يزيد صايغ
يشي قرار النيابة العامة المصرية إغلاق ملف التحقيقات في مقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني بحرص عبد الفتاح السيسي على تجنّب إثارة تحديات من داخل نظامه.
احتفل الناشطون الحقوقيون حول العالم حين أفرجت أجهزة الأمن المصرية في 3 كانون الأول/ديسمبر الجاري عن ثلاثة أعضاء في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية. وخلال الأسبوعين اللذين أمضوهما قيد الاحتجاز، لم يتم توجيه تهم رسمية إليهم، إنما نسب إليهم الانضمام إلى جماعة إرهابية، ونشر أخبار كاذبة، والتحريض على التظاهر، بسبب عملهم على رصد حالات الاحتجاز التعسفي وأوضاع السجون وأحكام الإعدام في مصر. وبعد إخلاء سبيلهم مباشرةً، أمرت محكمة الإرهاب تجميد أصولهم، ما يشير إلى أن هذه القضية لم تُغلق بعد البتة.
وفي اتّجاه مغاير تمامًا، أعلنت النيابة العامة المصرية في الأول من كانون الأول/ديسمبر أنها ستغلق “مؤقتًا” ملف التحقيق في مقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني وما تعرّض له من تعذيب مروّع في القاهرة منذ حوالي خمس سنوات. وبعد سلسلة من الخيوط الزائفة التي أطلقتها أجهزة الأمن المصرية والتي اعتبرها المدعي العام الإيطالي سيرجيو كولايوتشو العام الماضي بمثابة محاولات متعمّدة “لتضليل التحقيقات”، قد يُحاكَم خمسة ضباط أمنيين مصريين يُشتبه بضلوعهم في مقتل ريجيني غيابيًا في إيطاليا.
تُتقن السلطات المصرية عمومًا، والأجهزة الأمنية خصوصًا، فنون المراوغة وتشويه المعلومات وغيرها من تكتيكات المماطلة، وتستخدمها كلما واجهت ضغوطًا خارجية لإجراء إصلاحات يُعتد بها على المستويات الاقتصادية والتشريعية والإدارية وفي مجال حقوق الإنسان. لكن المُلفت منذ فتح قضية ريجيني، أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لم يبذل جهودًا أكبر لإبعاد إدارته عن تداعيات هذه الجريمة وتخفيف الضرر الذي طال سمعتها في الأوساط الدولية.
على المستوى النظري، يمكن القول إن السيسي ربما تبنّى هذا الموقف لأن خيوط العملية قادت من مرتكبي الجريمة إلى مكتب الرئاسة المصرية، كي لا نقول إلى الرئيس شخصيًا. يظهر هنا التشابه الكبير مع طريقة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في اسطنبول في تشرين الأول/أكتوبر 2018 على يد مجموعة من القتلة نفّذوا العملية بناءً على أوامر كلٍّ من المستشار الأمني لولي العهد محمد بن سلمان ومعاونه المقرَّب، ونائب رئيس جهاز الاستخبارات العامة. إن هذين الأخيرين، إضافةً إلى ثمانية عشر مسؤولًا أمنيًا سعوديًا آخرين، يحاكَمون غيابيًا في تركيا. لكن ريجيني لم يشكّل أي تهديد يستدعي لفت انتباه الرئيس المصري، وغالب الظن أن السيسي ومحيطه لم يعلموا حتى بوجود المواطن الإيطالي في مصر، أو حتى باختفائه، قبل أن يجري التداول بهذا الخبر في وسائل الإعلام الدولية.
إذًا، تبدو الفرضية الأكثر ترجيحًا أن تعامل السيسي مع قضية ريجيني كان ولا يزال خاضعًا لديناميات العلاقة التي تجمع الرئيس بأجهزة مهمة في الدولة، يعوّل على دعمها لتحصين موقعه الرئاسي وتعزيز قبضته على السلطة. وحين بان جليًا أن السلطات المصرية تواجه مشكلة خطيرة تستدعي تدخّل الرئيس، كانت هيئات النيابة العامة والأجهزة الأمنية المصرية ووسائل الإعلام المتصلة بها قد نفت أي علمٍ بالجريمة أو ضلوعٍ فيها.
واجه السيسي موقفًا حرجًا منذ بداية هذه القضية: فحتى لو اتّخذ إجراءات مناسبة لاعتُبر ذاك خروجًا عن السردية الرسمية لحكومته. كما أن البيانات الرسمية الصادرة عن الأجهزة الأمنية بأن ريجيني اختُطف وقُتل على يد عصابة إجرامية، لم تحظَ بأي صدقية خارج مصر. لكن ربما كان الهدف الحقيقي لهذه الادعاءات التسبّب بإحراج أكبر للسيسي في حال قرّر العدول عن تبنّي الموقف الرسمي. وهكذا، نجحت الأجهزة الأمنية في حماية نفسها عبر زيادة الأكلاف السياسية المترتبة عن اتخاذ إجراءات مناسبة.
هل كان من الممكن أن يتّخذ السيسي موقفًا أكثر حزمًا لو أراد ذلك حقًا؟ لا شك في أنه الشخصية الأقوى في مصر، لكنه مضطر إلى قياس خطاه بدقة والتفاوض بشكل متواصل مع مختلف القطاعات المؤسساتية التي يضمّها ائتلافه الحاكم، وخصوصًا القوات المسلحة، ووزارة الداخلية والأجهزة الأمنية التابعة لها، والقضاء. وهو يتأثّر كذلك بالديناميات التنافسية داخل كل من هذه القطاعات، وبالمعارك التي تدور بينها على النفوذ.
من جهة، يستطيع السيسي استغلال الخصومات القائمة بين مختلف الشلل لمصلحته الخاصة، نظرًا إلى نفوذه الكبير. فخلال تولّيه سابقًا منصب مدير إدارة المخابرات الحربية والاستطلاع، كان على دراية تامة بأسرار زملائه الدفينة. وهو يسيطر الآن أيضًا، بصفته رئيسًا للبلاد، على جهاز المخابرات العامة (الذي يتبع له مباشرةً) وهيئة الرقابة الإدارية التي يترأسها ويعمل فيها بشكل شبه حصري ضباط متقاعدون وآخرون في الخدمة الفعلية. ويُستخدَم الجهازان للترهيب والمعاقبة.
من جهة أخرى، يُعتبر تأليب الشلل البيروقراطية ومجموعات المصالح ضد بعضها البعض أكثر من مجرد نفوذ، إذ يتطلّب ذلك أن يقدّم السيسي لجميع الأطراف شيئًا ما لضمان وقوفها إلى جانبه. في هذا السياق، تتراوح المكافآت التي تحصل عليها هذه الأطراف بين تسهيلات مادية، كإفساح المجال أمامها للاستثمار في نشاط تجاري؛ وسياسية، مثل منحها الاستقلالية المؤسساتية للقيام بكل ما تريده عملياً ضمن نطاق صلاحياتها، التي تحرص كل الحرص على حمايتها. ولا شكّ في أن الانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان تشكّل إحدى الخصائص الهيكلية للنظام السلطوي القائم في مصر، وهي تخدم مصالح إدارة السيسي بشكل عام. لكن الشكل الذي تتّخذه هذه الانتهاكات وكيفية حدوثها يبقيان رهن أجندات مختلف الفروع والشلل، وحتى العناصر، في الشرطة والأجهزة الأمنية.
هذا الهامش من الاستقلالية الذي يمنحه السيسي مُرغمًا إلى مؤسسات الدولة الرئيسة يضعه في موقف شبيه بدكتاتور عربي آخر هو صدام حسين. فبين العامين 1991 و2003، منع الرئيس العراقي الراحل مرات عدّة مفتشي الأسلحة النووية التابعين للأمم المتحدة من تنفيذ مهمتهم، على الرغم من أن التحقق من عدم وجود منشآت نووية وأنشطة تخصيب كان شرطًا أساسيًا لتخفيف العقوبات الشاملة التي كانت البلاد ترزح تحت وطأتها. المفارقة المرّة أن صدام حسين لم يكن لديه ما يُخفيه، إذ إن البرنامج النووي قد دُمر أو تمّ تفكيكه، لكنه اعتبر أن رضوخه لمطالب الأمم المتحدة سيضعف قدرته على إظهار قوته محليًا، ويثير تحديات من داخل نظامه.
في هذا الإطار، يبدو منطق السيسي مشابهًا لذلك، إذ لا يمكن أن يسمح بأن يعتبر أعضاء ائتلافه الحاكم وشبكاتهم أنه رضخ ببساطة إلى طلب قضائي صادر عن حكومة أجنبية، ولا سيما إذا كان ذلك قد يؤدي إلى عواقب وخيمة لهؤلاء الأعضاء وتراجع في مكانتهم ضمن هيكلية القيادة الداخلية للنظام. فالسيسي، على عكس صدام حسين، لا يواجه أي تهديد فعلي بالتعرّض إلى عقوبات خارجية أو غير ذلك، وبالتالي ما من سبب يدفعه إلى التعاون مع القضاء الإيطالي.
وإنّ دلّ تاريخ مصر الحديث على شيء، فهو يدلّ على أن السيسي لن يخطئ إن ظنّ، كما فعل أسلافه، بأن القوى الخارجية ستقبل دائمًا كل ما يفعله النظام المصري القائم في أي مجالٍ كان. فتكتيكات المماطلة والتأخير التي اتّبعتها السلطات والأجهزة الأمنية المصرية في قضية ريجيني نجحت بكل بساطة لأن الحكومة الإيطالية سمحت لها بذلك.
المصدر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط