مها حسن
يحصل كاتب “ساذج” حسب تعبير أورهان باموق، على منبر إعلامي، فيضع تحت الضوء أعمالاً ساذجة تتناسب مع ذائقته، ليقوم بمدح السذاجة والترويج لها على أنّها القيمة. جاذبيّة وكذلك يحظى “يوتيوب ما” شديد التفاهة، بملايين المتابعات، ويتم الترويج له، حتى من قِبل المنتقدين له، فتزداد نسب مشاهدته. تقوم صبية أو شاب بانتقاد هذا الفيديو “التافه”، وهم يستخدمون ألفاظاً بذيئة، فيحصلون على آلاف التعليقات، التي يجدون مكاناً لنشرها، لدى السيدة أو السيد المذكور، لتزداد حلقات التفاهة توسّعاً وانتشاراً، وتجتاحنا هذه التفاهة صباح مساء.. ولكن السؤال الذي ربما ينبغي التوقّف عنده، لماذا يتابع الملايين هذه المضامين التافهة، ولماذا لا يحظى المحتوى “الجاد” بهذه المتابعات؟ المشكلة ليست في مروّجي التفاهة، إذ يحق لهؤلاء ممارسة أفكارهم، وعرض “منتجهم” للحصول على الشهرة والمال، طالما أنّهم لا يقومون بفرض ما لديهم بالإكراه، أو بممارسة أي عنف أو أذى مباشر، تكمن المشكلة الحقيقية في مستهلكي هذه التفاهة، فإذا كانت التفاهة تصدر من شخص واحد، ليتابعه الملايين، هذا يعني أنّنا أمام مشكلة مجتمعات برمّتها تنجرف صوب التفاهة. حاولتُ بدوري متابعة أحد محتويات هذه المُنتجات المبثوثة عبر الفيسبوك، بدأ الأمر بشعوري أنّ ما يقوله صاحب البثّ المباشر مقبولاً ويمكن سماع وجهة نظره، كان كلام الرجل معقولاً في الدقائق الأولى، ثم فجأة، كأنّ أفعى لسعته، راح يشتم ويُطلق الرذاذ من فمه، ويستعمل ألفاظاً بذيئة ويُهدّد ويتوعد، بصوت حاد مزعج.. الأمر الذي جعلني أندم على حكمي المتسرّع على الدقائق الأولى الهادئة، التي لم تكن من التركيب الأصلي لتكوين هذا الشخص، والذي يؤكد أنّ متابعيه يفعلون، بانتظار مرور دقائق الملل الأولى. يقول صديق مشرف على أحد نوادي القراءة في العالم العربي: “أعاني من صعوبة في العثور على قارئ جاد، وأنا مصدوم حتى بالوجوه الثقافية التي تحمل خطاباً عادياً مُحبطاً”. أردّ على الصديق، بأنّ التفاهة اليوم ظاهرة عالمية، تعاني منها أغلب الشعوب، ولهذا كتب آلان دونو “نظام التفاهة”، بينما ارتكن لها ميلان كونديرا في “حفلة التفاهة” ، وكانت قد صدرت من قبل كتباً مهمة تعالج ظاهرة تعويم السطحي والهزيل، يمكن فقط ذكر بعض العناوين، مثل “المثقفون المزيفون” أو “مجتمع الاستعراض”، الأمر الذي يجعل أحدنا يتوقف طويلاً أمام أسباب انتشار التفاهة وجاذبيتها. التفاهة ضد الضجر يمكن قبول التفاهة كتوجّه فكري أحياناً، يُرغب منه التحرر من طبقات الضغط الحياتية المكثّفة، وهذا تقريباً ما رمى إليه كونديرا في روايته “حفلة التفاهة”، التي خلص فيها إلى قبول التفاهة وعدم أخذ الحياة على محمل الجد. يمكن قبول هذا ربما والتعاطي معه حين يتعلق الأمر بالمتعة الشخصية، أي حين تكون هذه التفاهة مسببة للسعادة: حفلة لمطربة خفيفة الظل ـ فيلم أكشن تافه لكنّه مليء بالتشويق ـ التفرّج على راقصة مبتذلة… ولكن حين يتعلّق الأمر بظاهرة تغزو المجتمع، وتساهم في تكريس القاعدة المجحفة في الاقتصاد، حول انتصار العملة الرديئة، لتنطبق على الأخلاق والمفاهيم في السياسة والمجتمع والثقافة، لتنبذ العملة الجيدة، فما هي أسباب انجذاب العالم، أو الشريحة الكبرى من القاعدة الجماهيرية إلى التفاهة ونفورها من العمق؟ هل يتعلّق الأمر بتعميم ذائقة فاسدة، أم يتعلق الأمر بعيوب العمق ونقصانه؟ التفاهة.. كرَدٍّ على التفاهة تتمتع التفاهة أحياناً بقدرتها على خلق المتعة الآنية، لأنّ بعض العمق مُضجر، ولأنّ الغالبية العظمى من الناس، تتوق إلى البحث عن الاسترخاء والراحة، بعد قضاء ساعات طويلة في عمل مرهق وشاق، لذلك تبدو تلك التسالي السطحية جذابة لكائنات أرهقها ضغط العيش، تتحوّل التفاهة هنا إلى قيمة اقتصادية منتجة، تسعى العديد من المؤسسات الاقتصادية إلى ترويجها وكسب المزيد من المال، عبر إنتاج السلع المسلية ـ التافهة. جاذبيّة وبحسب آلن دوبو، فإنّ التفاهة “مسألة جدية بامتياز” يتحدّث فيها عن سيطرة التافهين على مواقع أساسيّة من الخريطة الاجتماعية، واختراقهم للسياسة والإعلام والفن، ليقول: لقد تشيّدت شريحة كاملة من التافهين والجاهلين وذوي البساطة الفكرية وكل ذلك لخدمة أغراض السوق بالنهاية. جاذبيّة قد يشعر بعض الجادين والباحثين عن العمق بالعزلة، نتيجة اجتياح التفاهة للذائقة العامة، فيضطر بعضهم إلى مسايرة السائد لأنّه لا يتحمّل تقوقعه، وهذه القاعدة البراغماتية لإعادة إنتاج التفاهة، لا تتسبب فقط بتوسيع دائرة التفاهة وانتصارها، بل وبسحب ميزات العالم المختلف: الجاد والعميق، المهدد بالإقصاء والكآبة واللافهم، لأنّه يرى سيطرة قاعدة “بريق التفاهة الجذاب”، الذي بات ماركة للنجاح والشهرة وجلب المال. جاذبيّة. *- عن موقع: ليفانت.
المصدر: ليفانت