إيلي القصيفي
على الرغم من تعبير إيران عن سرورها بهزيمة الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب، إلّا أنّها استقبلت الرئيس الديموقراطي الفائز جو بايدن الذي اعتبر إصلاحيوها انتخابه بمثابة “فرصة مهمّة” بتصعيد متعدّد الأوجه.
فالحكومة الإيرانية تمضي قدماً في تطبيق مندرجات قانون 27 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، والذي يلزمها برفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى عشرين في المئة. وقد أعلنت طهران الأربعاء نصب ألف جهاز طرد مركزي في منشأة نطنز النووية خلال 3 أشهر، وتخصيب 17 كيلوغراماً من اليورانيوم بنسبة 20 في المئة في منشأة “فوردو”. كما كشفت الجمعة أنّ مخزون اليورانيوم المخصب وصل إلى 4 آلاف كيلوغرام مقارنة بـ300 سابقاً.
كذلك يلزم القانون عينه بإيقاف العمل بالبروتوكول الإضافي في الاتفاق النووي في 20 شباط (فبراير) المقبل، وهو ما سيؤدي حكماً إلى خفض التعاون مع مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبالتالي دخول الاتفاق النووي في نفق مظلم وطويل سيكون من الصعب جداً الخروج منه. وهذه كانت إحدى الرسائل التي أراد وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إرسالها إلى واشنطن والعواصم الأوروبية في مقالته الأخيرة في موقع “فورين أفيرز”، بقصد القول لها إنه لم يعد لديها متّسع من الوقت إذا أرادت الالتزام بتعهداتها تجاه طهران.
في الموازاة استأنفت طهران عبر ميليشياتها في المنطقة رسائلها الصاروخية ضدّ المملكة العربية السعودية، كما حصل السبت الماضي. وكانت ميليشيات الحشد الشعبي قد استأنفت قصف السفارة الأميركية في بغداد في 20 كانون الأول (ديسمبر) الماضي.
كذلك استولى بحارة الحرس الثوري الإسلامي، في 4 كانون الثاني (يناير) الحالي على سفينة كورية جنوبية، وسط نزاع محتدم حول تجميد كوريا الجنوبية سبعة مليارات دولار من عائدات النفط الإيراني المجمدة بسبب العقوبات الأميركية.
وقبل أيام قليلة من تنصيب بايدن، أعلنت وسائل إعلام إيرانية إدانة رجل الأعمال الإيراني الأميركي عماد شرقي بتهم تجسس غير محددة. وقد انضم شرقي إلى ما لا يقل عن ثلاثة مواطنين أميركيين آخرين من أصل إيراني محتجزين في إيران، وفقاً لقائمة أعدها “مركز حقوق الإنسان في إيران”.
وعلاوة على التصعيد النووي والعسكري، يكثّف ظريف جولاته المكّوكية على الدول الصديقة لإيران لحملها على تأييد موقفها بشأن أولوية عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي المبرم في 2015 ورفع العقوبات، ثمّ تعود طهران لاحترام تعهّداتها بموجب هذا الاتفاق، وقد استحصل حتّى الآن على موقف مؤيد من روسيا وتركيا التي زارها الجمعة.
كلّ هذا التصعيد الإيراني المحموم يحمل هدفين متداخلين: الأوّل اختبار حدود صبر الإدارة الأميركية الجديدة أمام الاستفزازات الإيرانية، والثاني دفع واشنطن إلى تقديم الملف الإيراني في قائمة أولوياتها. فحتّى الآن غيّب الرئيس بايدن إيران عن مجمل القرارات التنفيذية التي وقّعها منذ استلامه مهامه، في وقت يركّز على أولويات داخلية مثل كورونا والأزمة الاقتصادية والانقسام من جرّاء الانتخابات، ناهيك عن قضية المناخ وعودة واشنطن إلى “اتفاق باريس”. كذلك تهتمّ الإدارة الجديدة بترميم تحالفات واشنطن التقليدية مع أوروبا والتي تضررت في عهد ترامب، علاوة على الملفين الإستراتيجيين الرئيسيين لواشنطن وهما الصين وروسيا، ثم تأتي إيران.
ولذلك تحاول طهران أن تتقدّم في قائمة الاهتمامات الأميركية، وذلك بعكس ما قاله المرشد الأعلى علي خامنئي بأنّ نظامه غير مستعجل للعودة إلى الاتفاق النووي. فلو كانت غير مستعجلة فعلاً لما مارست كلّ هذا التصعيد لحثّ الإدارة الجديدة إلى الالتفات إليها وبدء مسار إحياء اتفاق 2005 الذي يبدو يوماً بعد يوم أنّه سيكون مساراً طويلاً ومعقّداَ. وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية الأميركي الجديد أنطوني بلينكن بعبارات واضحة الأربعاء عندما قال: “إذا اتخذت القرار بالعودة إلى التزاماتها فسيستغرق الأمر بعض الوقت، وثمة حاجة أيضاً إلى وقت لنتمكن من تقييم احترامها لالتزاماتها. نحن بعيدون من ذلك”.
وتحدّث بلينكن عن اتفاق “أطول أقوى” مع طهران “يتناول مسائل صعبة للغاية”، في إشارة إلى ملفي الصواريخ البالستية الإيرانية ونشاط إيران الإقليمي، وهما ملفّان ترفض إيران حتّى الآن التفاوض بشأنهما. كما ترفض سعي واشنطن لضمّ حلفائها في المنطقة وتحديداً إسرائيل ودول الخليج العربي إلى طاولة المفاوضات، وفي “مرحلة الإقلاع لا الهبوط”، كما أكّد بلينكن في كلامه أمام مجلس الشيوخ قبيل تعيينه.
بالتالي فإنّ مواقف الخارجية الأميركية بشأن إيران لا تعكس استعجال واشنطن للعودة إلى الاتفاق النووي كيفما اتفق. والسؤال المطروح: هل تعود واشنطن إلى الاتفاق ثمّ تطلق مساراً تفاوضياً مع إيران حول صواريخها وتوسّعها في المنطقة، أم تعيد التفاوض معها على “تسوية شاملة”؟ هذا فضلاً عن السؤال عمّن يعود أولاً إلى الاتفاق أطهران أم واشنطن؟ وكلّ منهما يقول إنّ على الآخر العودة أولاً. والجمعة كرّرت المتحدثة في البيت الأبيض الموقف الأميركي نفسه.
كلّ هذه الأسئلة والمعطيات تجعل التكهّن بتطوّرات الاتفاق النووي صعباً، خصوصاً أنّ الثابت الوحيد في شأنه حتّى الآن أن الطرفين الأميركي والإيراني راغبان في العودة إليه. ما عدا ذلك لا شيء ثابتاً في الملف، خصوصاً أنّ أموراً كثيرة تبدّلت منذ توقيع الاتفاق الأصلي في 2015. فإيران اليوم أضعف مما كانت عليه في 2015 بفعل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعانيها بفعل العقوبات. كذلك الأوضاع الجيوسياسية في المنطقة اختلفت عمّا كانت عليه في 2015، لا سيما بعد اتفاقات السلام العربية الإسرائيلية، واتفاق حلفاء واشنطن على رفض عودتها إلى اتفاق 2015 من دون تعديله، ومن دون شمول المفاوضات البرنامج الصاروخي لإيران وتوسّعها الإقليمي. علماً أنّ هذين الملفين ليسا أقلّ أهمية بالنسبة لدول المنطقة من البرنامج النووي الإيراني، وسط اعتقادها أن طهران استفادت من رفع العقوبات عنها في 2015 لتمويل برنامجها الصاروخي وميليشياتها الإقليمية، وبالتالي لن تقبل هذه الدول بتكرار هذا الأمر.
يبقى السؤال: إلى أي مدى يمكن لإيران أن تواصل تصعيدها؟ فكلّما استمرت في خرق التزاماتها بموجب اتفاق 2015 ألّبت أوروبا ضدّها. فحتى فرنسا الأقرب أوروبياً إلى طهران تتشدّد أخيراً في موقفها إزاءها، ودعوة الرئيس إيمانويل ماكرون الجمعة لضمّ السعودية إلى أي مفاوضات مستقبلية بالغة الدلالة في هذا السياق. كما تلقّت طهران رسالة ردع أميركية الأربعاء من خلال مناورات التمرين المشترك بين القوات الجوية السعودية ونظيرتها الأميركية. كما كشفت وزارة الدفاع الأميركية عن استعدادات لزيادة قواتها ومعداتها في السعودية خلال الفترة المقبلة، فضلاً عن إبرام البنتاغون ترتيباً أولياً مع الرياض لاستخدام القواعد الجوية والموانئ البحرية المختلفة، في المناطق الغربية من البلاد؛ وذلك لمواجهة أي حرب مع إيران.
وحتّى روبرت مالي الذي عيّن مبعوثاً أميركياً خاصاً لإيران والذي أثار تعيينه انقساماً وسجالاً واسعاً في واشنطن، فهو على رأس مركز أبحاث يرى أنه “على واشنطن تجميد الوضع مع ايران حتّى حزيران (يونيو)، موعد الانتخابات الرئاسية في إيران، وثمّ تبدأ معها مفاوضات لتسوية دائمة”… فهل تستطيع طهران الاستمرار في التصعيد إلى ذلك الحين؟ حتماً لا.
الجمعة قال مستشار الأمن القومي الأميركي إنّ تعامل بايدن مع الملف النووي الإيراني أولوية قصوى. فهل تعتبر طهران أنها حققت غايتها بلفت نظر بايدن إليها، فتبدأ بالنزول تدريجاً عن الشجرة؟
المصدر: النهار العربي