د- عبد الناصر سكرية
كان للوفاة المفاجئة للمبدع حاتم علي وقع الصاعقة على جميع من يعرفون أعماله وإنجازاته الفنية المتنوعة ويقدرون قيمتها العالية لجهة كونها أعمالاً تعبر بصدق عن أصالة هوية أمتنا وعمق جذورها وامتداد حضارتها التاريخية ومساهماتها الإنسانية العظيمة. هذا فضلا عما أنجزه من تعبيرات عن مآسي شعبنا الراهنة.. فكانت جميع أعماله ذات نسق متكامل يسترشد بمنهاج وطني – قومي مؤمن جامع. فكأنه كان يرشد اجيال الأمة الشبابية إلى كل ما يشكل أمتهم من تاريخ وحضارة وأصالة وقيم يستدل عليها من أعماله الفنية الإبداعية. يحمل إليهم ما يجمعهم على هوية واحدة وانتماء واحد ومصير واحد موحد. كانت أعماله الفنية مدرسة تربية وتثقيف وتوعية وإرشاد تحث على القيم وتشجع على الفعل محرضة على ترك السلبية والتخلي عن الانتظار.. انتظار الفرج يأتي دون تحمل عناء استيلاده وتحمل أثمان تكونه العلمي الموضوعي، تيمنا واسترشادا بما فعله وبناه الأولون السابقون ممن تحدث عنهم في أعماله وخاطب عقولنا من خلالهم والحديث عنهم. فكان حديثه عنهم موجها إلينا لنقتدي ونهتدي ونستفيد فنغير واقعنا الراهن المتردي إلى مسيرة بناء المستقبل الحر العزيز.
كان حاتم علي في إدراكه وإحساسه مدرسة في وعي التاريخ ومعرفة الذات المجتمعية؛ فكان مثالا في تجسيد مقومات الهوية والانتماء وبالتالي في ترشيد بناء المستقبل على أسس موضوعية سليمة ومتينة..
كان حاتم علي فوق جميع العصبيات الانقسامية البغيضة المتخلفة الفاسدة. ترفع عنها ليلامس صدق الوجدان وصحوة الضمير المطلوبة في مواجهة ما يعانيه شعب سورية العربي وما يتعرض له من مآس ونكبات لا تكاد تخفت قليلا حتى تعاود اندفاعها بقدرية أكبر وفعالية أعلى.
ولعل هذا ما يفسر ذلك الحزن الكبير الذي لف معظم السوريين أو جلهم بوفاته فعبروا جميعا عن تقديرهم لأعماله الفنية وفجيعتهم بفقده المفاجئ. فكان ذلك الحزن العام المشترك تدليلا على أصالة أعماله من جهة؛ كما على أصالة الانتماء الوطني والهوية العربية للشعب السوري العظيم..
وهذا بدوره يكفي لدحض كل مقولات الطائفيين الانعزاليين التقسيميين والرد على كل دعاة العنصرية التقسيمية أيضا وكل المتنكرين لهوية سورية العربية وأصالة انتمائها إلى التاريخ الحضاري لهذه المنطقة العربية. ها هو شعب سورية الذي دفع أثمانا باهظة طلبا لحريته المنتهكة واستعادة لكرامته المهدورة وحقوقه المغتصبة؛ يتوحد لا خلف الاستبداد والإجرام ومن يستنزف خيرات سورية أو تلك الحفنة من المجرمين واللصوص والفاسدين الذين يستفردون بالقوة والنفوذ والسلطان، ولا خلف دعاة العنصرية والطائفية البغيضة؛ وإنما خلف القيم التي جسدها الفقيد حاتم علي وأولها وحدة الهوية والمصير وأصالة الانتماء إلى العروبة..
هكذا انتصر السوريون على دعوات الانقسام والعنصرية فتوحدوا خلف هويتهم الواحدة.. ولكن هذا يطرح إشكالية مهمة: غياب الأطر الجامعة المعبرة عن تلك الهوية الواحدة في الواقع السوري الراهن. إشكالية تثير الكثير من التحديات.. فحينما وجدوا من يعبر عنها بصدق وأصالة تجمهروا خلفه مفجوعين بخسارته.. فهل ترتقي الأطر الراهنة الحرة إلى مستوياتها الوطنية الجامعة ليلتف حولها شعب سورية مجددا؛ فتقود مسيرته التحررية ورد العدوان عليه ووضع حد لآلامه ونكبته ونزيفه المتدفق ألما وشهادة ونزوحا ومعتقلات وتعذيبا؟؟
وكما عبر كثير من الراثين لحاتم علي، فإن وفاته المفاجئة أثارت في الأذهان فورا فجيعة اغتيال المخرج الفذ الراحل مصطفى العقاد نظرا لما بينهما من تماثل في النهج والأصالة والتعبير عن الهوية والأصالة كما التمرد على الواقع..
ولقد اغتيل العقاد في تفجير انتحاري مجرم استهدفه مباشرة قبل خمسة عشر عاما لأنه جسد ذات القيم التي جسدها حاتم علي، كلاهما في أعمال فنية راقية جعلتها في متناول إدراك الجميع فباتت تساهم في صنع وعي جديد مقدمة لالتزام عملي حر..
أفلا يحق التساؤل، والأمر هكذا، عن الوفاة المفاجئة لحاتم علي؟؟ فهل قتل؟ هل قتله المعادون لنهجه الوطني التوحيدي الجامع؟ هل قتله المجرمون الذين يستولون على سورية؟؟
هل قتله أعداء وحدة المصير والهوية والأصالة وما أكثرهم وما أضخم إمكانياتهم وأدواتهم وامتداداتهم في كل مكان؟؟
وبالعودة إلى مسيرة الفنانين العرب في السنوات الأخيرة نلحظ وفاة كثيرين جدا ممن يمثلون هذا النهج الوطني العربي الجامع ذاته. النهج الحر الأصيل هوية وانتماء.. الفنانين الذين واكبوا مسيرة الدفاع عن الشعب والتعبير عن معاناته وقضاياه.. كثيرون جدا منهم ماتوا بشكل مفاجئ أو معاناة من أمراض ” نادرة ” …!!
من نور الشريف ومحمود عبد العزيز وأحمد زكي وممدوح عبد العليم إلى مي سكاف وفدوى سليمان وريم البنا والحكم النعيمي وصولا إلى حاتم علي وكثيرين غيرهم؟؟
ألا يحق التساؤل أنه في خضم الحرب الوجودية الشاملة على أمتنا العربية ومقوماتها وهويتها من أطراف كثيرة محلية وإقليمية ودولية؛ يموت الفنانون الذين يشكلون وعيا مناقضا مواجها لتلك الحرب الشرسة؛ واحدا إثر واحد ومعظمهم في أعمار ليست شائخة !!…لا سيما مع صعود صاروخي للفن الهابط المبتذل ودوائر الإنتاج المشبوهة والمغرضة التي تعمل لإشاعة الفساد والانحطاط وإشاعة الابتذال في كل شيء وتسخيف الوعي وتسفيه الاهتمام العام؟؟!!!
ومع إدراك أهمية الدور الذي لعبه أولئك الفنانون عبر أعمالهم الفنية الكثيرة الناجحة والوعي الذي صنعوه والحقائق التاريخية التي أبرزوها، أفلا ينبغي التوقف عند وفاتهم المفاجئة أو قتلهم عمدًا؟؟ هل اغتالهم من اغتالوا مصطفى العقاد؟؟
أليس ملفتا وفاة كثيرين من قيادات العمل السياسي العربي الحر الذين حافظوا على استقلاليتهم ونظافة مسيرتهم رغم إغراءات المشاريع الشعوبية والمعادية أو ضغوطها الكثيرة؟؟ وفاتهم أيضا وبشكل متلاحق ومفاجئ وهم ليسوا شيوخا هرمين بعد؟؟
وفي ظل تراجع وفشل الأحزاب وسطوع المنافقين وبروز أدوارهم؛ يختفي الأحرار الشرفاء من القيادات وبكثرة؟؟
أليست ملفتة للانتباه ومثيرة للفضول، وفاة الفنانين المؤثرين والقيادات السياسية الشريفة وجميعهم ممن يستمسكون بعرى الخط الوطني العربي الحر والإرادة الشعبية الأصيلة؟ حدث ويحدث هذا في مصر وسورية وفلسطين واليمن والعراق تحديدا …فهل كله صدفة وقدرا أم في الأمر ما يريب؟؟
صحيح أن الموت حق ولكنه يمكن أن يكون صناعة أيضا..
ومع تطور تقنيات القتل وصناعة السموم والموت؛ ألا ينبغي التوقف عند تلك الظاهرة المحزنة؟؟ خاصة وأن أكثر الناس استخفافا بالحذر والتوقي والحماية الشخصية هم الأحرار الشرفاء المؤمنون بقضاء الله وقدره؟؟ (مات حاتم علي في أحد فنادق القاهرة ويحكى أنه لم يستجب أحد لإسعافه رغم طلبه ذلك ؟؟!!…)
رحمهم الله جميعا وليتعظ الباقون فيتنبهوا إلى صحتهم أولا وإلى ضرورات أمنهم الشخصي والغذائي.. فهم يؤدون دورا مهما في تشكيل الوعي وتحريض الذات وحماية ما تبقى من موجودات الأمة الأخلاقية ومورثاتها الحضارية..
في الزمن الراهن يحتل الإعلام دورا متقدما في صناعة الوعي، والفن أحد أشكال الإعلام المؤثر والفاعل.. يبقى أن الفنانين الشرفاء تنتظرهم مسؤوليات كبيرة في إكمال مسيرة مصطفى العقاد وحاتم علي الهادفة إلى تأسيس وعي عربي سليم متوازن ومعرفة بالذات وبالتاريخ والثوابت الوطنية والقومية كما بالتفاعل مع آلام الناس والتعبير عن تطلعاتهم وآمالهم.