عماد كركص
يعود التنافس الروسي ـ الأميركي ليخيّم على المشهد في شمال شرقي سورية، تحديداً عند مثلث الحدود السورية – العراقية – التركية هذه المرة، بعد حركة تعزيزات ملحوظة ومستمرة لقوات الطرفين هناك. ويتذرع الأميركيون لتقوية نفوذهم في تلك المنطقة بعودة نشاط تنظيم “داعش” للتفاقم في البادية السورية، وأحياناً في المناطق التي تسيطر عليها “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، حليفة واشنطن. ومع تعزيز واشنطن وجودها، دخل الروس السباق، مع تعاظم حركة الأرتال الروسية من الغرب، تحديداً من القاعدة العسكرية الروسية في حميميم، نحو الشرق. وفي موازاة ذلك، تعمد موسكو لاستمالة الأكراد هناك من أجل تدعيم نفوذها، ومحاولة عدم تثبيت الهيمنة الأميركية على الشرق، ومكامن الثروة النفطية والزراعية.
وعمدت روسيا أخيراً إلى بدء تعزيز قاعدتها في مطار مدينة القامشلي، شمالي الحسكة، بشكل دوري بالجنود والمدرعات العسكرية، وباتت ترسل إليها براً شاحنات تقل أسلحة وذخيرة، عادة يكون مصدرها القاعدة العسكرية الروسية في حميميم. ومن القاعدة في المطار، تمد القوات الروسية نقاطها الموجودة في كل من تل تمر وعامودا بالتعزيزات. مع العلم أن 200 جندي روسي مع شحنات كبيرة من العتاد والذخيرة، وصلوا في منتصف الشهر الماضي إلى مطار القامشلي، من قاعدة حميميم. وهي أكبر التعزيزات التي أرسلتها روسيا إلى القاعدة في الآونة الأخيرة.
ومع نهاية العام الماضي ومطلع العام الحالي، بدأت القوات الروسية بالانتشار في نقاط جديدة، لا سيما عند المثلث الحدودي مع تركيا والعراق، في منطقة يمر فيها نهر دجلة، الذي يمتد فوقه الجسر الروماني، بالإضافة لمعبر نهي بين إقليم كردستان العراق وسورية، ويعد الشريان للحركة التجارية والطبيعية، ورافداً أساسياً لتحريك عجلة الاقتصاد في مناطق “الإدارة الذاتية” التابعة لـ”قسد”. وهذا ما يشكل هاجساً دائماً لدى النظام والروس للسيطرة على هذه المنطقة التابعة إدارياً لناحية المالكية، فضلاً عن قربها من منابع وحقول النفط والغاز.
ولتحقيق ذلك، سعت روسيا عبر الضغط على “قسد” و”الإدارة الذاتية”، لفرض وجود حرس حدود تابع لقوات النظام، ونشر نقاط لهم على امتداد الحدود مع تركيا. وفي ما بعد حاولت روسيا التمدد عند مثلث الحدود، ما جعل القوات الأميركية تسعى لمجابهة هذا التمدد عبر اعتراض الدوريات الروسية بدوريات أميركية أو أخرى تابعة لـ”الإدارة الذاتية”، فيما لا تزال الدوريات الروسية مستمرة بالتحرك لفرض الوجود الروسي، وصولاً إلى بلدة عين ديوار عند تقاطع المثلث الحدودي.
أمام ذلك، تسعى القوات الأميركية للجم التمدد الروسي العسكري بشكل غير مباشر، منعاً للاحتكاك ومن ثم الاشتباك. ويبدو أن واشنطن ارتأت زيادة حجم قواتها ونشر قواعد إضافية لها في المنطقة، إذ ازدادت حركة التعزيزات والأرتال عبر معبر الوليد الحدودي مع إقليم كردستان العراق، كان آخرها دخول 60 عربة محمّلة بالذخائر منذ أيام، بالإضافة للعربات العسكرية وشاحنات تحمل معدات لوجستية وتقنية متطورة، عدا عن الدعم الجوي المباشر إلى جنوب الحسكة. وعمدت تلك القوات لتثبيت قواعدها ونقاطها القديمة، وإنشاء نقاط وقواعد ومهابط طائرات حديثة، فعلى بُعد كيلومترين من عين ديوار، ثبّتت القوات الأميركية قاعدة جديدة دعمتها بكثير من الجنود والمعدات وأنشأت فيها مهبطاً للطائرات المروحية. والقاعدة هي الثانية من نوعها التي تنشئها القوات الأميركية خلال أقل من شهر، إذ أقامت، نهاية الشهر الماضي، قاعدة عسكرية قرب تل علو في منطقة اليعربية بريف الحسكة الشرقي.
وحول ذلك، رأى القيادي في المعارضة السورية، المحلل العسكري العميد فاتح حسون، أن “روسيا المتحكمة بنظام الأسد والقائمة بأعماله نيابة عنه، عملت على تهدئة منطقة إدلب بالتوافق مع تركيا، ليس عن طيب خاطر، بل بضغط فاعل من تركيا في ملفات عدة، كان آخرها ملف ناغورنو كاراباخ، ولكي تركز على مناطق جديدة خارج سيطرة نظام الأسد، منها منطقة شمال شرقي سورية”. وأضاف في حديث لـ”العربي الجديد”، أن “انتقال روسيا لتعزيز وجودها شمال شرقي الفرات بإرسال المزيد من القوات والمعدات، تسعى من خلاله إلى تحقيق نفوذ عسكري لها بهذه المنطقة يفتح قناة تواصل مع خصمها أميركا، حتى لو أثار ذلك حفيظة الإدارة الجديدة التي تنظر إلى روسيا بدورها على أنها أكثر من خصم”. ولفت إلى أن “روسيا حاولت سابقاً في شمال شرق سورية اختبار إرادة الإدارة الأميركية زمن دونالد ترامب، بإرسال مرتزقتها ضمن شركة فاغنر للهجوم على حقول البترول التي تتمتع بحماية أميركية، فوجدت أن الرد كان عنيفاً جداً، فاستكانت. وهي حالياً تعيد الكرّة مع الإدارة الأميركية الجديدة لاختبارها، ويبدو أنها ستستكين لاحقاً”.
وأشار حسون إلى أن “الإدارة الأميركية الجديدة اختلفت بطريقة التعاطي مع الخطر المتشكل على الجنود الأميركيين عن سابقتها، ففي العراق مثلاً، بدلاً من الانسحاب تقوم بتعزيز قواتها. ويبدو أن هذا السيناريو سيتكرر في سورية، مع إنشائها قاعدتين عسكريتين جديدتين في مناطق نفوذها”. وأوضح أنه “في ظل الصراع على المصالح الدولية، وعدم جعل السوريين يختارون مصيرهم بأنفسهم، ستكون منطقة شمال شرق الفرات ساحة صراع مستقبلي”.
وخلافاً للرأي السائد، رأى رئيس “الهيئة السياسية لمحافظة الحسكة”، التابعة للمعارضة، مضر حماد الأسعد، أن هناك تفاهماً روسياً أميركياً حيال شرق وشمال سورية، ومنطقة الجزيرة السورية بالعموم. وأوضح في حديث لـ”العربي الجديد”، أن “واشنطن تحاول تثبيت أقدامها بقوة هناك، لكنها أيضاً تفسح المجال للروس ليكون لهم دور في شرق سورية لمواجهة تركيا، وذلك للحد من دعم تركيا لقوات المعارضة ومواجهة القوات الكردية الحليفة لواشنطن التي تسعى لإقامة كانتون أو ممر إرهابي في شمال وشرق سورية”. وأشار الأسعد إلى أن “روسيا لا يمكن أن تتحرك شرقي البلاد إلا من خلال الضوء الأخضر والموافقة الأميركية”. وتكمن الاستفادة الأميركية من ذلك، بحسب تعبيره، في أن “واشنطن تدفع بروسيا لمواجهة الأخطار عوضاً عنها، من التمدد الإيراني في الشرق، إلى طموح المعارضة السورية المدعومة من تركيا بدحر قسد، بالإضافة للسيطرة الأميركية على قسد من خلال القوات الروسية، وكي لا تتحمل واشنطن وزر تجاوزات قسد بمفردها، أو تتنصل منها بشكل كامل”.
وكشف الأسعد، الذي يشغل أيضاً منصب المتحدث باسم مجلس القبائل والعشائر السورية، أن “روسيا التقت أخيراً مع عدد من شيوخ العشائر العربية في القامشلي، شمالي الحسكة، بهدف تشكيل مليشيات عسكرية جديدة في الحسكة، مهمتها مواجهة التغلغل الإيراني، وكبح جماح قسد”. وأشارت مصادر، في حديث لـ”العربي الجديد”، إلى أن ضابطاً أميركياً أخبر سكان بلدة دير الغصن بريف الحسكة، وذلك خلال تسيير دورية أميركية هناك، بأن الوجود الأميركي هدفه الرئيس منع التمدد التركي والروسي في مناطقهم، وذلك بعد شكاوى السكان لقائد الدورية من أن الوجود التركي والروسي يمنعهم من متابعة أعمالهم في الزراعة، الأمر الذي يفتح الباب أمام حركة تنافس متشابكة ومعقدة، قد تزداد حدتها في الأيام المقبلة.
المصدر: العربي الجديد