عدنان أبو عامر
تواترت الأنباء في الأيام الأخيرة عن جهود تبذلها عواصم عربية “طبعت” علاقاتها مع إسرائيل لسحب سوريا إلى ذات مسلسل التطبيع الذي بدأته إدارة الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب مع عدد من الدول العربية وإسرائيل، ومن المرجح أن يواصله الرئيس الجديد جو بايدن.
يتركز الجهد العربي أساساً في تصاعد العلاقة الوثيقة والصداقة الناشئة بين الإمارات والنظام السوري لإقناع الأسد بالتطبيع مع إسرائيل، لاسيما وأن ردود الفعل السورية الرسمية الصادرة عن دمشق في التعقيب على التطبيع الذي قامت به الإمارات والبحرين والسودان والمغرب لم يكن وفق المتوقع، بل جاء فاترا وباردا، بعيدا عن العبارات الحماسية التي دأب على إصدارها بين حين وآخر.
توقف الإسرائيليون مطولاً عند صمت النظام السوري أمام تلك الاتفاقيات التطبيعية، ولم يصدر عنه شجب قوي، بل انتشر مقطع فيديو سابق للقيادي البعثي السوري مهدي دخل الله، وهو يدعو لتوقيع سوريا معاهدة سلام مع إسرائيل، طالما أنها منوطة بتفاهمات روسية أميركية، متوقعا أن تتم “قريباً جداً”.
أكثر من ذلك، فما زالت أصداء مقابلة الأسد مع وسائل إعلام روسية قبل أسابيع تتردد في الأوساط الإسرائيلية، حين اشترط التوصل إلى اتفاق سلام مع إسرائيل بانسحابها من الجولان، فضلا عن عدم تعقيبه على انطلاق المفاوضات اللبنانية الإسرائيلية لترسيم حدودهما البحرية.
صحيح أن التفكير للوهلة الأولى في مدى نجاح المحاولات العربية والغربية لتحويل سوريا إلى حليف لإسرائيل يبقى تخميناً ليس أكثر، لكن التطبيع العربي الإسرائيلي يوضح الاتجاه الذي يسير نحوه اللاعبون في السياسة الخارجية بالمنطقة، خاصة مثلث سوريا والإمارات وإسرائيل.
في المقابل، فإن تقارب نظام الأسد تجاه من تصفها إسرائيل بـ”الدول المعتدلة”، يضع أمامه تحدياً جدياً في مدى سماح إيران له بذلك، رغم علمه الأكيد أن نجاح محاولات إعادة إعمار الدولة السورية التي تعيش أوضاعا من التمزق الداخلي والدمار الكبير، يعتمد، مع منطلقات أخرى، على تقارب الأسد مع الغرب الداعم لإسرائيل، وتلك “الدول المعتدلة”، لكن طهران، التي عملت لإبقائه في السلطة، ليس لديها نوايا لتخليص سوريا من قبضتها.
في الوقت ذاته، تتواصل الهجمات الجوية الإسرائيلية ضد المواقع العسكرية الإيرانية في قلب سوريا، وتحول جنوب سوريا لفترة طويلة ساحة معركة حقيقية بين العديد من القوات والقوى المتعارضة، حيث تحاول إسرائيل من خلال اتفاق ضمني بين روسيا والولايات المتحدة منع إيران من زيادة نفوذها في الأراضي السورية.
مع العلم أن نظام الأسد يراقب العمليات الإيرانية في الجنوب، ولا يظهر حماساً لمحاولة طهران الاستيلاء على أجزاء كبيرة من الدولة، وتخرج بين حين وآخر عن أوساطه إشارات وتلميحات يظهر فيها أن إيران تحولت إلى عبء عليه، رغم ما قدمته له من خدمات مصيرية، رغم أن كل محاولات الغرب للإضرار بالعلاقات بين دمشق وطهران باءت بالفشل، على الأقل حتى الآن.
بالتزامن مع هذه التطورات، يمكن أن نرى التأثيرات المتوقعة للمصالحة الخليجية الأخيرة على الملف السوري، ومدى إمكانية سحب سوريا من المحور الإيراني، وإعادتها لأحضان الدول العربية المعتدلة، خاصة بعد مصالحة حقيقية بين السعودية وقطر بعد سنوات من الانقسام والعداء المفتوح، وبالتالي يمكن أن نتصور أن تعاون هذه الدول في إعادة إعمار سوريا قد يؤدي بخروجها التدريجي من الرعاية الإيرانية، تمهيدا للتقارب مع الدول المطبعة مع إسرائيل، وصولا إلى تقدير، قد يكون بعيد المدى، بالتوصل إلى اتفاق مع إسرائيل.
يقر الإسرائيليون أن سوريا 2021 ليست الدولة نفسها التي عرفوها في الماضي، فالخرائط الجغرافية لم تعد كما كانت، لأنه منذ 2011 وصلت القوات الإيرانية تباعاً، عاما بعد عام، وفي سبتمبر 2015 باتت الدولة السورية محاطة إحاطة كاملة بالوجود الروسي الهائل، مع وجود قبضة أميركية معينة، واليوم بعد مرور السنوات العشر، فقد استعاد النظام بعض الأراضي، لكن الأقليات المسلحة وضعت حدودًا جديدة لسوريا.
ولذلك فإنه عند الحديث عن أي تقارب سوري إسرائيلي، يضع الإسرائيليون في اعتبارهم أن مناطق السيطرة في الدولة موزعة على العديد من الأطراف: فتركيا تسيطر على أراض في الشمال الغربي؛ والأكراد في الشمال الشرقي؛ وهناك محاولات إيرانية للتسلل إلى مختلف أرجاء الدولة طيلة الوقت، خاصة في قطاع البوكمال، مع الميليشيات الأفغانية والباكستانية.
قراءة العلاقات الخارجية للنظام السوري لا يظهر الإمارات وحدها في صورة التقارب معه، بل إن هناك عددا من الدول العربية تحاول الاقتراب من دمشق، وإعادتها إلى الجامعة العربية، ومنها مصر، حليفة إسرائيل، رغم أن السيسي الذي قدم مساعدات أمنية وسياسية لنظام الأسد يخشى ردود الفعل الأميركي والإسرائيلي على تحركاته هذه، وبالتالي فهو حذر من الاقتراب أكثر من اللازم، لكن التعرف على عمق العلاقات المصرية الإسرائيلية، لاسيما بعد انقلاب السيسي في 2013، يقدم إجابة جديدة عما قد يقف خلف هذا التقارب بين القاهرة ودمشق، ومدى وجود تل أبيب بينهما.
هذا يأخذنا بالضرورة إلى محاولة استشراف السياسة الأميركية تجاه الملف السوري الإسرائيلي، واحتمالات سعي البيت الأبيض لعقد صفقة تطبيع بينهما، أخذا بنظر الاعتبار “تحلحلا” مفترضا في موقف الجامعة العربية، ودول مجلس التعاون الخليجي تجاه الأسد، خاصة بعد افتتاح عدد من السفارات العربية والخليجية في دمشق، والحراك العربي الحاصل تجاه حصول النظام السوري على مقعده في الجامعة العربية.
مع أن التطبيع السوداني مع إسرائيل، ورفع السودان من قائمة الإرهاب الأميركية، قد تشكل سببا إضافيا لدى إدارة بايدن للتفكير في صفقة مماثلة قد تحصل في سوريا، رغم نفي الأسد، ظاهريا، لأي توجه للتطبيع مع إسرائيل، ورهن قرارا مماثلا بتخليها عن مرتفعات الجولان، وهو ما يعتبر أمرا مستحيلا بالنسبة لإسرائيل في هذه الفترة.
في السياق ذاته، تشهد العلاقات السورية مع السلطة الفلسطينية تنامياً ملحوظا، وهي التي تستعد للدخول في عملية سياسية مع إسرائيل برعاية الإدارة الأميركية الجديدة، في حين تبقي على قطيعة مع حركة حماس، التي اختلفت معها في النظرة إلى الثورة السورية منذ بداياتها الأولى.
منذ 2013 أجرت السلطة الفلسطينية عبر مسؤوليها قرابة سبع زيارات رسمية، وفي واحدة منها أهدى الأسد نظيره الفلسطينيّ محمود عبّاس كتاب القرآن الكريم مكتوباً بماء الذهب، أي مفارقة هذه، وفي يناير 2019 افتتح تلفزيون فلسطين الرسميّ مقرّاً له في دمشق.
في مثل هذه الحالة، لا يظهر أنّ علاقة السلطة الفلسطينية بمصر والسعوديّة ستتأثّر سلباً عقب تنامي علاقاتها مع سوريا، فالقاهرة لديها علاقات أمنيّة وعسكريّة بدمشق، ومعاداة الثورات العربيّة باتت قاسماً مشتركاً بين القاهرة ودمشق والرياض، وخرجت إشارات أخيراً برغبة الأخيرتين في التقارب، وعلاقة السعوديّة ومصر بحماس ليست في أحسن أحوالها، كما أنّ وجود روسيا، المؤثّر الأكبر على سوريا، قد يعيق مصالحتها بحماس، فموسكو غير معنيّة بعلاقتهما، لأنّها تقوّي موقف طهران في دمشق، وتستفزّ إسرائيل، وسوريا لا تستطيع إعادة علاقتها بـحماس دون ضوء أخضر روسيّ.
في السياق ذاته، فإن تزايد الحديث عن جهود عربية ودولية تجري لتطبيع إسرائيلي سوري، ولو كان على دفعات، يعيد إلى الأذهان صفقة تبادل الأسرى بينهما في 2019 بشأن استعادة جثة الجندي الإسرائيلي زخاريا باومل مقابل إطلاق سراح اثنين من الأسرى السوريين.
صحيح أن ما حصل مع السوريين يظهرها صفقة متواضعة، لكن دلالاتها السياسية أكبر من أن تخطئها العين، لأنها جديرة بالاهتمام، لأننا يجب أن “ننادي الصبي باسمه”، فنحن أمام صفقة ثلاثية بين إسرائيل وسوريا وروسيا، ورغم تكتم مختلف الأطراف على تفاصيل هذه الصفقة، لكن الجميع يعلم أن فلاديمير بوتين لا يقدم وجبات مجانية، ولابد لمن يتسلّم البضاعة الإسرائيلية أن يدفع ثمنها.
يتوافق الطرفان الإسرائيلي والسوري، ومعهما الروسي، أن ما حصل بين تل أبيب ودمشق، قد يعتبر مقدمة لصفقات أخرى في الطريق، لأن القرارات المصيرية والمهمة الخاصة بأمن إسرائيل يقررها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي يزيد من مركزيته في اتخاذ القرارات، أما الحكومة والكابينت والائتلاف فسيكون أمامهم جميعا مهمة التوقيع على هذه القرارات.
في الوقت ذاته، تتزايد القناعات الإسرائيلية أن تطبيع العلاقات مع سوريا أولوية لدى الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن، فالسلام مع سوريا من وجهة نظر الولايات المتحدة سيؤدي إلى تغيير استراتيجي، في حين أن السلام مع الفلسطينيين سيحدث تغييرا تكتيكيا، صحيح أن الأمر بالنسبة للإسرائيليين يتعلق بإيجاد حل للمسألة الديمغرافية مع الفلسطينيين، لكن بالنسبة للولايات المتحدة تبدو الأولوية للقناة الإسرائيلية السورية.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا