محمود الوهب
منذ عدة أيام، وتحديداً في الثاني والعشرين من شهر شباط لهذا العام، يكون قد مرَّ على ذكرى الوحدة السورية المصرية ثلاثة وستون عاماً وهي أول تجربة وحدوية بين بلدين عربيين في العصر الحديث. وقد أثارت الوحدة لدى قيامها فرحة كبرى في البلدين المذكورين، وربما في دنيا العرب كلها، لما تحمله من مغازيَ سياسية عميقة توحي بمستقبل واعد للتيار القومي العربي الذي أخذت معالمه تبرز وتتشكل في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في كل من لبنان وسورية ومصر والعراق في الدرجة الأولى حتى إن الحركة التي قام بها الشريف حسين سليل الأسرة الهاشمية عام 1916 لدى تفكك الدولة العثمانية أطلق عليها الثورة العربية! وهي لو استمرت، دون خيانة الإنكليز، لكانت قد غيرت وجه المنطقة، كما أنَّ فرحة الوحدة لم تدم سوى ثلاث سنوات ونصف السنة تقريباً فمن 22 شباط/فبراير 1958 إلى 28 أيلول/سبتمبر 1961 تاريخ الانقلاب الانفصالي الذي وقع على وثيقته السياسيون السوريون، وأغلبهم ممن سعى إلى تلك الوحدة مع مجموعة الضباط البعثيين لدى الرئيس عبد الناصر راجين إياه قبول الوحدة، ومنهم من تعلل بالخطر الشيوعي الداهم، وكان عبد الناصر قد برز زعيماً عربياً بعد حرب 1956 التي عرفت بالعدوان الثلاثي، وضمَّت تحالف إنكلترا وفرنسا وإسرائيل إثر نزاع مصري مع أميركا وانكلترا والبنك الدولي ما دفعه إلى تأميم قناة السويس قبل انتهاء مدة امتيازها الفرنسي. وتصل القناة بين أوروبا وآسيا، موفرة خمسة عشر يوماً بحرياً على السفن الأوربية القادمة عبر المتوسط، ويبلغ طول القناة 195 كيلو متر وتسمح بالمرور ذهاباً وإياباً في الوقت نفسه. وكانت مصر قد أنشأتها زمن الخديوي محمد سعيد باشا، واستغرق إنشاؤها 10 سنوات (1859- 1869)، وقد ساهم في عملية الحفر ما يقرب من مليون عامل مصري، مات منهم أكثر من 120 ألف أثناء عملية الحفر نتيجة الجوع والعطش والأوبئة والمعاملة السيئة. دشنت القناة على زمن الخديوي إسماعيل باشا، وتعطي القناة إيراداً سنوياً ما يقارب من خمسة إلى ستة مليارات من الدولارات. وتفكر إسرائيل اليوم بحفر قناة موازية بتمويل إماراتي بعد عملية التطبيع التي جرت خلال الشهرين الماضيين.
أعود إلى ذكرى الوحدة العربية الأولى لأقول إذا كان البعث قد سعى إلى إقامتها خوفاً من الشيوعيين أو طمعاً بحكم سورية فهو الذي أنهاها باستغلاله حركة الانفصال التي لم تدم أكثر من سنة وخمسة أشهر، حين قام عدد من الضباط البعثيين مع عدد من الضباط الوحدويين بانقلاب في الثامن من آذار/مارس عام 1963 تحت هدف إعادة الوحدة إلى ما كانت عليه لكنَّ البعثيين أخذوا يضعون شروطاً على عودتها كالقول بالوحدة المدروسة، وغير ذلك، إلى أن أبعدوا الضباط الوحدويين لينفردوا بالحكم، ثم لتأتي حركة 23 شباط/فبراير 1966 اليسارية، وليدب الخلاف في صفوف البعث بين يمين ويسار أو عسكر ومدنيين وخصوصاً بعد هزيمة حزيران1967 ونذكر للتاريخ أن حركة شباط قدمت لسورية أكثر من أية دولة جاءت بعد عام 1958 إذ بدأت مرحلة جديدة من التنمية بعد أن انقطعت حبالها، وتبدلت سبلها، واختلف النهج الاقتصادي فمن الرأسمالية الوطنية الصاعدة قبل 1958 إلى الحال الضبابية بعد انقلاب 8 آذار/مارس إلى حركة 23 شباط/فبراير حين توجه قادتها إلى الاتحاد السوفياتي أوائل نيسان/ابريل 1966 والاتفاق على عدة مشاريع اقتصادية مهمة كانت قيد التفكير بعد الاستقلال، (سد الفرات والإصلاح الزراعي، ومعمل السماد الآزوتي واستخراج الفوسفات، وسكة الحديد التي ربطت الجهات السورية بعضها ببعض) فوضعت بذلك سورية على عتبة مرحلة جديدة لكن الشباطيين لم يروا أيضاً غير أنفسهم، من بين القوى السياسية الموجودة آنذاك قدرة على حكم سورية. ليأتي بعدئذ حافظ الأسد بانقلابه في 16 تشرين الثاني عام 1970 ويمارس فردية مطلقة وليقطع خيط مسار تلك المرحلة بحيازته على السلطة وإفسادها بتسليط العسكر والأمن على شعبها وثرواته وليمركز السياسة والاقتصاد والمال والإعلام في يده إخضاعاً للمجتمع، وليأتي ابنه لينهي سورية لمئة سنة قادمة بتدميرها وتهجير أهلها من رعونة واستبداد وتفاقم فساد! وليجعل منها مجال نفوذ بين عدد من الدول، ما قد يؤدي إلى تقسيمها.
بعد هذه الجولة العامة في بعض المناخات التي أحاطت بالوحدة فلابد من الذهاب إلى رؤية ما للوحدة، وما عليها، وبغض النظر عن تقييم شخص عبد الناصر وما يتمتع به من وطنية صادقة ونزوع قومي غير مبني على الشعور بالعظمة، بل هو طموح لتوحيد الجهود ولملمة ما في أوطان العرب من ثروات تكاملية وخبرات وإمكانات بشرية إن هي استثمرت لغدا فيها الجميع في رغد وقوة وسلام.
والحقيقة أن مرحلة عبد الناصر كانت صاعدة، إذ كانت المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية في زمن تنازع استعماري خفي. فقد كان حال الاستعماريْن الفرنسي والإنكليزي إلى أفول بينما كانت أميركا في سعي لأخذ مكان الدولتين العظمييْن، بينما كان الاتحاد السوفياتي يبشر بحياة جديدة ويعد الشعوب المستعمَرة والمستقلة حديثاً بإمكانية النهوض والتقدم.
أقول بعد تأكيد إن الوحدة هدف وغاية مستمران، وينتظران نضوج الظروف السياسية والاقتصادية عموماً وأولها الانتهاء من هذه الأنظمة الشمولية التي تؤدي بشقيها، العسكري والقبلي، إلى إعاقة النهوض باتجاه المهمات الوطنية والقومية التي لابد أن يكون على أسس من التنمية الشاملة التي تواكب روح العصر بأدواته ووسائله من علوم وتكنولوجيا رفيعتي التطور.
وأخيراً يمكن القول: إن الفردية التي تثق بحاشية الأقربين وأصحاب المصالح تتجاوز صدق النوايا، وتفتك بالمبادئ. وهذا ما كشفته حرب تشرين التي استثمر فيها أنور السادات ما كان جمال عبد الناصر قد أعدَّه لغسل عار هزيمة حزيران/يونيو! ومن هنا أيضاً يمكن رؤية مسألة حلّ الأحزاب وإيجاد حزب بديل ينطق باسم الدولة قد يفسح في المجال لتسلل النفعيين والانتهازيين إليه. ولعلي أذكِّر بأن عبد الناصر نفسه قد انتقد مسألة حل الأحزاب، وحاول في وقت متأخر من حياته أن يعيد تشكيل الاتحاد الاشتراكي معتمداً على خالد محيي الدين وعلي صبري وسواهما من الوطنيين اليساريين الذين أول من تخلص منهم السادات وهم الذين واجهوا ارتداده. وقد لعب السادات على مسألة توق بعض المصريين إلى نوع من الانفراج. كذلك فإن حكومات القبائل العربية التي كانت تكره عبد الناصر وخطه الوطني، وتخشى على وجودها قد مكنت للسادات ولمن جاء بعده.
المصدر: اشراق