دينس روس, سوزان مالوني, ميغان أوسوليفان
قد ينتهي الأمر بـ “اتفاقيات إبراهيم”، بتقليص مصداقية رادع أساسي واحد على الأقل في وجه برنامج إيران النووي: وبشكل خاص، احتمال لجوء إسرائيل إلى استخدام القوة. ورغم أن الكثير من الدول العربية التي وقّعت على اتفاقيات التطبيع الأخيرة تجمعها نقاط مشتركة كثيرة مع إسرائيل حول كيفية مقاربة بعض القضايا الإيرانية، إلّا أنها عازمة أيضاً على تجنب حرب مع إيران.
“في 6 كانون الثاني/يناير، عقد معهد واشنطن منتدى سياسي افتراضي مع دينيس روس وسوزان مالوني وميغان أوسوليفان. وروس هو زميل “ويليام ديفيدسون” المتميز في المعهد ومؤلف مذكرته الانتقالية لعام 2021 التي نُشرت مؤخراً بعنوان “المحادثات النووية الإيرانية القادمة: الافتتاحيات والعقبات”. ومالوني هي نائبة رئيس “معهد بروكينغز” ومديرة “برنامج السياسة الخارجية” في المعهد. وأوسوليفان هي أستاذة في كرسي “جين كيركباتريك للشؤون الدولية” ومديرة “مشروع الجغرافيا السياسية للطاقة” في “كلية كندي بجامعة هارفارد”. وفيما يلي ملخص المقرر لملاحظاتهم”.
دينيس روس
خلال حملته الانتخابية، وضع الرئيس المنتخب جو بايدن عدة إرشادات حول كيفية تعامل إدارته مع السياسات تجاه إيران. أولاً، أعرب عن تصميمه على منع النظام من تطوير سلاح نووي في أي وقت كان. ثانياً، شدّد على أنه سيرسي مساراً موثوقاً للدبلوماسية والمفاوضات إذا امتثلت إيران مجدداً لـ «خطة العمل الشاملة المشتركة» («الخطة»)، وحذت الولايات المتحدة حذوها. وعندئذ سيصبح الاتفاق نقطة انطلاق لمفاوضات المتابعة. ثالثاً، تحدث عن الحفاظ على نفوذ الولايات المتحدة للتعامل مع القضايا الإيرانية الأخرى، بما فيها تطوير الصواريخ الباليستية، وانتهاكات حقوق الإنسان، وتنفيذ أنشطة مزعزعة للاستقرار في المنطقة.
غير أن سؤالاً مهماً لا يزال يتبادر إلى الأذهان: ما هو احتمال أن تحقق إدارة بايدن هذه الأهداف؟ من المهم إعادة النظر في الدروس المستفادة من المقاربات التي اتخذتها إدارتي أوباما وترامب، في محاولة للتوفيق بين الضغوط والأهداف المتضاربة.
من الفرضيات الرئيسية التي وضعتها إدارة أوباما كانت مدى إلحاح القضية النووية الإيرانية. وبالفعل، شعرت تلك الإدارة أنها إذا لن تتمكن من أن تثبت لإسرائيل أن الولايات المتحدة ستمنع إيران من امتلاك سلاح نووي، فمن المرجح أن تتحرك إسرائيل عسكرياً. وكانت القضايا الأخرى – بما فيها الصواريخ الباليستية للنظام وأنشطته الإقليمية – ببساطة أقل إلحاحاً. واعتقدت تلك الإدارة أيضاً أن سلوك إيران قد لا يتأثر بالضغوط الاقتصادية فحسب، بل بتشكيل جبهة دولية مشتركة لعزلها أيضاً.
أما بالنسبة للعقوبات، فعلى الرغم من أن الإدارة الأمريكية كانت تراها فعالة، إلّا أنها كانت تُعتبر غير مستدامة لأن المجتمع الدولي كان يفقد استعداده لفرضها. وبرز أيضاً المفهوم بأن القادة الإيرانيين كانوا يبحثون عن عذر لعدم تطبيق «خطة العمل الشاملة المشتركة»، وأنه إذا ضغطت عليهم واشنطن كثيراً بشأن القضايا غير النووية، فقد ينسحبون من الاتفاق.
وعلى الرغم من أن الإفتراضيْن الأوّليْن كانا صحيحين، إلا أن الإفتراضين الأخيرين لم يكونا كذلك. فالعقوبات كانت مستدامة، وإيران لم تكن تبحث عن عذر للانسحاب، كما اتضح من المدة التي التزمت فيها بـ «خطة العمل الشاملة المشتركة» حتى بعد انسحاب الرئيس ترامب منها عام 2018.
وفي ظل إدارة ترامب، تمثلت الفرضيات الأساسية بأنه من شأن ممارسة الضغط الاقتصادي الأقصى أن يتسبب في تنازل النظام أو انهياره. ولم يكن الاعتقاد بأنه كان على الولايات المتحدة الحفاظ على تحالف وموقف سياسي شامل لعزل إيران دبلوماسياً جزءاً من هذه المقاربة. فقد نجحت حملة الضغط الأقصى في فرض أعباء اقتصادية كبيرة على إيران، لكنها لم تتمكن من توقع الخيارات المتاحة أمام النظام والضغوط المضادة التي يمكنه ممارستها على الولايات المتحدة وأصدقائها في المنطقة.
وانطلاقاً من هذه العِبر، على فريق بايدن أن يأخذ في الاعتبار قيمة تعدد أدوات السياسة التي يمكنها الحفاظ على الضغط ولكن في الوقت نفسه توفير مخرجاً لإيران. وستواجه الإدارة الجديدة بالتأكيد عدداً من القضايا المتضاربة في هذا الصدد. أولاً، عليها التعامل مع كافة التحديات التي تطرحها إيران، مع محاولة عدم إبقاء القضية النووية رهينةً لهذه المخاوف الأخرى. ثانياً، يفضّل الأوروبيون والجهات الفاعلة الأخرى خارج الشرق الأوسط العودة السريعة إلى «خطة العمل الشاملة المشتركة»، لكن الجمهوريين [في الكونغرس الأمريكي] لا يزالون يعارضون ذلك بشكل شبه موحد، وستتطلب السياسة المستدامة دعماً من الحزبين الجمهوري والديمقراطي. ثالثاً، في حين تُعتبر طمأنة إسرائيل والسعودية والإمارات إيجابية، إلّا أن هناك شكوك تساور هذه الدول أيضاً وهي أن العودة إلى «الخطة» ستقوّض نفوذ الولايات المتحدة على إيران، مما يجعل النظام يفقد الأسباب التي تدفعه إلى التفاوض بشأن أي اتفاقات متابعة موضوعية أو التعامل مع القضايا الإقليمية. وبالفعل، ترغب الولايات المتحدة أن تحافظ على نفوذها – وأن تُظهر لإيران تداعيات عدم تغيير سلوكها – حتى في وقت تحفز فيه النظام على الموافقة على اتخاذ خطوات أخرى تضاف إلى «خطة العمل الشاملة المشتركة» (على سبيل المثال، من خلال تمديد مدة الاتفاقية والتصدي للصواريخ الباليستية).
وللتوفيق بين هذه الضغوط المتضاربة، سيتعين على الإدارة الأمريكية الدخول في مشاورات جدية مع قادة بارزين في الحزب الجمهوري والكونغرس، وحكومات أوروبية، وشركاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. بالإضافة إلى ذلك، لن تكون العودة إلى «الخطة» سهلةً حتى من وجهة نظر عملية محضة – فإيران ستحتاج إلى عدة أشهر للامتثال مجدداً وستصر على تخفيف العقوبات عنها حتى مع استمرارها في انتهاك حدود «خطة العمل الشاملة المشتركة».
وبناءً على ذلك، قد يكون النهج البديل القائم على مبدأ “الأقل مقابل الأقل” أكثر منطقية، وقد يكون التفاوض بشأنه أكثر سهولة. ويمكن لمثل هذه المقاربة أن تفسح الوقت لمفاوضات متابعة تهدف إلى تمديد بنود “انقضاء الوقت”، والتعامل مع الصواريخ الباليستية، والتصدي لأفعال إيران في المنطقة. وهذا لن يعني العودة إلى الامتثال الكامل لـ «خطة العمل الشاملة المشتركة»، لكنه قد يمدد زمن تجاوز إيران لقدرات الأسلحة النووية. وعلى وجه الخصوص، قد يحدّ ذلك من التهديد النووي من خلال إرغام إيران على ما يلي:
تقليص مخزونها من اليورانيوم المنخفض التخصيب من 2600 كيلوغرام (ما يقرب من اثني عشر ضعف ما تسمح به «خطة العمل الشاملة المشتركة») إلى 1000
وقف تخصيب اليورانيوم بمعدل نقاء يصل إلى 20 في المائة
تفكيك سلسلتين من أجهزة الطرد المركزي المتقدمة (لمزيد من المعلومات حول هذه القضايا التقنية، انظر بحث معهد واشنطن “إيران النووية: قائمة مصطلحات”).
وفي المقابل، قد تسمح الولايات المتحدة لإيران بالنفاذ إلى بعض حساباتها المجمدة في الخارج، الأمر الذي من شأنه أن يخفف الضغوط على البلاد دون رفع نظام العقوبات الأمريكية.
وخلال مضيها قدماً بمسار المفاوضات، يجدر بإدارة بايدن مواصلة التنافس مع النظام الإيراني من خلال الإجراءات التالية:
الضغط على طهران في مجال حقوق الإنسان
دعم رئيس الوزراء والجيش في العراق من خلال توسيع المجال السياسي الذي يمكنهم العمل فيه
دعم الشركاء الإقليميين من خلال تزويدهم بأنظمة دفاعية معززة وشاملة للتصدي للصواريخ الباليستية والصواريخ الجوالة والطائرات بدون طيار
تعزيز التطبيع العربي الإسرائيلي
ومن خلال التنافس بهذه الطريقة الحازمة، يمكن للإدارة الأمريكية أن تظهر قدرتها على رفع الثمن المترتب على نشاط إيران المؤذي.
سوزان مالوني
خلال صياغة سياسته تجاه إيران، سيواجه فريق بايدن واقعاً يختلف إلى حد كبير عن ذلك الذي استُقبلت به إدارة أوباما. وسيكون التحقيق في المقاربات التي انتهجها كل من ترامب وأوباما أمراً بالغ الأهمية بينما يفكر صناع السياسة في الدروس المستفادة من كليهما. وقد واجه كل رئيس أمريكي منذ جيمي كارتر صعوبات متمثلة في وضع استراتيجية تسفر عن تغيّر ذي مغزى في كيفية تعامل إيران مع الدول المجاورة لها وشعبها والعالم.
ومن حيث فائدة الضغوط الاقتصادية، لاحظت واشنطن قيود هذه المقاربة، ولكن الإجراءات المالية الأمريكية تدوم أيضاً لفترات أطول مما كان يُعتقد سابقاً، حتى في ظل وجود معارضة دبلوماسية على تطبيقها. ومع ذلك، فإن ممارسة الضغوط ليست العامل الوحيد المستخدم هنا. فقد أظهرت السنوات الأربع الماضية أن توجيه ضربات أكثر صرامة لإيران لم يساهم في تخفيف سياساتها الضارة أو تحقيق أهداف أولئك في إدارة ترامب الذين يفضلون تغيير النظام الإيراني. واليوم، أصبحت الولايات المتحدة في وضع أكثر خطورة فيما يتعلق ببرنامج إيران النووي، وأنشطتها في المنطقة مما كانت عليه قبل تولي إدارة ترامب السلطة.
ومن العِبر المهمة التي يجب تعلّمها من إدارة أوباما هي أن النوايا الحسنة لا تولّد بالضرورة حسن نية. وغالباً ما تفشل نظرة التعاون هذه مع النظام الإيراني، الذي من المتوقّع أن يتبنى مقاربة قائمة على معاداة أمريكا ومعارضة أي تقارب معها. وإذا كانت واشنطن ترغب في ابتكار نهج يمكنه تحقيق نجاح في مجالات تتخطى المسألة النووية، فسوف تحتاج إلى اعتماد سياسات مماثلة لتلك التي أتاحت الدبلوماسية النووية السابقة – لا سيما تعددية الأطراف. فضلاً عن ذلك، ورغم وجود انقسامات فعلية داخل هيكلية السلطة في إيران، يتخذ المرشد الأعلى في النهاية جميع القرارات المهمة. فلم يتمّ المضي بـ «خطة العمل الشاملة المشتركة» إلا بعد موافقة آية الله علي خامنئي، ولن تُطبق أي دبلوماسية أمريكية إضافية إلا بشروطه. على الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين أن يدركوا ذلك.
وأخيراً، يجب ألا تشعر إدارة بايدن بأنها ملزمة بإطار زمني معيّن بشأن هذه القضايا. ولا تعتبر الانتخابات الرئاسية الإيرانية خلال حزيران/يونيو المقبل من القيود الخطيرة أو سبباً للضرورة الملحة. فطهران تحاول فرض حالة من الطوارئ من خلال إثارة الأزمات، لكن على بايدن مقاومة الانجرار إلى دبلوماسية الأزمات، وبدلاً من ذلك إعداد مقاربة دبلوماسية مطبّعة تجاه طهران. كما يجب الاستفادة إلى أقصى حد من المجال والوقت المتاحين، على أن تتمثل الأهداف الرئيسية بـ (1) تمديد الوقت القصير لتجاوز إيران للعتبة النووية، و (2) السماح ببدء مفاوضات يمكن أن تسفر عن اتفاق أطول أمداً وأكثر متانةً.
ميغان أوسوليفان
قد يكون التوصل إلى اتفاق مؤقت مع إيران وسيلة فعالة لإدارة مشكلة فورية، وخاصةٍ خلال الفترة القصيرة الفاصلة بين تنصيب بايدن في 20 كانون الثاني/يناير والانتخابات الرئاسية في إيران خلال حزيران/يونيو. ويُعتبر التشديد على مصداقية واشنطن كشريك في التفاوض أمر مهم، لذا يمكن للإدارة الأمريكية الجديدة الانضمام مجدداً إلى «خطة العمل الشاملة المشتركة» كمنصة للتفاوض بشأن اتفاقات متابعة نهائية.
ومن المستحسن إبرام اتفاق مؤقت، إذ من شأن ذلك مساعدة المسؤولين الأمريكيين على تجنّب التخلي عن كل نفوذهم قبل مواجهة التحدي الأكثر صعوبة المتمثل بالتعامل مع ترسانة إيران من الصواريخ الباليستية وأنشطتها المزعزعة للاستقرار في المنطقة. يتعين على واشنطن التشاور أيضاً بشكل جدي مع شركائها وحلفائها لأن الديناميكيات الإقليمية السائدة حالياً تختلف عما كانت عليه في عام 2015. وستنظر دول الخليج وغيرها من الجهات الفاعلة في طريقة تعامل إدارة بايدن مع «خطة العمل الشاملة المشتركة» كنافذة على كيفية تعاطيها مع العلاقات مع هذه الجهات ككل.
ويقيناً، أن الاتفاق المؤقت لن يجيب على بعض الأسئلة المهمة. أولاً، ما هي الدوافع المتوافرة لإيران لتجاوز «خطة العمل الشاملة المشتركة» كما هي عليه اليوم؟ إن نفوذ الولايات المتحدة على إيران حالياً هو أقل مما كان عليه في عام 2015، في حين أصبحت الصين أقرب إلى النظام ومدت له حبل إنقاذ في بعض المناسبات.
ثانياً، قد ينتهي الأمر بـ “اتفاقيات إبراهيم”، رغم كل ما تحمله من قيمة، بأن تقلّص مصداقية رادع أساسي واحد على الأقل في وجه برنامج إيران النووي: وبشكل خاص، احتمال لجوء إسرائيل إلى استخدام القوة. صحيح أن الكثير من الدول العربية التي وقّعت على اتفاقيات التطبيع الأخيرة تجمعها نقاط مشتركة كثيرة مع إسرائيل حول كيفية مقاربة بعض القضايا الإيرانية، لكنها عازمة أيضاً على تجنب حرب مع إيران.
ثالثاً، كيف يمكن لمحادثات نووية جديدة أن تتلاءم مع الإستراتيجية الأمريكية الشاملة حول إيران؟ سادت سرديتان مختلفتان تتعلقان بهذا السؤال خلال إدارة أوباما: (1) أن «خطة العمل الشاملة المشتركة» ستساعد إيران على الاندماج بشكل أفضل في المجتمع العالمي وتلطّف سلوكها في الخارج في نهاية المطاف؛ و(2) أن «الخطة» ستحجّم برنامج إيران النووي، مما سيسمح للولايات المتحدة بالتشدد على نحو أكبر تجاه أنشطة النظام المضرة الأخرى. ومع ذلك، لم تثبت صحة أي من السرديتين. كما أدركت الولايات المتحدة صعوبة تحقيق العديد من الفوائد الاقتصادية التي توقعتها إيران من «خطة العمل الشاملة المشتركة». ورغم أن قيام القطاع الخاص والمصارف بأعمال تجارية مع إيران كان أمراً قانونياً، إلّا أن العديد من المؤسسات لم تبدِ استعدادها لتحمّل المخاطر المتصورة في هذا الخصوص.
ومن بين المقاربات الأخرى التي يمكن لإدارة بايدن النظر فيها هو عدم اتخاذ أي إجراء بشأن إيران على المدى القريب، وبدلاً من ذلك، إعطاء الأولوية لتلك القضايا التي وعدت بالتركيز عليها خلال الحملة الانتخابية – وبالتحديد محاربة “كوفيد-19″، والتعافي الاقتصادي، والصين. وهذا يعني تقليص طموحاتها بشأن سياسة إيران (على سبيل المثال، اقتصارها على المشاورات وتدابير بناء الثقة مع الشركاء بشأن قضايا مثل المساعدة الإنسانية)، مع التقليل في الوقت نفسه من شأن النظرة السائدة بأنها تواقة بشكل مفرط على إبرام اتفاق فوري. من جهتها، ربما تنظر طهران في أن تكون أكثر مرونة إذا واجهت احتمال أن ترزح لفترة أطول تحت وطأة العقوبات. ومع ذلك، على واشنطن النظر في المخاطر المحتملة والجوانب السلبية لهذه المقاربة المحدودة أيضاً.
المصدر: معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى