لم يجد مبعوث الأمم المتحدة الى سورية غير بيدرسون ما يدافع به عن نفسه بعد رد الفعل الثوري العارم على استعماله مصطلح (العدالة التصالحية) المريب الذي استعمله في احاطته أمام مجلس الأمن يوم الاربعاء سوى قوله إنه “مجرد خطأ غير مقصود في الترجمة”! وهو في الواقع دفاع ضعيف ومضحك، وتراجع جبان وسريع، أمام أول موجة اعتراض عنيف تصدر عن أطياف الثورة والمعارضة السياسية والشعبية.
إذ يعلم الخبراء جيدا أن الخطابات والمذكرات والوثائق والإحاطات التي تقدم في الأمم المتحدة، أو تصدر عنها، تخضع لمراجعات متأنية ومتتالية ورفيعة المستوى، بحيث تنتفي احتمالية وقوع “خطأ ” كهذا، وأن المصطلحات والصياغات تعرض على قانونيين ومدققين لغويين تحاشيا للتهور في أي كلمة. فصياغات الامم المتحدة تشبه في دقتها المعادلات الكيماوية، أو تركيب الأدوية، لأن أي خطأ فيها قد يسبب إزهاق أرواح كثيرة.
أرجح الظن أن مصطلح (العدالة التصالحية) مفهوم مستحدث متعمد صكه بيدرسون بنفسه، ومقصود مبنى ومعنى، أراد الديبلوماسي النرويجي القادم من الظل تثبيته وتمريره الى متون وثائق الأمم المتحدة، مشفوعا بمصادقة مجلس الأمن الدولي، ليكتسب قوة قطعية، ويندرج فيما بعد في صلب اللغة الدولية المتداولة بشأن الأزمة السورية ويفرض علينا، كما فرضت مصطلحات عديدة لم يكن لها أثر إيجابي واحد، بينما شوشت آثارها السلبية ومعانيها الغامضة على حقائق القضية السورية، وعقدتها، وهي في الأصل قضية بسيطة وسهلة لا تحتاج ابتكار مصطلحات سفسطائية وبيزنطية. فهي تتلخص كما يعلم العالم كله بوجود نظام حكم طغياني توتاليتاري شمولي، ليس له سابق ولا مثيل في هذا العصر سوى نظام الخمير الحمر الذي سقط منذ ثلاثين سنة، ما زال بعد عشرة أعوام يبيد المواطنين ويزهق أرواح الأبرياء بكل وسائل الإجرام البشعة، والأسلحة المحرمة، بحماية ومساندة كاملة من روسيا وايران، وبالمقابل وجود ثورة شعبية اعترف غالبية العالم بمشروعيتها وأخلاقيتها، فلماذا يتبارى بيدرسون ومن سبقه من مبعوثي الأمم المتحدة في اختراع مصطلحات مضللة تساعد الجناة على التواري خلفها، والتملص من مسؤوليتهم الجنائية والسياسية عما اقترفوه، وهو إجرام يلطخ وجه العالم كله إذا لم يضع حدا له، ويحاسب الجناة والحماة والمتورطين والمحرضين والمسلحين، بل والمتفرجين ..
لو استرجعنا النصوص الأممية والدولية الخاصة بالأزمة السورية الصادرة عن الأطراف كافة منذ وثيقة جنيف1 لعام 2012 مرورا بقرارات مجلس الأمن، وإحاطات مبعوثي السكرتير العام، وخاصة غير بيدرسون وسلفه ستيفان دي ميستورا لوجدنا الكثير من هذه الابتكارات اللغوية والسياسية التي تضر ولا تنفع، وتثير اللغط، وتشوش على الحقائق البسيطة والسهلة، مثل مصطلح “المرحلة الانتقالية” ، ومصطلح “هيئة الحكم الانتقالية” ، والمسؤولين السوريين الذين لم تتلطخ أيديهم بالدماء، و”ممثلي المجتمع المدني”، و”العدالة الانتقالية”، وأخيرا مصطلح “العدالة التعويضية”، وتوأمه مصطلح “العدالة التصالحية” . وكل واحد من هذه المصطلحات يحتمل تأويلات وتفسيرات واجتهادات متعارضة ومتناقضة، يحتاج الاتفاق على فهم مشترك لكل واحد منها، لجنة خبراء قانونيين وسياسيين ولغويين تجتمع شهورا وربما سنوات.
كل ذلك برأينا مقصود من قبل جهابذة المرجعيات الدبلوماسية والقانونية والسياسية في موسكو وطهران ودمشق، هدفه تبديد الوقت وإعطاء الفرص اللازمة للطغاة والجناة والحماة ليستكملوا ما بدأوه عام 2011 من مذابح جماعية لتصفية كل من يعارض نظام الأسد.
ولا نجافي الواقع والمنطق إذا قلنا إن ثمة حبلا سريا يربط المصطلح البيدرسوني الفريد، ومصطلح السيد نصر الحريري (المفوضية العليا للانتخابات) الذي لم يوضح لنا صائغه حتى الآن أي انتخابات كان يعني، ويريد وضع أجهزة الائتلاف وإدارييه في حالة تأهب قصوى للمشاركة فيها، والتمرين على خوضها.
نعم ثمة علاقة منطقية وتزامنية بين معنى العدالة التصالحية، ومغزى الاستعداد للمشاركة في انتخابات قادمة غير محددة، وليس هناك في الأفق سوى انتخابات نيسان القادم لمنح الأسد سبع سنوات اضافية. كما لا نجافي الواقع والمنطق إذا قلنا إن صمت هادي البحرة رئيس هيئة المعارضة التي تفاوض في اللجنة الدستورية على زلة بيدرسون صمت غير مفهوم ولا مقبول، بل يفسر لغير صالحه، وهو الوحيد الذي رأى في ختام الجولة الرابعة أنها ايجابية.
لقد أراد بيدرسون استبدال المصطلح القديم (العدالة الانتقالية) الذي رأى فيه الحقوقيون بداية جادة لمحاسبة مجرمي الحرب وسفاحي سورية من كل الأطراف، وطرح مصطلحه الجديد (العدالة التصالحية) متبنيا معناه بالكامل، أي التصالح بين الضحايا الأبرياء والمجرمين القتلة، كخطوة جديدة على طريق إنهاء الثورة وتصفية حقوق ومطالب الشعب السوري بأساليب وطريق مختلفة ومتعددة، كما نرى. مرة عن طريق المعارضة الهزيلة وتنازلاتها المريبة وانزلاقاتها في مشاريع برعاية روسية أو بعض حلفاء روسيا. ومرة عن طريق المبعوثين الأمميين الذين ثبت أن دورهم الوحيد هو تنفيذ الأجندات الروسية، الطرف القوي في مجلس الأمن. وكان دي ميستورا قد جنح بعيدا عن مسار جنيف الأممي، وأخذ يخترع طرقا التفافية ارضاء لموسكو، كتقسيم المعارضة الى ثلاثة أطراف يستحيل عليهم الاتفاق على أي بند من بنود الدستور، واختراع السلال الاربع، والاصرار على اعطاء كوتا محددة للنساء، وكأنه ينوي اصلاح مشاكل المجتمع السوري قبل أن يحل أزمة السلطة، ويوقف المذبحة!
لقد فاجأت قوانا الوطنية والثورية بيدرسون برد فعلها السريع الرافض بقوة لهذا التحريف المتعمد، كما فاجأت قوانا الوطنية والثورية قبل شهر نصر الحريري رئيس الائتلاف في محاولته تمهيد الطريق للتطبيع الانتخابي مع النظام السفاح. وفي الحالتين اضطر الاثنان للتراجع السريع والتنصل من المسؤولية. ولا شك أن ردتي الفعل في المرتين عبرتا عن وعي عميق ويقظة شديدة من قبل القوى الوطنية الثورية. وإننا لندعو هذه القوى الباسلة الى تفعيل حملتها وانتفاضتها ضد اللجنة الدستورية برئاسة هادي البحرة لمقاطعة الجولة القادمة من محادثات 25 كانون الثاني، ووقف هذه المهزلة المسماة (اللجنة الدستورية).
المصدر: موقع ملتقى العروبيين