حفلت السنوات العشرون الأولى من القرن الواحد والعشرين بسلسلة هامة من المتغيرات على كل الصعد والمستويات..منها إقتصادي وسياسي ومنها إجتماعي ثقافي .. جميعها من صنع الإنسان أو بسببه..وقليل منها من صنع الطبيعة بما حملت من متغيرات مناخية وبيئية .. ويبقى المتغير الأخطر ذلك الذي طرأ على مجاميع القيم الأخلاقية بشقيها الإنساني الفردي والإنساني المجتمعي..
وإذ ليست هذه المتغيرات مفاجئة أو آنية خاصة بالقرن الواحد والعشرين الراهن، فهي نتائج بديهية لمقدمات سابقة ظهرت واستفحلت خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين المنصرم.. تراكمت تدريجيا عبر أحداث متشعبة كثيرة حتى تبلورت بشكل واضح فاضح في بدايات القرن الحالي..
فمنذ اوائل سبعينات القرن العشرين بدأت فعاليات تفرد وسيطرة النظام الرأسمالي العالمي تتبدى أكثر فأكثر في عموم بلاد العالم إثر سلسلة متلاحقة من المتغيرات الدولية كان منها تراجع المشاريع المناهضة للسيطرة الرأسمالية وتحديدا حركة عدم الإنحياز بعد وفاة جمال عبدالناصر ، ثم شيخوخة الإتحاد السوفييتي كنموذج بديل ؛ إنتهت بسقوطه ، مما دفع النظام الرأسمالي إلى إعتبار ذاته صاحب السيادة المطلقة والنموذج الفربد والهيمنة المتفردة..فكان هذا تأسيسا لما سمي العولمة التي شكلت ولا تزال أعلى مراحل الإمبريالية الرأسمالية والتحكم بمصائر البشر وموارد عيشهم وحياتهم..
## (( تحتاج المتغيرات العالمية منذ بدايات سبعينات القرن العشرين إلى سرد خاص سنعود إليه لاحقا )) ##.
شكل هذا كله سمات عامة متشابهة بين المجتمعات الإنسانية في الشرق والغرب ؛ وإن بنسب متفاوتة وفعالية مختلفة..وكان سببا في أزمات وظهور أحداث ومتغيرات من كل نوع ، طبعت البشر والقيم والأنظمة والقوانين ومناهج الحكم والتعليم والثقافة بطابعها ، بلغ ألأمر حد المقدرة على التلاعب بالإنسان المعاصر وإعادة تشكيل وعيه وضميره وحياته وفق مصالح القوى الرأسمالية المسيطرة والسائدة بما تملك من إمكانيات هائلة ومقدرة وخبرة في التلاعب بالعقول والتحكم بالنفوس..وكان لتطور الإعلام وتقنياته وما يسمى ” وسائل التواصل الإجتماعي ” وإنتشارها السريع والعام ؛ دورا أساسيا في جميع ما سبق..
إن معرفة وتحليل تلك المتغيرات يشكل مدخلا لازما لفهم وتفسير مجريات الأحداث والصراعات والأزمات التي شهدها ويشهدها العالم ويقع جميع البشر تحت تأثيراتها السلبية والإيجابية دون إرادة منهم أو لهم فيما يجري..ومنها بالتأكيد بلادنا العربية والأحداث المرعبة والكبيرة التي مرت عليها خلال السنوات الخمسين المنصرمة..
فيما يلي نستعرض بإختصار شديد بعضا من تلك المتغيرات وما أنتجته من سمات إنسانية – إجتماعية عامة ، بات تأثيرها واضحا في جميع المجتمعات الإنسانية ( بما فيها مجتمعاتنا العربية )… ولسوف نفرد للواقع العربي ومتغيراته الخاصة بحثا مستقلا عله يساعدنا أو يدفعنا لفهم ما نعاصره من أحداث وما نعيشه من أزمات ونكبات تتوالى وتتراكم بما بات يهدد الوجود العربي برمته وفي أساساته وثوابته التاريخية والحضارية.. ولعل هذا الفهم يوفر لنا رؤية موضوعية لمشكلات الواقع العربي الراهن وما يواجهه من مخاطر وتحديات ؛ كذلك ما يقدمه من مقومات موضوعية قادرة على إستنهاضه فيما لو تم تجنيدها وبلورتها وتنظيمها في فعاليات نضالية موحدة الإتجاه صائبة المنهج والأهداف..
## أولا : في المتغيرات العامة ..
١ – تضخمت الفوارق الحياتية الإجتماعية بين الناس في كافة المجتمعات الإنسانية..إلى الحد الذي إنعدم فيه ألحديث عن العدل الإجتماعي أو يكاد..لا بل أصبح وكأنه رذيلة يخشى الناس الإقتراب منها أو الإشارة إليها أو حتى مجرد مراودة أنفسهم عنها بشيء..
صارت الفوارق المتضخمة تلك وكأنها قدر حتمي لا يقل حتمية عن حقيقة الموت الخالدة التي لا ينازع حتميتها أحد أو شيء..
فيما صار يبدو الفقر علامة إرثية مسجلة دامغة لا مفر منها ولا بديل…بل لازمة ملتصقة بجماعات بشرية إستسلمت لقدرها وتخلى الآخرون عنها كلية..وفي هذا أزمة أخلاقية حضارية خانقة تحتاج إلى حلول عاجلة..
٢ – تكدس الثروات في أيدي أقلية من البشر تحصلت على ثرواتها بطرق ملتوية وغير مشروعة حتى قانونا أو غير شريفة إن لم تكن محرمة أو ممنوعة في نطاق القوانين..
وصار الوعي العام قابلا بهذا التكدس وكأنه حق لأصحاب تلك الثروات بدون إعتبار للكيفية التي تم جمعها بها ولو كانت سرقة مفضوحة أو جريمة فاضحة..
أكثر من هذا صار الوعي العام يتقبل فكرة الحصول على المال بأية وسيلة..فالمال هو الهدف والوسيلة مبررة بكل أشكالها..
وصار ينظر إلى أصحاب هذه الثروات بكثير من الإعجاب والتقدير حتى صاروا مثلا أعلى للكثيرين يتطلعون ويفكرون كيف يصبحون مثلهم..
وفي هذا خلل أخلاقي بالغ الخطورة على الإنسان والإنسانية معا..ومنه ندرك لماذا التشويه المتلاحق المتصاعد لكل الرموز الوطنية والقومية والإنسانية وتحطيمها وإلغاء أي دور لها كمثل عليا تلهم الناس قيما ودوافع نضالية وإنسانية ؛ تمهيدا لإستبدالها بتلك الرموز الفاسدة المفسدة والممسوكة أيضا المرتهنة لقوى النفوذ العالمي ؛ أي لذلك النظام الرأسمالي العالمي المعولم الفاسد..
٣ – سيطرة المال والأعمال على السياسة..
إن سيطرة أصحاب المال والثروات المالية على السياسة أو كثير من جوانبها أو التدخل والتأثير في مساراتها ليس جديدا وليس حديثا وإن كان غدا أكثر وضوحا وحدة في السنوات الخمسين المنصرمة..كان يتم ذلك من وراء ستائر وإن كانت شفافة في كثير من الأحيان.. من خلال أناس إمتهنوا السياسة حرفة وصنعة حتى التمرس والثمالة والإختمار…إلا أنها تفاقمت في العقود الثلاثة الماضية ليدخل رجال الأعمال أصحاب الثروات أنفسهم مباشرة إلى عالم السياسة وميدان الحكم والتحكم..طبعا من خلال الشكل الديمقراطي ونهجه المرتجف ضعفا أمام سلطان المال ونعني الإنتخابات والتصويت الذي بات في متناول سلاطين المال والإعلام التحكم فيه بطرق عديدة ووسائل متعددة..
دخل رجال الأعمال ميدان السياسة فباشروها بعقلية التاجر الذي يستطيع شراء كل شيء بالمال ، والرغبة بالكسب المادي السريع فراحوا يصبغون السياسة بهذه العقلية فإستشرى الفساد في كل المؤسسات حتى صار السمة الغالبة على كل مناحي الحياة الحديثة..وسقطت السياسة في وحول المصالح والمنافع وساد التهافت أدواتها ومؤسساتها بما فيها الأحزاب والنقابات..وإن بقي الشكل الديمقراطي سائدا كوسيلة للتنافس على فرض المصالح على الناس باسم الإنتخابات..وفي هذا أيضا نموذج متفرد للفساد العام والخاص أيضا..
٤ – إنتشار الفساد.
لم يقتصر الأمر على انتشار الفساد وطغيانه على أشكال العمل السياسي ومؤسساته حتى في البلدان المتقدمة بل الأخطر من ذلك أن أصبحت لغة الفساد متداولة بشكل تلقائي وروتيني بما تشمله من سمسرة ورشوة وصفقات وعمولات ومقايضات وسرقات وتبييض أموال ؛ وصارت هذه السلوكيات طبيعية حيث تم تطبيع عقول الناس وسلوكهم على تقبلها والتعاطي معها بأريحية بل وممارستها كجزء متمم لأنواع الأنشطة الحياتية المختلفة بما فيها السياسة..وإخترقت كل شيء آخر بعدها حتى الفن والثقافة والطب والعلاقات بين الناس – عموما -..
وغدا أصحاب الأموال مرجعيات إجتماعية وسلطوية نافذة تفرض رؤاها التافهة على العموم ..عموم الناس والحياة معا..
٥ – تبييض الأموال :
لما كثرت ألاموال المتحصلة بالطرق غير المشروعة – اخلاقيا وقانونيا – برزت الحاجة إلى ما يسمى تبييض هذه الأموال الوسخة فتشكلت مافيات عالمية تشارك فيها دول وحكومات واحزاب وميليشيات وعصابات وحتى بنوك وأقيمت مؤسسات مصرفية ومالية أعطيت أشكالا قانونيا مهمتها فقط تبييض تلك الأموال المسروقة أو المنهوبة من ممتلكات الأوطان والشعوب والناس ؛ أو تهريبها عن عيون الرقباء والملاحقات..حتى تم ابتداع مؤسسات مصرفية في احدى الجزر البريطانية – وفي غيرها أيضا – تودع فيها الحسابات بارقام فقط دون أية أسماء لأن زبائنها من كبار المسؤولين في أنحاء العالم..
والأرقام المعلنة عن تلك المبالغ وأصحابها – إن عرفوا – مرعبة فعلا..حتى صار تبييض الأموال الوسخة جزء متمما للإقتصاد وأنشطته المتنوعة.. وفي هذا أيضا إنحطاط أخلاقي يتضمن فيما يتضمن إعلاء شأن أؤلئك المستعدين للتعاطي القذر بالأموال الوسخة وتجيير طاقاتهم ونفوذهم للتغطية عليها وعلى أصحابها ووسائل كسبهم غير المشروع لها وكذلك على وسائل تصريفها وتشغيلها ..
٦ – سيطرة الإعلام :
فبرزت ظاهرة صناعة العقول وتشكيل الوعي وتوجيه الرأي العام وفقا لمصالح وأهواء مالكي الإعلام..ولما كان الإعلام الحديث يحتاج إلى إمكانيات مالية ضخمة ؛ فقد إمتلكه رجال المال والأعمال من كبار الرأسماليين ولا سيما الذين دخلوا ميادين السياسة منهم أو أؤلئك الذين يوجهون السياسة من وراء حجب ؛ وراحوا يستخدمونه دون أية إعتبارات وطنية أو إنسانية أو أخلاقية ؛ وذلك لخدمة مصالحهم ومشاريعهم المشبوهة غالبا ؛ ولتوجيه الرأي العام وفق توجهاتهم وبالتالي تسيير السياسة بما يخدم مصالحهم هم بما فيها من جشع مفتوح لكسب المال والربح والمزيد المتراكم من الربح مهما تكن الوسائل المستخدمة ولو أدت إلى هلاك البشر كلهم أو بعضهم..
بلغ الأمر أن صارت وسائل الإعلام هي المصدر الوحيد ليس للأخبار فقط بل للتوجيه السياسي والحياتي والثقافي والإجتماعي ..( خصوصا مع تراجع دور الأحزاب السياسية وفقدان دورها التثقيفي التوعوي ) وإستسلم الناس لمرجعية وسائل الإعلام رغم ما فيها من كذب ودس وخبث وتحريض ومخادعة وتزييف..فصار التلاعب بالعقول والنفوس عملا يسيرا في متناول الإعلام ومزوديه وموجهيه…
٧ – الحروب :
كثرت الحروب والمعارك العسكرية والمناوشات المسلحة في كثير من بلاد العالم لا سيما الثالث منه الزاخر بالموارد الطبيعية والغني بالثروات بأنواعها..حتى صار إمتلاك تلك الموارد هدفا لكل القوى العالمية المسيطرة تفتعل الحروب وتثير الفتن وتغذيها وترعاها وتمولها بل وتصنع أدوات محلية تخوض عنها حروبها لتكون ذريعة لتدخلها فتضع يدها على تلك الموارد الطبيعية وأسباب الطاقة والثروة في كل مكان من العالم..وبدلا من أن تكون تلك الثروات سببا لتنمية وتطوير بلدانها صارت نقمة على تلك البلدان بسبب التدخلات الخارجية التي تصنع الحروب فيها وتؤججها..
ثم كان إفتعال الفتن والحروب سببا أساسيا لبيع الأسلحة مع ما يعني ذلك من أرباح مالية ضخمة ومن تدعيم لشركات صناعة السلاح وجميعها في العالم الرأسمالي المتقدم المهيمن..
ولم تتورع تلك القوى التي تصنع الحروب وتعممها وتنقلها من بلد إلى آخر ؛ عن تشكيل ميليشيات محلية ؛ تسلحها وتختار عناصرها وتدربها وتمولها وتسوق لها شعاراتها وتطلقها لتفجير الحروب وإبقائها مشتعلة متقدة تفور وتهدأ كيفما يرى مشغلوها وتستوجب مصالحهم..ولعل إخفاء تلك الحروب بمسميات دينية باطلة أو بنوازع عرقية تقسيمية ، أحد أوجه الخطورة فيها مع ما تسببه من تدهور أخلاقي وتفسخ إجتماعي علاوة على نهب البلاد والسيطرة عليها وعلى مواردها وقرارها ومجريات الأحداث فيها بل ومصيرها كله وإلحاقها بأطراف النظام العالمي الفاسد يتحكم بها ويضمن سيطرتها عليها لعقود مقبلة..وهو وإن ” تصدق ” عليها بحلول سياسية إنتقالية ، يصنع لها دستورا مفخخا يسلم السلطة فيه إلى صنائعه من نواب ووزراء وحكام وأجهزة أمنية يشكلها على ما يجعلهم هم ينفذون ما يريده ؛ فيما يظهر ذاته كوسيط لحل المشكلات والصراعات بينهم والتي يصنعها هو ويضعها في طريقهم ليبقى متحكما بالجميع مسيرا لهم بقوة الدفع الذاتي فيهم..
يتبع..