تزدحم الأجواء السورية بحركة الطيران الحربي للعديد من القوى الإقليمية والدولية، التي تدخلت بشكل مباشر، أو شبه مباشر، في الأزمة السورية، وبات لها تواجد عسكري على الأرض أو في الجو. وأضحى هذا الأمر مصدر قلق لكل تلك الأطراف، خوفاً من عمليات تصادم محتملة، لو عن طريق الخطأ، نتيجة كثافة حركة الطيران، وفي ظل غياب آلية تنسيق واضحة ورسمية لتنظيمها.
وعلى الرغم من أن التنسيق الأميركي والإسرائيلي مع روسيا التي تعد المتحكم الأكبر بالأجواء خفف من إمكانية حدوث “خطأ”، وذلك إلى جانب وضع قيود على حركة طيران النظام السوري فوق مناطق معينة من البلاد، إلا أن كل ذلك لا يبدو كافياً. ويستشعر مسؤولون أميركيون الخطر أكثر من ذي قبل، لا سيما مع تعاظم حدة الضربات الإسرائيلية ضد أهداف للنظام السوري وإيران أخيراً، وذلك بحسب تقرير لمجلة “نيوزويك” الأميركية، نشر الخميس الماضي.
ونقلت المجلة عن مسؤول استخباراتي أميركي، وصفته بالرفيع المستوى، والذي فضل الكشف عن اسمه، مخاوف بلاده “بشأن الحجم الهائل للحركة الجوية الناجمة عن حملة القصف شبه السرية الإسرائيلية، بينما تنفذ القوات الجوية الروسية والسورية مهماتها الخاصة”. وأوضح المسؤول، أنه خلال غارات الأسبوع الماضي قرب مطار دمشق، والتي اتهمت إسرائيل بالقيام بها، “لاحظت الولايات المتحدة زيادة كبيرة في النشاط الجوي العسكري فوق سورية، بما في ذلك من قبل إسرائيل وروسيا، بالإضافة إلى الطائرات السورية”، منوهاً إلى أن “زيادة حركة الطيران جعلت وقوع حادث مؤسف أكثر احتمالاً”. وقال “كان المجال الجوي مليئاً بما يتجاوز المعايير اليومية، ما يزيد من فرصة سوء التقدير، أو ربما خطأ في تحديد الأهداف من قبل جميع الكيانات”. وأشارت المجلة إلى أن خطوط الطيران غير واضحة، وهو ما أدى، بحسب تقارير، إلى وقوع أكثر من 170 حادثاً يخص طائرات حربية ومسيرة، شملت نحو سبع دول، فضلاً عن جهات أخرى فاعلة على الأرض السورية، من دون أن تفصّل طبيعة هذه الحوادث.
ونقلت المجلة عن مصدر سوري، طلب عدم الكشف عن هويته، قوله إنه “فيما يتعلق بالمجال الجوي المزدحم فوق سورية، فإن هذا مصدر قلق دائم، لا سيما بعد تدخل الولايات المتحدة في سورية”. وأضاف “الآن حيث تعمل روسيا والولايات المتحدة وتركيا وفرنسا، ناهيك عن إسرائيل، جميعاً فوق أو بالقرب من سورية، فإن الحوادث ممكنة دائماً، لا سيما عندما يتعلق الأمر بصواريخ الدفاع الجوي. بمجرد إطلاق الصاروخ، لا مجال للتراجع”.
وذكرت المجلة مثالاً عما وصفتها بـ”الحسابات القاتلة الخاطئة”، إسقاط النظام السوري لطائرة تجسس روسية خلال غارة إسرائيلية في العام 2018. وأسقطت الولايات المتحدة طائرة سورية، يُزعم أنها كانت تحلق فوق الأراضي الخاضعة لسيطرة “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، المدعومة من البنتاغون في العام 2017. كما قام كل من النظام السوري وإسرائيل بإسقاط الطائرات الحربية لبعضها البعض. وفي حين تشير المجلة إلى أنه لم يسجل أي اشتباك بين الطائرات الإسرائيلية والروسية، لكنها تخلص إلى أنه لا يمكن استبعاد حدوث ذلك لاحقاً.
ونقلت “نيوزويك” عن مسؤول عسكري إسرائيلي قوله إن الاتصالات بين تل أبيب وموسكو خففت من المخاطر على الجانبين. وأوضح “لدينا بالفعل آلية لمنع التضارب مع الجيش الروسي تسهل حريتنا في العمل، مع تقليل مخاطر الاحتكاك مع القوات الروسية وتعزز الأمن المتبادل. وحتى الآن، كانت فعالة للغاية، وصمدت في مواجهة الظروف الصعبة في ساحة معركة كثيفة للغاية”. ونقلت عن مسؤول أمني إسرائيلي آخر، تحدثت إليه الشهر الماضي، قوله إن “الجيش السوري يمنح حزب الله (اللبناني) مساحة كبيرة لفعل ما يريد، ويجعل الأوضاع غير مريحة بعض الشيء”، معتبراً “أنها مشكلة كبيرة بالنسبة لنا أن نقرر في الواقع من سنضرب وماذا نفعل”.
وكان وزيرا الدفاع الروسي سيرغي شويغو والإسرائيلي بني غانتس بحثا “قضايا التعاون الروسي الإسرائيلي لضمان الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط”، وذلك بحسب بيان لوزارة الدفاع الروسية، أمس الأول، أشار إلى أن الاتصال الهاتفي جرى بمبادرة من الجانب الإسرائيلي. ومن جانبه، أعلن مكتب غانتس، في بيان، أن الوزيرين بحثا الملف السوري، واتفقا على “مواصلة المشاورات الهامة بهدف ضمان أمن قواتهما وبشأن الحاجة إلى تفعيل الجهود الإنسانية في المنطقة”. ويعتقد أن الاتصال تناول التنسيق حول حركة الطيران الروسي والإسرائيلي، بعد تكثيف تل أبيب ضرباتها لقواعد ونقاط عسكرية تابعة للنظام وإيران.
مصدر سوري ثانٍ أوضح للمجلة أن المخاوف لا تقتصر على الحوادث العسكرية، بل تشمل أيضاً الطائرات المدنية، ملمحاً إلى أن احتمالية الخطأ “أمر شائع جداً”، مشيراً إلى أن الطائرات الحربية الإسرائيلية تستخدم مسارات الطيران المدني خلال عملياتها. وحدد المناطق المحظورة على طيران النظام السوري، حيث “تشمل الشمال الشرقي المتمتع بالحكم الذاتي، وجيب صحراوي جنوب شرقي سورية تسيطر عليه الولايات المتحدة، وامتداد حدودي شمالي يحتله المتمردون والجهاديون والقوات التركية”، على حد وصفه. وحدد مجال سلاح جو النظام بالقول إنه “يعمل على الحدود الجنوبية والغربية، وكذلك قبالة ساحل البحر الأبيض المتوسط”، منوهاً إلى أن “أي نشاط قريب جداً من الحدود اللبنانية أو الإسرائيلية سيقابل برد عسكري إسرائيلي”. وأكد أن هناك قيودا على حركة الطيران السوري، وهو أمر لا ينطبق على الروس، موضحاً أن الطيران الروسي يملك حرية الحركة في الأجواء أكثر منهم.
وفي 2016 و2017، كان هناك اتفاقات غير رسمية عن آليات تنسيق مشتركة بين الولايات المتحدة وروسيا، لتنظيم حركة الملاحة الجوية فوق الأجواء السورية، بعد التدخل الروسي إلى جانب النظام جوياً وبرياً، وزيادة حركة طيران التحالف خلال الحرب ضد تنظيم “داعش”. وكشف المتحدث السابق باسم التحالف الدولي لمحاربة “داعش” العقيد رايان ديلون، في يونيو/حزيران 2017، عن اجتماع لتوسيع الولايات المتحدة وروسيا التنسيق بينهما بشأن حركة الطيران في الأجواء السورية. وأشار حينها إلى أن التنسيق سيشمل تبادل الرسوم التخطيطية ومواقع العمليات، لتجنب حوادث اصطدام الطائرات بين الجانبين. وذكر أن “مسؤولي التحالف والجيش الروسي التقوا وقاموا بضبط وتوسيع إجراءات منع حوادث الاصطدام أو الاستهداف العرضي (قصف أهداف عن طريق الخطأ)”.
وأوضح الرائد يوسف حمود، وهو ضابط منشق عن سلاح الجو في قوات النظام السوري، ويشغل اليوم منصب المتحدث الرسمي لـ “الجيش الوطني”، الحليف لتركيا، في حديث مع “العربي الجديد”، أنّ “الروس يتحكمون أكثر من غيرهم من المجال الجوي في سورية، نظراً للمساحة الكبيرة التي ينشرون فيها رادارات الدفاع الجوي. أما بالنسبة إلى إسرائيل، فقد لاحظنا أن كل المجال الجوي السوري مفتوح أمام حركة الطيران الإسرائيلي، بغض النظر عن رادارات الدفاع الجوي للنظام وروسيا، ويتشارك معهم ذلك الطيران الأميركي الذي يعمل تحت اسم التحالف الدولي”. وأوضح أن “الطيران التركي مجال حركته في الشمال، وأغلبه عبر الطيران المسير”. ونوه، في حديثه مع “العربي الجديد”، إلى أن “التميز التقني لتجنب احتمالات التصادم، يصب في مصلحة طيران التحالف وإسرائيل، كونهم يملكون طائرات ذات تقنيات عالية، تستطيع تحديد الأهداف، بالإضافة لتوجيهها من قبل مراكز عمليات متطورة من الأرض، أو عبر الأقمار الصناعية”. وأكد حمود، من خلال خبرته وعمله في سلاح الجو السوري سابقاً، أن هذا السلاح “يعتمد على طرق تقليدية في تحديد حركة الملاحة الجوية، وأولها الملاحة بالرؤية، حيث يستخدم النظام، بنسبة تفوق 80 في المائة من طلعاته الجوية، هذه الطريقة، بالإضافة إلى طريقة الملاحة اللاسلكية التي تعتمد على تحديد موقع الطائرة من خلال المنارات اللاسلكية الأرضية”.
وأشار حمود إلى أن هناك عملية الملاحة التي تعتمد على الأقمار الصناعية، ويمكن استخدامها من قبل عدد محدود من طائرات النظام. لكنه كشف أنه “بعد تعاظم حدة الحرب السورية، فتح الروس للنظام إمكانية استخدام أقمارهم الصناعية لتحديد حركة الملاحة أكثر من ذي قبل، وبالتالي بات النظام يملك العامل التقني في هذا الجانب”. لكنه نوه إلى أن “عملية التحكم بحركة الطيران، ورادارات الدفاع الجوي المنتشرة في سورية، سواء للروس والنظام، قد لا تكون بيد النظام بعد التدخل الروسي العسكري الكبير في سورية”. ورغم أن حمود قلل من احتمالية التصادم الجوي بين سلاح الجو للأطراف المتعددة في الأجواء السورية، إلا أنه لم يستبعد حدوث ذلك، طالما أن الاعتماد على تنظيم حركة الملاحة الجوية منقسم بين التقني والعامل البشري.
من جهته، أشار الباحث السياسي السوري رضوان زيادة، في حديث مع “العربي الجديد”، إلى أن كل الدول المنخرطة عسكرياً في سورية لديها أجندات متضاربة، وهي تعرف ذلك، لكنها لا تريد أن تدخل في صدام عسكري مع الدول الأخرى على الأرض السورية. ولذلك فإن هذه الدول تفضل التنسيق فيما بينها على ما يسمى حركة الأجواء كي لا يحصل صدام، وبنفس الوقت تتمتع كل دولة بحرية الحركة والرغبة بتنفيذ ما تقوم به، لأن الدولة السورية ليس لها القدرة على إنفاذ سيادتها جواً”.
وحول ما إذا كان لحركة سلاح الجو المختلف، والتواجد العسكري أساساً في سورية، تأثير على صيغة الحل السياسي المستقبلي في البلاد، أشار إلى أن “تضارب الأجندات بين الدول التي تحتفظ بوجود عسكري كبير على الأرض السورية”، يؤخر الحل.
المصدر: العربي الجديد