محمد قواص
اعتبر دونالد ترامب خلال الأربع سنوات المنصرمة أن الصين هي الخصم الأول لأميركا، فيما يبدو أن الخصم الأول بالنسبة الى جو بايدن هو روسيا. يرى الأول أن “أميركا أولاً” تعني استهداف “الآخرين”، حتى لو كانوا تقليدياً من الحلفاء في أوروبا والأطلسي والمنظومة الغربية. ويرى الثاني أن بلاده زعيمة هذا العالم، ومن قواعد الزعامة وضع خط واضح بين الحلفاء وغير الحلفاء، وعليه يعيد الاعتبار للمنظومة الغربية المتأسسة أصلاً على تحالف استراتيجي بنيوي بين ضفتي الأطلسي.
مع دونالد ترامب بات فلاديمير بوتين صديقاً شخصياً حميماً. لا تعرف أميركا حتى الآن حقيقة ما دار في اجتماعهما الثنائي الشهير في هلسنكي في تموز / يوليو 2018. لم يقبل ترامب استنتاجات مؤسسات الأمن في بلاده حول تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية عام 2016. وحين قبل تلك الوقائع بشق النفس، أفتى بأن ذلك التدخل ليس وراء نجاحه في تلك الانتخابات. وحتى حين لمّحت وكالات الاستخبارات الأميركية هذه الأيام الى أن وراء الهجوم السبراني الأخير جهة سيادية في موسكو، واتهم وزير الخارجية مايك بومبيو روسيا علناً، قلل ترامب من الأمر واعتبره مبالغة إعلامية.
يعيد بايدن تصويب الشعيرة نحو روسيا. يعيد تطبيع العلاقات مع أوروبا. يعيد بلاده إلى اتفاقية باريس للمناخ. وينخرط وفق ما تنخرط به بلاده منذ عهد باراك أوباما في مواجهة التحدي الصيني. ووفق الأعراض الأولى لما هو معلن في استراتيجيات الرجل الدولية، فإن ذلك من شأنه رسم ملامح ما تخطط له الإدارة الديموقراطية الجديدة في الشرق الأوسط.
لا تعتبر واشنطن، وفق مؤسسات التفكير المحيطة بفريق بايدن، أن كوريا الشمالية هي ملف مستقل عن ملف العلاقة مع الصين. لن يهرول بايدن لالتقاط صورة مشتركة مع كيم جون أون. ففك العقد الكبرى، وفق عقيدة البزنس التي تباهى بها دونالد ترامب، بدت ساذجة طرب لها الزعيم الكوري الذي رُفع من خلال مقاربة ترامب إلى مصاف الشخصيات الدولية الكبرى التي تقرر مسارات السلم والحرب.
وفق خرائط بايدن، واهتمامه الواضح بإعادة الدور إلى أميركا في قيادة العالم، سيتعامل الرئيس الأميركي الجديد مع ملفات المنطقة. يقر الرجل بأن برنامج إيران للصواريخ الباليستية وشبكة نفوذ طهران وسلوكها في الشرق الأوسط يطرحان إشكالية خطيرة داهمة مهددة للسلم ومزعزعة للاستقرار في المنطقة. لكنه، وهو على حق، يرى أن الأولوية هي التعامل مع البرنامج النووي وضبط شططه. فمن يملك القنبلة النووية، يملك حماية الصواريخ البالستية وتمدده الخبيث خارج الحدود.
يضيف بايدن الى خطط الولايات المتحدة، منذ سنوات، لوقف الصعود الأفقي والعمودي للصين، مهمة عاجلة لمواجهة الدور الروسي في العالم.
وعلى هذا فإن مقاربة المسألة الإيرانية تحمل في ثناياها أعراض مواجهة واشنطن بكين وموسكو معاً. فإذا ما كانت طهران قد لوّحت باتفاقية القرن العملاقة مع الصين، فإن الشراكة الروسية الإيرانية، سواء في عملية استانا بشأن سوريا، أو داخل ملفات مشتركة في القوقاز، أو مصالح البلدين المتبادلة، لا سيما في قطاعي الطاقة والسلاح، تشكل عاملاً رافداً وداعماً لطموحات بوتين الإقليمية والدولية.
على أن إدارة الصراع بين المنظومة الغربية وروسيا تتطلب، إضافة إلى تناغم أميركي أطلسي أوروبي (كان مفقوداً في عهد ترامب)، رؤية مشتركة للتعامل مع الحالة الشاذة التي تمثلها تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان. وفيما أشاد دونالد ترامب بالعلاقة الشخصية الممتازة بأردوغان، كان بايدن عنيفاً، أثناء حملته الانتخابية، في الهجوم على الزعيم التركي والوعد بدعم أي انقلاب ضده (قال لاحقاً مصححاً إنه انقلاب عبر صناديق الاقتراع).
ولئن استفاد أردوغان من تشجيع أميركي ضمني لاحتواء طموحات بوتين في ليبيا وسوريا وحتى في أذربيجان، فإن واشنطن لم تتعامل بالحسم المطلوب مع أنقرة في ملف شرق المتوسط إلا متأخرة، على نحو أوحى بأن الرئيس التركي مستفيد من تقاطع مزاج بوتين وترامب في كره الاتحاد الأوروبي وطموحات بعض بلدانه في مياه المتوسط.
يتيح استكشاف خريطة الأمن الاستراتيجي لإدارة الرئيس الجديد، استشراف الكيفية التي ستدار بها ملفات الشرق الأوسط. والواضح أن بوتين قرأ جيداً المشهد الأميركي بعد الانتخابات الرئاسية، ويسرّع الخطى لتدعيم إمساكه بخيوط اللعبة في سوريا. يستند سيد الكرملين الى نفوذه في دمشق، وحاجة طهران لدعمه، وتفاهماته، القديمة الجديدة، مع إسرائيل. والواضح أيضاً أن أردوغان الذي تلقى صفعة غربية موجعة، من خلال عقوبات أوروبا وواشنطن الأخيرة، يعيد التموضع وفق المعطى الأميركي الجديد. فجأة يُظهر مرونة ورشاقة، ويمهد الطريق لعلاقات من نوع جديد مع بايدن، من خلال الوعد بـ”فتح صفحة جديدة مع الاتحاد الأوروبي”، وفق محادثاته أخيراً مع المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل.
والظاهر أن “الجبهات” تتحرك تحسباً لدخول رجل أميركا الجديد إلى البيت الأبيض في الـ20 من الشهر المقبل. في المقابل، تراقب إيران بقلق ضبابية البت في ملفها، وتستنج أن أميركا، التي وعد رئيسها الجديد بالعودة إلى الاتفاق النووي، تستنزف إرث ترامب في هذا الصدد، وتأخذ علماً بما صدر عن الأوروبيين، وما يكرره الخليجيون، وما بات محسوماً لدى دوائر الأمن الاستراتيجي في الولايات المتحدة، من أن لا عودة إلى الاتفاق النووي كما هو عليه الآن، إلا إذا تقيّدت إيران بالتزاماتها، وذهبت إلى طاولة مفاوضات لتطويره وبحث ملف الصواريخ البالستية وسلوك إيران في المنطقة.
وإذا ما كانت الصين خجولة في التهليل لاتفاق القرن مع إيران (الذي بالغت طهران في التطبيل له)، فذلك أن بكين تعرف أن أي اتفاق إيراني أميركي (غربي) محتمل سيوهن حماسة إيران نحو الصين، ناهيك عن أنه ثبت خلال العامين الماضيين أن مفاتيح السوق الإيراني تمسك بها واشنطن، ولا طائل من الرقص في عرس إيراني متخيل.
المصدر: النهار العربي