راغدة درغام
الكلام عن “الدبلوماسية القصوى” كبديل عن سياسة “الضغوط القصوى” التي تبنّتها إدارة دونالد ترامب السابقة للجم مشاريع الجمهورية الإسلامية الإيرانية النووية والصاروخية والاستنزافية لمنطقة الشرق الأوسط، إنما هو كلام يُقارب السخافة والخطورة طالما هو خالٍ من أدوات التأثير leverage في عقيدة وسلوك القيادات الإيرانية العازمة على نسف السيادة في دول عربية أبرزها العراق وسوريا ولبنان عبر قوات غير نظامية تخضع لأوامر “الحرس الثوري الإيراني” مثل “الحشد الشعبي” و”حزب الله”.
يطيب لبعض الموالين للنظام في طهران أن يتناسوا هذه الناحية الفائقة الأهمية في معادلة السيادة والعقيدة، إنما لا يجوز لأيٍّ كان في فريق الرئيس جو بايدن أن يسمَح لنفسه أو أن يُسمَح له أن يتناسى ويدوس على سيادة العراق وسوريا ولبنان. جميل أن إدارة بايدن تريد إنهاء حرب اليمن التي يجب أن يُبذَل كل جهدٍ لإنهائها، وتعيين الدبلوماسي المخضرم تيموثي ليندركينغ كمبعوث لليمن قرار حكيم. كلام الرئيس بايدن عن قدرة الدبلوماسية الأميركية أن تصنع المعجزات جميل أيضاً، إنما للدبلوماسية الجدّيّة أدوات فاعلة، فيما المعجزات تدخل في خانة التمنيات. لذلك يُستبعَد أن تقرر الولايات المتحدة الأميركية بِرُمَّة أجهزتها أن تُعرّي نفسها وتختار الإذعان للإملاءات الإيرانية أو للإبتزاز – فهذه دولة مؤسسات وليست نظاماً في شكل إدارة له الحق أن يتصرّف كما يشاء.
دلالة المؤشرات في المواقف الأميركية تُشير الى الحِرص على عدم الهرولة خوفاً من الوقوع في فخٍ إيراني يصطاد استعداد إدارة بايدن لإبداء حُسن النيّة – ولذلك يُستبعَد أن تتخلّى واشنطن تلقائياً وكخطوة أولى عن العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب على إيران. دلالة المؤشرات عن المواقف الإيرانية هو مزيج من الإفراط بالثقة بالنفس وبـ”الصبر الاستراتيجي” ومن العزم على امتحان الرئيس الجديد عبر إجراءات استفزازية للتعرّف الى معدنه الحقيقي. ملامح القلق nervousness واضحة على الطرفين.
الرئيس بايدن وضع العناوين السياسية الخارجية متحدّثاً من وزارة الخارجية الأميركية يوم الخميس الماضي حيث ركّز على ضرورة الاعتماد على الدبلوماسية لمواجهة التحدّيات – وهذا منطقي. كان واضحاً في إبراز دور وزارة الدفاع كشريك الأمر الواقع في القرار السياسي عندما تحدّث عن مُستقبل القوات والقواعد الأميركية في المنطقة والعالم. اليوم التالي، برزت مركزية مجلس الأمن القومي في مسألة إيران بصورة خاصة حيث كانت غابت عن كلامه من وزارة الخارجية. ثم هناك دائماً دور وكالة الاستخبارات المركزية CIA في صنع القرارات الخارجية الكبرى. فالولايات المتحدة لم تكن يوماً إدارة فقط حتى في زمن الرئيس الأسبق دونالد ترامب مهما تصرّف باعتباطية وباستفراد بالقرار. وهذه إدارة تركت وراءها أكثر من إنجاز في السياسة الخارجية أدركت قيمته إدارة بايدن، فتأقلمت معها بالرغم من كراهيتها القاطعة للأربع سنوات الماضية.
لذلك، وعندما يتحدّث الرئيس بايدن بلغة الانقلاب على مبدأ “أميركا أولاً” ومبدأ “استعادة عظمة أميركا” للعودة الى الدبلوماسية التقليدية في السياسة الخارجية قد لا يكون ذلك حكيماً. انه موضع تهكّم في بعض العواصم حيث تُعتبر العودة الى الدبلوماسية التقليدية “عودةً الى الانقاض ruins” بحسب تعبير أحد المخضرمين. فلا يجوز العودة الى الأنقاض عند بناء سياسة خارجية لإدارة جديدة.
التحدّي أمام إدارة بايدن هو أنها في أشد الحاجة الى بناء سياسة خارجية من صنعها، بدلاً من إعادة نفض فريق وسياسة الرئيس الأسبق باراك أوباما التي ارتكبت أخطاءً فادحة في أكثر من ملف ومكان. التحدّي أمام إدارة بايدن هو أن تتجنب الاجترار والانتقام وأن تصوغ هويتها.
واضح أن وزير الخارجية توني بلينكن عازم على إعادة بناء العلاقات الجيّدة مَع الحلفاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وهو يريد استئناف التشاور مع الشركاء الأوروبيين في أكثر من ملف – والملف الإيراني بارز في هذا الإطار. لذلك هناك تشديد على أهمية جولته الأوروبية المقبلة، وهذا جيّد بالتأكيد. إنما هناك حاجة للتنبه الى مَطبّات. فمن الضروري للرئيس بايدن أن يكون واقعياً في تعامله مع أمثال نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي أثبت مراراً وتكراراً أنه يُقحِم نفسه، ثم يتراجع عن الخطوط الأساسية التي وضعها بنفسه، ثم يفشل، ثم يُعيد الكَّرة. هكذا فعل في ملفيّ إيران ولبنان – وفي كلاهما تصرّف وكأنه مُهرّج البلاط. واجب وزارة الخارجية الأميركية أن تُنبّه الرئاسة الى مخاطر الأسلوب الفرنسي في دبلوماسية باريس التقليدية.
لا حاجة الى إيمانويل ماكرون ليقدّم نفسه وسيطاً بين الولايات المتحدة وإيران كما عَرض خدماته. وقال: “نحن بحاجة ماسة لأن ننجز بالفعل مرحلة جديدة من التفاوض مع إيران” وهذا طبيعي. واستطرد قائلاً: “سأقوم بكل ما في وسعي لدعم أي مبادرة من جانب الولايات المتحدة للانخراط مجدّداً في حوار، وسأكون هنا أسعى لأن أكون وسيطاً نزيهاً ومُلتزِماً في هذا الحوار”. واقع الأمر أن لا حاجة للرئيس الفرنسي أن يُقحِم نفسه في الحوار الأميركي – الإيراني. واقع الأمر أن على الرئيس الفرنسي أن يطوّر ويلتزم دوراً آخرَ في غاية الأهمية وهو ما تحدّث عنه إنما من دون خطة أو استراتيجية أو مواقف مُنسَّقة أوروبياً على الأقل علماً أن ثلاث دول أوروبية وقعَّت الاتفاق النووي JCPOA مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. فهو قال إن السعودية وإسرائيل يجب أن تشاركا بطريقة أو بأخرى في المفاوضات الجديدة مع إيران، وأن هناك حاجة للتعامل مع برنامج الصواريخ الباليستية ودعم الاستقرار الإقليمي.
دعم الاستقرار الإقليمي يتطلّب حتماً من الرئيس ماكرون أن يتفضّل بطروحات استراتيجية علمية وواقعية في مقاربته مع إيران ولبنان على سبيل المثال. لا يجوز له أن يرضخ لسلطة الفساد في لبنان والزعامات الطائفية التي قلّصته الى ساعٍ فاشل فيما يتراجع عن توعده بالعقوبات على مَن يعصي ويعرقل ثم ينحني أمام “حزب الله” ويقدّم لبنان اليه كما يشاء. ماكرون يعي تماماً أن “الحرس الثوري” يتحكّم بلبنان عبر “حزب الله” – وبالتالي العنوان الذي يجب أن يتوجّه اليه هو طهران. فليتفضّل ويركّز على هذا الملف ويتناوله بصدقية ونزاهة ومسؤولية، بلا تهريج ولا مغالاة.
لقد عادت سلسلة الاغتيالات السياسية الى لبنان وستزداد إذا توقفت المواقف الدولية عند الإدانات. الكاتب والناشط السياسي لقمان سليم ظنّ أنه محميّ لأنه واضحٌ في مواقفه وهو الشيعي الذي عاش في البيئة الشيعية التي هي منطقة أمنية لـ”حزب الله” في ضاحية بيروت وفي جنوب لبنان. هو بنفّسه حمّل “حزب الله” اصابته بكرهٍ قبل اغتياله بـ4 رصاصات في الرأس وواحدة في الظهر في رسالة واضحة الى المئات. “حزب الله” أصدر بياناً نفى فيه أية علاقة بالأمر ودان الجريمة – أتى ذلك بعدما غرّد نجل حسن نصرالله، جواد نصرالله، أن “خسارة البعض هي في الحقيقة ربح ولطف غير محسوب” – ثم حذف التغريدة القبيحة قائلاً إن لا علاقة لها بتصفية لقمان سليم.
ثلاثة اغتيالات وتصفيات مُرعِبَة وقعت بعد تفجير مرفأ بيروت في 4 آب (أغسطس) الماضي والذي تتورّط فيه دول وليس فقط الدولة وجِهات لبنانية معروف أنها خزّنت النيترات ومواد متفجرة أخرى في معابر المرفأ المدني. سوريا وروسيا متورِطتان مع ازدياد الكلام عن استخدام النيترات في البراميل المتفجِرة التي قتلت المدنيين الأبرياء. بريطانيا لا تتجاوب مع طلبات المحامين في ما يخص دور شركة بريطانية. تقارير المكتب الفدرالي الأميركي FBI ما زالت سريّة وكذلك التقارير الفرنسية حول ما عثرت عليه من أدلة في تفجير المرفأ. شركات التأمين السويسرية وغيرها تغطّي على فساد شركات التأمين اللبنانية التي ترفض سداد ما عليها في انتظار “نتيجة التحقيق” التي قد لا تظهر. وبالتالي، إننا مشرّدون من بيوتنا بعدما مضى 6 أشهر على تفجيرها بشبه قنبلة ذريّة – كما حدث لي شخصياً في أيقونة المرفأ، بناية سكاي لاين، المؤلفة من 23 طابقاً و60 شقة – وجميعنا غير قادر على لملمة أنفسنا لإعادة بناء بيوتنا.
ما يجب أن يكون في ذهن الدبلوماسية الفرنسية والأوروبية عامة وبالذات الأميركية هو الإصرار على مبدأ عدم الإفلات من العقاب وضرورة المحاسبة. ثلاثة اغتيالات منذ 4 كانون الأول (ديسمبر): العقيد المتقاعد في الجمارك منير أبو رجيلي، المصور جوزف بجاني الذي اغتيل فيما كان يستعد لنقل أولاده الى المدرسة، وفي 4 شباط (فبراير)، لقمان سليم.
من الضروري، بل من واجب الدبلوماسية الأميركية والأوروبية وبالذات الفرنسية التي عرضت خدماتها أن تستوعب العلاقة بين الاغتيالات والتصفيات في لبنان – كما في العراق – كجزء من اندفاعها الى الحوار مع إيران بهرولة الى رفع العقوبات والى “الدبلوماسية القصوى” كبديل لـ”الضغوط القصوى”.
الواجب الأخلاقي يتطلّب من فريق بايدن المعني بإيران بدءاً من مستشار الأمن القومي جاك سوليفان وصولاً الى روبرت مالي المكلّف ملف إيران، وكذلك من القيادات الأوروبية المعنية، ألاّ يظنون أنهم أكبر وأكثر أهمية من تفاصيل المحاسبة ووقف الإفلات من العقاب.
روبرت مالي كان يوماً صديقاً شخصياً وكنتُ وصفته بأنه شاهد نزيه على التاريخ. ما زال صديقاً بالرغم من الاختلاف السياسي بيننا، وإني حقاً أتوقع منه ألاّ يغض النظر عن “تفاصيل” مثل التصفيات السياسية أو التغطية على تفجير مرفأ بيروت. فالترهيب أداة من أدوات الدبلوماسية الإيرانية التي ينفذها “الحرس الثوري” في سوريا والعراق ولبنان واليمن، وعلى رجل بذكاء روبرت مالي أن يعود الى طاولة رسم السياسات ويأخذ ما حدث منذ الاتفاق النووي في الحساب – فهكذا يكون صانعاً نزيهاً للتاريخ وليس شاهداً فقط، إذا حكّم ضميره وعقله الاستراتيجي أيضاً.
المعلومات المتوافرة حتى الآن تفيد أولاً، أن إدارة بايدن لن تتراجع أمام الضغوط الإيرانية – وهذا ما ورد في الفقرة التي تم حذفها من خطاب بايدن في الخارجية بحسب المصادر عندما تقرر ترك موضوع إيران الى اليوم التالي. ثانياً، الأولوية النووية لا تعني التسرّع نزولاً عند ابتزازات التخصيب الإيرانية، بل إن فريق بايدن يريد أن يأخذ وقته وأن يتشاور بلينكن مع الأوروبيين كأولوية من أجل اتخاذ اجراءات مشتركة. ثالثاً، لا هرولة، بل هناك توجّه نحو عملية طويلة الأمد لأن إيران “متعددة الوجوه” multi-faced وليس في المستطاع حل المشاكل معها دفعةً واحدة ونهائياً. رابعاً، يفهم فريق بايدن أن استخدام الانتخابات الإيرانية هو مظهر زائف focade لادعاء تشجيع ما يُسمَى بالمعتدلين على نسق الرئيس حسن روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف فيما الحاكم الفاعل الذي سيفوز بالانتخابات هو “الحرس الثوري” المستفيد الأكبر من رفع العقوبات لأن ذلك يمده بالأموال اللازمة للتوسّع وفرض هيمنته اقليمياً. ففريق يايدن يخشى أن يخسر ولا يريد أن يخسر.
الموقف الإيراني بحسب المعلومات المتوافرة هو اختبار الرئيس الأميركي الجديد للتعرّف الى نوعية ردود فعله والى شخصيته، ولذلك ترفع إيران السقف نووياً، وإقليمياً، وهي عازمة على خلق الظروف لامتحان جو بايدن كي تعرف هامش إقدامه وهامش تراجعه. لم تكن طهران مرتاحة لإعلان بايدن – عندما تحدّث عن ضرورة وضع نهاية للحرب في اليمن ووقف المساعدات العسكرية الأميركية – أن السعودية تواجه اعتداءات من قوة مدعومة من إيران وأن الولايات المتحدة ستواصل دعم السعودية لحماية أراضيها من قوات تدعمها إيران وتعهّد بالعمل مع السعودية للدفاع عن سيادتها ضد أي انتهاكات. فهذه مواقف لم تكن تتوقعها طهران التي ظنّت أن العداء الأميركي للسعودية جزءٌ من انتصار عقيدتها وطموحاتها الإقليمية.
إنهاء الحرب اليمنية ضروري، وسريعاً، إنما حتى هذا المسعى يعتمد كثيراً ليس فقط على العمل المكثف الأميركي – السعودي – الإماراتي في هذا الاتجاه، وإنما أيضاً على ماذا في الجعبة الإيرانية.
المصدر: النهار العربي