فوّاز حداد
أصبح العنف العنصر الأكثر حضوراً في الحياة الإنسانية، وبلغ ذروته في حروبٍ تستدرج القتل بالجملة، ومجازر همجيّة من فرط وحشيّتها. لم يمضِ الكثيرُ من الزمن على حربين عالميّتين، أعدادُ ضحاياهما تتجاوز ستين مليون نسمة، وإذا أضفنا إليهما ضحايا الشيوعية والغولاغ، يتجاوز الرقم مائة مليون. عدا عن انتشار الجريمة في العالم، وقيام عصابات استسهلت ارتكابها دونما روادع. أصبحت الجريمة تسري في حياتنا كأخبارٍ يومية تثير الخوف والرثاء والحنق، وباتت قدَراً لا فكاك منه، بعدما أصبح السلاح بين الأيدي شائعاً، واستخدامه وارداً في التعبير عن الفرح في المناسبات البهيجة، كالأعراس، عبر إطلاق رصاص يحصد ضحايا المصادفات السعيدة، أو في الخلافات بين مشجّعي كرة القدم، ما يؤدّي إلى مجازر لا توفّر المتفرجين.
ساهمت السينما، بدورها، بشكل مبكّر في تحويل الفنّ السابع إلى فنّ لترفيه المشاهدين، عبر تزكية العنف كعرضٍ مشوّق ومثير. يكاد لا يخلو فيلم سينمائي من المسدّسات والدماء ومطاردات السيارات، حتى فاق العنفُ مشاعرَ الحب. وحقّق التقدّم العلمي تطوّراً مطّرداً في الاتجاه نفسه. لم تعد الأسلحة بدائيّةً ولا فرديّة، فما طرأ على آلة القتل أدّى إلى إحراز نجاح في القتل الجماعي، وعن بعد، بل وبات القتل يجري بكبس أزار على مسافة آلاف الكيلومترات، حيث لا حاجة ليرى القاتل ضحيّته، توفيراً للشعور بالذنب. إنّ مجرد التفكير في ما أُهدر من مبالغ خيالية على صناعة هذه الأسلحة، وما كلّفه تطويرُها من جهدٍ وعُلماء وأموال، لا بدّ يصيبنا بالذهول. وكلّ هذا لاستئصال أعدادٍ هائلة من البشر الذين ندعوهم “إخوتنا في الإنسانية”.
كان من المتوقّع، بعد دخول الإنسان عصر الحضارة، انتهاء عصر الوحشيّة وانخفاض منسوب العنف. فالتقدّم العلمي والمادّي الذي تحقّق في العصور المتلاحقة، بدءاً من عصر النهضة، مروراً بعصر الصناعة، فعصر التكنولوجيا والاتصالات، أدّى إلى الوفرة وما يوحي بنبذ القوة. ذلك أن التقدّم صادف رُقيّاً في التعامل البشري، وأصبح الإنسان في أوروبا حضاريّاً. بيد أن التاريخ القريب والحاضر يوثّق ترافق التحضّر مع التفنّن بالقتل إلى حدودٍ يُصيبنا مجرّدُ تصوُّرِها بالهلع. يشهد على هذا العصر الأوربي الذي كان أنانيّاً واستغلاليّاً، والمغامرة الاستعمارية التي نالت من شعوب أميركا وأفريقيا وآسيا، وكان من مظاهرها استئصال الهنود الحمر في أميركا وشعوب الحضارات القديمة في أميركا اللاتينية.
مثّلت حضارة الغرب، في تقدّمها المطّرد، طموح عصر العقل إلى الكمال، فبدا أنّ الإنسان سيكف عن الشرّ، إذ إن أسباب وفرص النزاع تتضاءل في زمن الوفرة. لكن، على عكس التوقّعات، كان ذلك عصراً للغرور وابتداع الشرور، فجرى توظيف العقل لإحداث قتلٍ أكبر ودمار أشدّ. وكأنّ الإنسان يصبح أكثر وحشيّة كلّما أصبح أكثر تقدّماً، أو أنهما يتقدّمان معاً ويتطوّران معاً، على سكّة واحدة.
الخير لا يردع الشر، بقدر ما يتعاونان لتحقيق التوازن بينهما، وكأنّه لا حياة لهذا من دون ذاك، إلى حدّ انعدام حدود فاصلة بين البربريّة والحضارة. وهذا ما يحيلنا إلى أنّ الإنسان لم يتغيّر في أعماقه منذ أقدم العصور. ظل حيواناً مفترساً على الرغم من كلّ المظاهر الحضارية وإنجازات التقدّم والحداثة. حاولت الفلسفة، بعد محنة النازيّة، تفهُّم كارثةٍ غرّرت بغالبية الشعب الألماني، كان خطرُها ينبع من قابليّتها للتجدّد رغم ما حاق بها من هزيمة عسكرية، فميّزوا بين العقل التنويري الحضاري الإنساني والعقل الجشع، الانتهازي، الاستغلالي، البارد.
حصل تقدّمٌ نوعي، في أوروبا، تحت تأثير العقل التنويري، طيلة النصف الثاني من القرن العشرين وحتّى اليوم. وكانت تلك أوّل مرة يمضي فيها ما يزيد عن نصف قرن من دون أن تندلع أيّ حرب بين الأمم الأوروبية، وأوّل مرّة تتّحد فيها الدول الأوروبية داخل كيان واحد هو الاتحاد الأوروبي. كان ذلك دليلاً على انتهاء الحروب، لكنّه، في الوقت نفسه، دلالة على حروب جرى تصديرها إلى شعوب تخلّصت من الاستعمار، ولم تتخلّص من ذيوله؛ وهو أيضاً دلالة على ما تركه هذا الاتحاد وراءه من خلافات اصطنعها وباتت أداته في تأجيج الصراعات بين هذه الشعوب.
لم يعدم العنفُ المدافعين عنه. قيل إنّه جزءٌ لا يتجزّأ من الطبيعة الإنسانية، شيء مستبطن داخل الإنسان. وبالتالي، فمفهوم الحضارة شيءٌ نسبيّ لن يتوصّل الى تغيير طبيعة الإنسان بشكل جذري. بل ويمكن اعتبارُه نوعاً من التنفيس عن مشاعرنا العدوانيّة. وربما لهذا نشهد انسجاماً بين البشر والجريمة، التي تُحال إلى رغباتٍ دفينة تُرافقنا في اللاشعور.
لكن ماذا في الدفاع عن أنفسنا وعن الحياة ذاتها، كأنّ البشر لم يغادروا الغابة بعد، وما زالوا يُصَفّون حساباتهم الغريزية. كان الدفاع عن النفس ضدَّ الحيوانات المفترسة، وأصبح قتالاً دؤوباً شرساً، ومتصاعداً بين البشر، وكأنّ في قتل الآخر حياةً لنا. إذا كانت الحياة تستحقّ أن تعاش، فالعنف يهدّدها على الدوام. وإذا أردنا حمايتها، فالأمر السيئ أنّ مخاوفَنا ناجمةٌ عن عدوانيّتنا نحن بالذات.
المصدر: العربي الجديد