتقد أنه موضوعي، يمكن أن نصوغ استنتاجات متفائلة أو متشائمة: على سبيل المثال، يمكننا أن نستنتج من فكرة أنَّ من له سطوة في بلده لا ينقل بالضرورة سطوته معه، وأنَّ القراءة الأجنبية يمكنها أحياناً أن تتحلى بحريةٍ لا تحوزها القراءة الوطنية للنص، الخاضعة لفروض رمزية ولهيمنة أو حتى لمقيدات، هذا ما يدفع إلى التعبير بأن حكم الغريب الأجنبي في هذا السياق يشبه حكم الخَلَف اللاحق. على العموم، إن كان الخلف اللاحق يحكم بشكل أفضل، فذلك لأن المعاصرين منافسون، ولديهم مصالح مخبأة باتجاه عدم الفهم أو حتى منعه. أما الأجانب الغرباء، حالهم حال الخَلَف اللاحق، لديهم في بعض الحالات مسافة واستقلالية تجاه المقيدات الاجتماعية للحقل. غير أن هذا الأثر في الحقيقة ليس سوى أثرٍ ظاهري أكثر منه حقيقي، وغالباً فإن سلطات المؤسسات أو ما يسميه باسكال «عظمة المنشأة» (les grandeurs de l’établissement) تَعبرُ الحدود بِلا بأس، لأن هناك هيئة دولية للجهابذة ذوي الشأن الفكري (mandarins) تعمل بشكل جيد في كل مكان.
وهكذا فإن معنى ووظيفة عمل أجنبي يُحكَّمان في حقل التلقي وحقل الإنتاج الأصلي، على الأقل بالقدر نفسه إن لم يكن أكثر في حقل التلقي. أولاً لأن المعنى والوظيفة في الحقل الأصلي يبقيان مجهولين تماماً، وأيضاً لأن الانتقال من حقل وطني إلى حقل آخر يتم عبر سلسلة من العمليات الاجتماعية: عملية الاختيار (ماذا نترجم؟ لمن ننشر؟ من يترجم؟ من ينشر؟)، وعملية إبراز وتوضيب منتج (أُبخِسَت قيمته مسبقاً)، عبر دار النشر والسلسلة المختارة للإصدار والمترجم وكاتب تقديم الكتاب (الذي يقدم العمل ويجيّره لنفسه في آن، ويلحقه برؤيته الخاصة، على كل حال يلحقه بإشكالية لها حضورها في حقل التلقي، والذي نادراً ما يستعيد حقل الإنتاج الأصلي أو يعيد تركيبه لأن ذلك صعب أصلاً)، وأخيراً عملية القراءة، حيث يُعمِل القُرّاء في العمل المترجم أدوات وعناصر إدراك وإشكاليات هي وليدة حقل إنتاج ثقافي مختلف.
وسأرجع سريعاً إلى كل نقطة على حدا. إن الدخول في حقل الاستقبال والتلقي هو مادة بحثية أساسية ومُلحّة تماماً، وذلك لأسباب علمية وعملية في آن، أي لتكثيف وتحسين التواصل بين البلدان الأوروبية. أتمنى أن أنظم مؤتمراً يكون هدفه تحليل عمليات الاختيار: من هم الأشخاص الذين يختارون، أولئك الذي أطلقت عليهم سوسيولوجيّة أميركية اسم الحرّاس (gate-keepers)؟ من هم المستكشفون وما مصلحتهم في اكتشافاتهم؟ أعرف تماماً أن كلمة «مصلحة» صادمة، ولكني أعتقد أن ذاك الذي يستحوذ على كاتب بكل حسن نيّة ويجعل من نفسه مُقدِّمَه، له مصالح ذاتية متسامية وسامية، ولكنها رغم ذلك أساسية لفهم أنه يفعل ما يفعله. (أعتقد أن قليلاً من المادية لا يؤذي، ولن تنزع السحر عن الأشياء). ما أُطلِقُ عليه «مصلحة» قد يكون أثر التقاربات المتصلة بالتطابق (أو التناظرية) في المواقع في حقلين مختلفين: ليس صدفة أن يصدر الروائي الإسباني الكبير، بينيت، في مطبوعات Minuit الفرنسية. أن أنشر ما أحب، هو تدعيم موقعي في الحقل، إن أردت ذلك أو لم أرده. إن عرفته أو لم أعرفه، وحتى لو لم يدخل هذا الأثر في مشروعي. لا ضير في ذلك، ولكن ينبغي أن يوعى. الاختيارات المتبادلة تجري غالباً على قاعدة تناظر المواقع في الحقول المختلفة الموافقة لتناظر مصالح وأسلوب ومشاريع فكرية. يمكن أن تُفهَمَ هذه التبادلات كتحالفات، في منطق علاقات القوى، وكأنها طريقة لتقوية موقع مهدد أو مهيمن عليه.
إلى جانب التقاربات بين «المبدعين»، والذين أتسامح معهم كما ترون، هناك نوادي الإعجاب المتبادل، والتي تبدو لي أقل شرعية لأنها تمارس سلطة زمنية في المنظومة الثقافية أو الروحية إن أردنا، وهو تعريف الطغيان بحد ذاته بحسب باسكال. أفكر على سبيل المثال بالهيئة الدولية للـ«استبلشمنت»، أي بكل التبادلات التي تتم بين كل المستحوذين على المواقع الأكاديمية المهمة: جزء كبير من الترجمات لا يمكن فهمها إن لم نعد تركيبها ضمن الشبكة المعقدة للتبادلات الدولية بين المستحوذين على المواقع الأكاديمية المهيمنة، وتبادل الدعوات وألقاب الدكتوراه الفخرية، إلخ. ينبغي إذاً أن نتساءل ما هو منطق الخيارات التي تجعل الناشر الفلاني أو الكاتب الفلاني هو المستورد لهذا الفكر أو ذاك. لماذا فلان ينشر لفلان؟ هناك حتماً مصالح الاستملاك. أما الاستيرادات المهرطقة فهي غالباً من فعل المُهمَّشين في الحقل، الذين يستوردون رسالة، موقعاً قوياً من حقل آخر بغية تقوية موقعهم كمُهيمَن عليهم في حقلهم الخاص. غالباً ما يُستخدَم الكتّاب الأجانب بطريقة انتهازية؛ غالباً ما يُستخدمون في قضايا قد لا يوافقون عليها، أو يلفظونها تماماً في بلدانهم الأصلية. يمكننا مثلاً أن نستخدم كاتباً للتقليل من شأن كاتبٍ محلي، وهنا أطرح مثال هايدغر. الكل هنا يتساءل كيف أمكن للفرنسيين أن يهتموا إلى هذا الحد بهايدغر. في الحقيقة، هناك الكثير الكثير من الأسباب، بل إن الأسباب قد تفيض، إلا أن هناك تفسيراً بيّناً لا يمكن تجاهله، وهو أن الحقل الفكري في فرنسا الخمسينات كان خاضعاً لهيمنة سارتر الساحقة، كما أظهرت آنّا بوشيتي في كتابها سارتر والأزمنة الحديثة. وإحدى وظائف هايدغر الكبرى كانت التقليل من قيمة وشأن سارتر (كان الأساتذة يقولون: «كلّ سارتر موجود في هايدغر وبشكل أفضل»). هكذا، لديكم من جهة بوفريه المعاصر لسارتر في مدرسة إعداد المعلمين والمنافس له، والذي صنع لنفسه كمدرّس في مدرسة هنري الرابع موقع شبه فيلسوف باستيراده لهايدغر إلى فرنسا. ومن جهة ثانية، من جهة الحقل الأدبي، هناك بلانشو. ولديكم فئة ثالثة: جماعة Arguments وهي شيء يشبه الهرطقة الماركسية الهامشية. بما أن الشيوعية كانت تحيل بشكل فاقع إلى شيء من الابتذال واسع الانتشار، فقد عملوا على مزج «شِيك» بين الماركسية وهايدغر.
ما يهم مع الكتّاب الأجانب ليس ما يقولونه، ولكن ما يمكننا أن نقولّهم إياه. لهذا فبعض الكتاب المطاطين بشكل خاص يمكن تناقلهم بسهولة أكبر. هذه إحدى فضائل نصوص النبوءات الكبرى متعددة الدلالات، لذا فهي تعبر الأمكنة والأزمنة والعصور والأجيال… إلخ. يسعني القول إذاً إن المفكرين ذوي المرونة المطاطية الكبيرة هم خبز مقدس للتأويلات الإلحاقية والاستخدامات الاستراتيجية.
بعد الاختيار، هناك إبراز المنتج، وهو ما يستكمل العمل بشكل ما. لا نعطيكم سيميل،4 ولكن سنعطيكم معه تقديم سين من الناس. ينبغي ربما أن ننشئ سوسيولوجيا مقارنة للتصديرات وتقديمات الكتب: إنها أفعال نمطية لتمرير الرأسمال الرمزي. على الأقل في الحالات الأكثر شيوعاً، مثلاً مرياك يكتب مقدمة لسولر: الأكبر سناً يكتب تصديراً وينقل رأسماله الرمزي، ولكنه في الوقت نفسه يُظهِرُ قدرته كمستكشف ويظهر كذلك كرمه كراعٍ للشباب، يعترف به ويجد نفسه فيه. هناك الكثير من التبادلات يلعب فيها سوء النية دوراً ضخماً، والتي يجعلها علم الاجتماع الموضوعي أكثر صعوبة. ولكن الاتجاه الذي ينتقل عبره الرأسمال الرمزي ليس دائماً نفسه. بالاستناد إلى القاعدة التي ذكرناها، والتي يتماهى فيها كاتبُ تقديمِ الكتاب مع الكاتب، فإن ليفي ستروس يكتب مقدمة عمل موس حيث يتمثل الرأسمال الرمزي لكاتب مقالة حول الهبة. سأترككم تفكرون في كل هذا. (غالباً ما يقرأ الناس هذه التحليلات بطريقة دراماتيكية، لذلك أريد أن أنتهز فرصة أني في موقف شفوي لأُبيّنَ أن الأمر في الحقيقة جد مسلٍّ، وأنني بكل الاحوال أتسلى جداً).
في نهاية المطاف، يتلقى الكتاب المستورد ماركة جديدة، كان له ماركة الغلاف: لديكم حدس حول أغلفة الناشرين المختلفين والسلاسل والمجموعات المختلفة لكل ناشر، وتعرفون ما تمثله كل واحدة منها بالرجوع إلى فضاء الناشرين الألمان في أذهانكم. لنفترض مثلاً أنكم استبدلتم غلاف دار نشر Suhrkamp بغلاف دار نشر Seuil، فإن معنى الماركة المفروضة على الكتاب يختلف كلياً. لو كان هناك تناظر بنيوي، يمكن للنقل أن يتم بشكل لا بأس به، ولكن هناك دائماً إخفاقات؛ هناك من يفشلون تماماً، إما بفعل الصُدَف أو بفعل الجهل، ولكن غالباً لأنهم يخضعون لعمليات إلحاق واستملاك. في هذه الحالة فإن أثر الغلاف لوحده هو فرض رمزي. سأطرح مثالاً جميلاً، مثال تشومسكي الذي نُشر في Seuil ضمن سلسلة فلسفة. بالنسبة لي، فإن Seuil هي «كاتو5 اليسار»، أي باختصار شخصانية.6 وجد تشومسكي نفسه آنذاك ممهوراً بصبغة ما عبر استراتيجية إلحاق نمطية. نشر تشومسكي في seuil في بيئة ممهورة بِشخص الفيلسوف ريكور، بالتصدي للبنيوية «من دون ذات فاعلة» كما كان يُقال حينها، بحمل رايةِ ذاتٍ ولّادة،7 خلّاقة… إلخ. وهكذا، فالإدراجُ ضمن سلسلة معينة، إلصاق تقديم الكتاب، بفعل محتوى التقديم ولكن أيضاً بفعل موضع كاتب التقديم في الفضاء السائد، كلها متتالية من التحولات، وحتى التشوهات التي تطرأ على الرسالة الأصلية للكتاب.
- المراد هنا الكاثوليكيين اليساريين ، حيث كاتو /كاثو في الدارجة الفرنسية هي اختزال لكاثوليكي. (المترجمة)
- تيار فكري يعتبر أن الشخصية الإنسانية، أن الفرد، هو الأساس وينبغي احترامه واحترام إرادته بغض النظر عن أي شرط مادي واقعي. (المترجمة)
- من الواضح أن بورديو يتلاعب بالكلمات، فصفة ولّاد تحيل أيضاً إلى اختصاص تشومسكي في النحو التوليدي. (المترجمة)
في الحقيقة، هذه المفاعيل البنيوية التي تجعل التحولات والتشوهات المرتبطة باستخدامات استراتيجية للنصوص والكتّاب يمكن أن تُمارَس بغض النظر عن أي تدخل أو تلاعب، بفعل الجهل وحسب. فالفروق بين التقاليد التاريخية إن كان على مستوى الحقل الفكري الصرف، أو في الحقل الاجتماعي بمجمله، شاسعة لدرجة أن إخضاع منتج أجنبي لطرائق في الإدراك والتقييم مكتسبة من تجربة حقل وطني من شأنه أن يخلق تضادات وتنافرات وهمية بين أشياء متشابهة، أو أن يخلق تشابهات وهمية بين أشياء مختلفة. ولتبيان ذلك، ربما ينبغي أن نحلل بالتفصيل ما كانت عليه العلاقات بين الفلاسفة الفرنسيين والفلاسفة الألمان منذ الستينيات، وتبيان كيف أن النوايا المتشابهة تماماً عبّرت عن نفسها ضمن اتخاذ مواقف فلسفية ظاهرياً متعاكسة تماماً، وذلك بالرجوع إلى سياقات فكرية واجتماعية مختلفة جداً. وكي نقول الأشياء بشكل صادم وغريب الأطوار بعض الشيء، ربما ينبغي أن نتساءل إن كان هابرماس أقل ابتعاداً بكثير عمّا قاله فوكو، أو كما يبدو أنه بعيد لو كان قد تكوّن وتكرّس كفيلسوف في فرنسا في سنوات الخمسينات والستينات، وأن فوكو كان ليكون أقلّ اختلافاً عن هابرماس لو أنه تكوّن و تكرّس كفيلسوف في السنوات نفسها ولكن في ألمانيا.(أي أن، بين قوسين، كلا المفكرين يشتركان بأنهما ظاهرياً حرّان تجاه السياق العام ولكنهما متأثران بعمق بالسياق العام هذا، كلٌ في بلده، وفي نيتهما العميقة للهيمنة الفكرية تصدى كل منهما للتقاليد الفكرية الخاصة بكل بلد). على سبيل المثال، قبل أن يغضب بعض الألمان من استخدامات بعض الفلاسفة الفرنسيين لنيتشه (خاصة دولوز وفوكو) وأي نيتشه؟ نيتشه الموجود في جينيالوجيا الأخلاق لفوكو، قبل أن يغضبوا، ربما عليهم أن يفهموا ما الذي أدّاه نيتشه كوظيفة في حقل فلسفي سيطر عليه، من جهة الجامعة، تيار وجودي ذاتي روحاني. لقد أضفت جينيالوجيا الأخلاق حصانة فلسفية على تلك المقاربة العلموية وحتى الوضعية التي مثلتها الصورة المتقادمة لدوركايم، وهي سوسيولوجيا المعرفة أو التاريخ الاجتماعي للأفكار، وجعلتها مقبولة فلسفياً. هكذا، في جهده للتصدي للعقلانية اللاتاريخية بواسطة علم تاريخي (بفكرة الجينالوجيا أو مفهوم الأبستمة)، ساهم فوكو فيما من شأنه أن يبدو من منظور ألماني، حيث لنيتشه معنى آخر، كترميم أو استعادة للاعقلانية حاول هابرماس بين آخرين (أفكر مثلاً بأوتو أبل) أن يبنوا مشروعهم الفلسفي بالتصدي لها. وإن أمكنني أن أقحم نفسي كطرفٍ ثالث في هذا السجال، فإني لست متأكداً أن التعارض جذري إلى هذه الدرجة التي يبدو عليها للوهلة الأولى، بين العقلانية التاريخانية التي أدافع عنها، فكرة التاريخ الاجتماعي للعقل أو فكرة الحقل العلمي كمكان للتكوين التاريخي للشروط الاجتماعية لإنتاج العقل، وبين العقلانية النيوكانطية التي تحاول أن تؤسس لنفسها مكاناً في العقل العلمي باستنادها على مكتسبات الألسنية، كما في حالة هابرماس. يمكن للنسبوية العقلانية والمطلقية المتنورة أن يلتقيا في دفاع كليهما عن تيار الأنوار الألماني l’Aufklärung، ربما لأنهما يعبران عن النيّة نفسها إزاء النظام. بطبيعة الحال أنا أبالغ في جهدي كي أحني العصا بالاتجاه المعاكس، ولكني على كل حال أعتقد أن الفروقات ليست ما نخاله حقاً حين نجهل أثر الموشور المُشوِّه، ذاك الأثر الذي تمارسه الحقول الفكرية الوطنية وعناصر الإدراك والفكر الذي تفرضه هذه الحقول وتلقنّه، وهو أثر يُمارَس على الإنتاج وعلى التلقي.
ولهذا فإن النقاشات التي تؤسس اليوم مباشرة، ورغم أنها تشكل تقدماً نسبةً إلى مرحلة سابقة كان فيها العلماء الأوروبيون يتواصلون عبر أميركا متوسطة بينهم، هذه النقاشات مصطنعة وغير واقعية: إن المفاعيل الخلافية والتباعدية (allodoxia) التي تنتج عن التباعد البنيوي بين السياقات، تُقدِّمُ مصادر لا تنضب لسجالات سيئة النوايا وللاتهامات المتبادلة، يبرز فيها كُتّاب المقالات قليلو الشأن وغير المسؤولين مثل مخترعي أسطورة «فكر 68» أو أولئك الذين يشتكون من «السينيكية». بعض الثقافة التاريخية تكفي لنعرف نزوع المفكرين الصغار لينصبوا أنفسهم قضاة، أو بعبارة أدق لينصبوا أنفسهم فوكييه تنفيل أو جدانوف، من اليمين أو من اليسار على حد سواء، والذين يستبدلون منطق النقاش النقدي الساعي إلى فهم أسباب الفكر المقابل، يستبدلونه بمنطق المحاكمة، كما رأينا حديثاً في قضية هايدغر.
يتوجب على «ريالبوليتيك» العقل، التي لا أفتأ أدافع عنها، أن تشرع في خلق الشروط الاجتماعية للحوار العقلاني. أي العمل على رفع الوعي بما يحكم الحقول الوطنية المختلفة، فإمكانية تشوه النصوص تكون أكبر كلما كبر الجهل بما يحكم حقل الإنتاج الأصلي، وهو مشروع قد يبدو غير ذي قيمة كبيرة طالما لا ندخل في تفاصيله وتفاصيل تنفيذه. في الواقع، يتعلق الأمر بإنتاج معرفة علمية لحقول الإنتاج الوطنية والمقولات الفكرية الوطنية التي تنشأ فيها، ونشر هذه المعرفة على نطاق واسع، وذلك عبر الأساتذة المكلفين بتدريس اللغات والحضارة بشكل خاص. ولنعطي فكرة عن صعوبة هكذا مشروع، يكفي أن نذكر أنه سيصطدم دون شك بأول صعوبة ألا وهي المثيلات السوسيولوجية العفوية للفروقات بين التقاليد الوطنية، والتي ينتجها ويعيد إنتاجها «المختصون» بالتبادلات الدولية، المختصون باللغات الجرمانية والرومانية على سبيل المثال، يعيدون إنتاجها على أساس ألفتهم المزيفة وغير المُفكَّر فيها، ومبدؤها الأساسي هو التعالي الطريف القريب جداً من عنصرية ناعمة، عنصرية «أعرفهم جيداً»، «لن يفعلوها لي»، عنصرية ذلك الذي «يجدهم فظيعين، ولكنه يحبهم جداً رغم كل شيء» (وهو سلوك شائع عند مختصي الحضارات الأجنبية، مثل مختصي اللغة والحضارة اليابانية أو المستشرقين).
إن الحرية تجاه أوجه ومكونات الفكر الوطنية (الأداة التي نفكر بواسطتها في الفوارق بين الإنتاجات) لن تأتي إلا بعد جهد للتفكير بها وجعلها واضحة؛ إذاً سوسيولوجيا وتاريخٌ اجتماعي نقديان يتفكّران في حالهما –بالمعنى الكانطي للكلمة-؛ مقاربات تتخذ من اللاوعي الثقافي الوطني مادة للبحث والإضاءة للتمكّن منها عبر تحليل اجتماعي علمي، وكذلك الكشف، بفضل تقصّي السوابق، عن الأسس التاريخية لمكونات الفكر في التاريخين الوطنيين، وخاصة تاريخ المؤسسات التربوية التعليمية والإنتاج الثقافي، وكذلك للكشف عن الإشكاليات التي يطبقها الفاعلون الاجتماعيون في إنتاجهم أو تلقيهم الثقافي دون أن يعوا (اللاوعي هو التاريخ كما يقول دوركايم).
لا شيء أكثر إلحاحاً من الشروع في تأريخ مقارن لمختلف المناهج العلمية، على غرار النموذج الذي تم بإشراف إيزاك شيفا واوتز جيغل في الأنثروبولوجيا. وَحده التاريخ الاجتماعي المُقارَن للعلوم الاجتماعية يمكنه أن يحرر طرائق التفكير الموروثة من التاريخ، وذلك بمنح الإمكانيات للتمكن الواعي من الأشكال المدرسية للتصنيفات، ومن قوالب التفكير غير المدروسة والإشكاليات المفروضة قسراً.
[…] في الحقيقة، وإن كانت المسألة غير متعلقة بإنكار وجود وطنيات فكرية، مبنية على مصالح فكرية وطنية حقيقية، فإنه يبقى أن الصراعات على المستوى الدولي من أجل الهيمنة في الشأن الثقافي، ومن أجل فرض مبدأ الهيمنة والمهيمن، أعني فرض تعريف محدد وخاص للممارسة الفكرية المشروعة، والقائم على سبيل المثال على تفوق الثقافة والعمق والفلسفة… إلخ أكثر مما هو قائم على الحضارة، الوضوح والأدب… إلخ؛ هذه الصراعات تجد أساسها الأكثر رسوخاً في الصراعات ضمن كل حقل وطني، يدخل فيها التعريف الوطني (المهيمن) والتعريف الأجنبي كَرِهان أو كسلاح. […] يمكننا أن نكثر من الأمثلة عن هذه المفاعيل التي بتحبيذها لتحالفٍ ما أو استبعادٍ ما مبني على سوء الفهم، تمنع أو تقلّص تراكم المكتسبات التاريخية للتقاليد المختلفة وتمنع كذلك تجاوز الحدود الوطنية (أو «نزع الصفة الوطنية») عن المكونات والأوجه الفكرية، وهو الشرط الأول لفكر كونيّ حقيقي.
هذه المادة جزء من سلسلة ترجمات عن الترجمة، وصدر منها حتى الآن مهمة المترجم لفالتر بنيامين (ترجمة كرم نشار)؛ والترجمة بوصفها فتحاً لباسكال كازانوفا (ترجمة نائلة منصور)؛ وترجمة شكسبير لبوريس باسترناك (ترجمة عُدي الزعبي)؛ وهل هناك ترجمة خاطئة جذرياً (ترجمة زينة العظمة).
يندرج هذا النص ضمن الجمهورية السابعة والسبعين، ويتضمن العدد: كيف يرى السوريون علاقة الدين بالدولة لعروة خليفة؛ المحكي السجني في رواية كريستال لجلبار نقاش لضو سليم؛ تفكير حول الرجولة لأنيا مولينبيلت وترجمة رحاب منى شاكر؛ الولادة الثالثة للمسرح السوري لغسان جباعي.
المصدر: الجمهورية