تلفت الثورة السورية جميع أنظار أصحابها واعدائها ومتابعيها من نواح كثيرة ومتعددة المستويات، وتثار حولها الأسئلة السياسية الجوهرية التي مازالت أجوبة غالبيتها غائبة عن ممارسي العمل السياسي من الأحزاب والتيارات والجماعات والحركات والأفراد، أو أن بعضهم يتهيب الإقرار بها، ويتخوف الدعوة إليها.
وأحد أهم الأسئلة السياسية: لماذا لم يستطع السوريون فرز قيادة تليق بثورتهم العظيمة التي لم تدخر بابا من أبواب التضحية إلا قدمت أغلى ما تملك فيه؟ وسؤال سياسي آخر يمثل جانبا ثانيا: لماذا لم يتمكن من يدعون الانخراط في الشأن العام أن يلتئموا فيما بينهم ويقودوا الدفة السياسية لصالح ثورتهم التي لم تترك محفزا لذلك إلا حركته واستفزته بأكبر قدر ممكن ؟! ليس أولها ولا آخرها أطفال بعمر براعم الزهور تجتاح أجسادهم أعتى الأسلحة وأكثرها فتكا، وتقذف بجثثهم أمواج البحار إلى شواطئها كأنها دمى تحاكي شكل الإنسان .
يختلف السؤال الأول عن الثاني كثيرا وإن كان المؤدى واحدا، فالأول جهد شعبي عماده وعي سياسي متأصل وجذري ومتراكم، أما الثاني فهو نخبوي تقوم به صفوة تنتمي إلى شعبها وتلتصق بقضاياه وتتبنى ثقافته، وعلى أهمية سبر غور كلاهما إلا أنني سأكتفي بالثاني، ولا تمنعني معرفتي بأن الإجابة تحتاج إلى بحث متكامل أو شبه متكامل لدقة المسألة المطروحة وضرورتها، من الاكتفاء بسطور مرصوصة ومتماسكة تشكل انطلاقة لحوارات هادفة، وكتابات أوسع، وخطوات عملية لفئة سورية نوعية من حيث اهتمامها ومتابعتها وتخصصها، لا يتعدى كاتب هذه الإضاءة أن يكون أحد أعضائها .
ويظن كثيرون بعد عشر سنوات من الثورة السورية أن الإجابة على هذا السؤال سهلة، وأن أغلب أسبابه قد عرفت، والصواب غير ذلك إذ تخلط ثلة لا بأس بها بين السياسة والقدرة والأهلية لممارستها، وبين نجاحها أو تفوقها في ميدان آخر؛ فالتفوق في مادة الرياضيات بحد ذاته، أو المهارة العالية في معالجة فكي الأسنان، أو التدرج في الرتب العسكرية، أو في سائر التخصصات العلمية والفنية، وكذلك المهارات، لا يفضي ولا يمنح الجدارة بالقيادة السياسية فهي أمر مختلف كليا، وإصرار هؤلاء على الدمج بينهما عنوة يقود إلى التدمير أكثر من التعمير، ولا عبرة هنا للنوايا الحسنة والحماس، فالتذرع بهما أو بسواهما دون الكفاءة هو تعويض نقص أو مركبه وعقدته .
وهناك عدم تمييز صارخ بين الوظيفة الإدارية والوظيفة التنفيذية وبين القيادة السياسية؛ وبحكم معرفتي المباشرة بأغلب أو جميع الأفراد الذين دفعت بأكثرهم توافقات غير سورية كانت تريد الاستثمار فيهم فإنهم ينتمون إلى ما سبق من نقاط كلا أو بعضا، ويعز عليهم أن يعترفوا بذلك – إن افترضنا جدلا أنهم يعلمون الفروق – بل يصرون على تغطية الشمس بالغربال .
وإذا تجاوزنا كل ذلك بحسبانه بات مكشوفا لقطاع واسع من السوريين وقد أدركوا أنهم منحوا ثقة سياسية لمن لا يستحقها، وغير قادر على النهوض بأعبائها؛ ودخلنا في الأسباب المباشرة لموانع القيادة بمعناها المهني الدقيق نجدها على مستويين :
– مستوى أول تقليدي يتلخص بأوهام الصفة، وأمراض الأنا لا يمكن التقليل من تأثيراتها السلبية، أو تجاوز انعكاساتها، وضرورة تفاديها، لكن هذا المستوى ليس هو المانع الحقيقي لتوليد القيادة، إذ إن السوريين مؤهلون لشدة معاناتهم لتجاوز هذه الأمراض الكارثية مرحليا على الأقل للتخلص من العصابة الحاكمة وسطوتها وإجرامها .
– مستوى ثان عميق جدا يتعلق بالجغرافية كلها وتاريخها ودورها، وبفهم ذلك جميعه ووعيه والعمل بمقتضاه سلوكيا. وهنا العقدة المستعصية، والحبكة المتفلتة، فجميع الأحزاب والشخصيات اليمينية أو اليسارية أو العلمانية تؤمن بالدور الإقليمي والدولي أولا، وبالسوريين ثانيا أو لاحقا، والخلاف فيما بينهم ليس على أصل المسألة إنما على ترجيح إقليمي على آخر لاعتبارات أيديولوجية أو ذاتية، والخلاف بينهم كذلك على النسب، ولم تكن التكتلات الحزبية السياسية، والفصائل العسكرية، والشخصيات تبرز تمنعا حقيقيا، ولم تكن تتصدى، بل لم تجد غضاضة في أغلب هذه الأدوار صديقها المتوهم أو عدوها الواضح، وبقيت تتساير معها، وتنتقل منصاعة لإرادتهم من طور إلى آخر، حتى وصل الحال إلى المستوى الإنساني الكارثي الذي نشاهده، ومازالت هذه الناحية قائمة دون تغيير يذكر رغم كل التواطؤ والإجرام الممارس .
الفارق الوحيد فيما بينهم هو الانحيازات المفصلية التي وضحت على نحو لافت لجهة إقليمية على حساب أخرى، ويكفي لمعرفة ذلك نظرة سريعة إلى العواصم التي تموضع فيها هؤلاء، والتسهيلات التي تقدم إليهم من قبل حواضنهم الإقليمية بمتابعة ورقابة دولية، وتعتبر النفقة المالية إحدى تلك التسهيلات .
ومن هنا نرى الدعوات التي تنادي بتجميع شخص من هنا وآخر من هناك لتأليف لجنة أو تكوين مؤتمر أو إطلاق حزب أو مجلس كم هي بريئة وبسيطة، وكم هي سريعة التداعي والتلاشي والانهيار، وستكون هذه التشكيلات مجرد مسميات توضع على الرف .
وتعتبر هذه القضية بمستواها الثاني أزمة ذات وجهين : وجه محلي، وآخر إقليمي ودولي .
أما المحلي وهو الأساس والأكثر أهمية فيحتاج إلى زمن وجهود وقناعات كبيرة، بالإضافة إلى وسائل وطرق متأنية لصناعة نواة قيادية صلبة يتعذر على الخارج تفكيكها أو اختراقها أو الاستهانة بها على نحو ما سبق طيلة عقود، ومضطر رغما عنه للتفاعل معها لا سيما أنه لم يدخر جهدا لمنعها .
أما الإقليمي والدولي فقد اعتمد على عينات مخبوءة، ظهرها مكشوف، وأدواتها المحلية هشة، وقاعدتها الثورية ضئيلة للغاية، وقدرتها على المناورة ضعيفة جدا، ويدرك المشغل أزمته الجديدة التي أوقعته فيها الثورة السورية على نحو غير مسبوق إدراكا كبيرا، لكنه يرفض الاعتراف بهذه الأزمة الحادة، ويكابر عنادا، ويطيل حبل الإجرام، ويرسل عنانه .
ولن يستطيع الإقليمي والدولي وعيناتهم المخبوءة مهما راهنوا على الزمن، ومهما تلاعبوا بآمال السوريين، واستهانوا بآلامهم، وكادوا لإرادتهم أن يحسموا قضية القيادة بمستواها الثاني لصالحهم وسيتمكن المحلي – السيادي العلني غير المخبوء – بصعوبات جمة من خلال شخصيات نوعية أن تنتزع قيادتها لثورتها عبر شعبها الذي سيلحظها بخطابها ومواقفها، دون حاجتها لبصمة الإقليمي والدولي؛ وهذا سيكون إنجازا هائلا للمنطقة بأكملها .
ويعد التنازع المحلي بين شطريه، القيادي السيادي، والمخبوء عند مشغليه لحين الطلب، واستظهار هذا التنازع بعمق سياسي، وإدراك قيمته التاريخية، وعدم تمييعه ممن لا يعلم دور القيادة – وكثيرا ما يجري – وامتلاك القدرة على التفريق بين هذين الشطرين، هو الفيصل الذي سيحسم مسألة القيادة المترنحة .
ولا توجد منزلة قيادية بين المنزلتين، وإن المعركة الحقيقية التي جرت في المنطقة منذ ما يربو على مئتي عام كانت تتمحور على هذه القضية بين الشطرين بأشكال متنوعة، والاحتلال البريطاني والفرنسي والايطالي، وقبله النمساوي والبرتغالي والإسباني هو أحد هذه الأشكال التي قتلت أو أزاحت أو همشت الشطر السيادي، وأفراد ما يسمى بالدولة الوطنية كانوا من الشطر المخبوء المدعوم من المحتل، والوجود العسكري الضخم على أرض سورية دعما للعصابة بإجرام منقطع النظير، وبإسهام الراديكالية وتوظيفها هو لمنع القيادة السيادية، ولتثبيت قيادة الواقعية السياسية .
فهل بعد كل هذا سيطالعنا من يظن أن تشكيل القيادة أمر سهل وسريع، أم يجود الزمان بمن يفقه التاريخ، ويعي ضرورة المرحلة، ويتجاوز عقدة الدور الإقليمي والدولي، ويؤمن بشعبه، ويقدر تضحيات ثورته العظيمة، ويعمل على القيادة السيادية المفقودة منذ أمد بعيد .
المصدر: نينار برس