جوزيف س. ناي الابن*
كمبريدج – عندما دعا وزير خارجية الصين وانج يي مؤخرا إلى إعادة ضبط العلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة، رَدَّ متحدث باسم البيت الأبيض بأن الولايات المتحدة تعتبر العلاقة بين البلدين علاقة منافسة قوية تتطلب اتخاذ موقف قوة. ومن الواضح أن إدارة الرئيس جو بايدن لم تهجر سياسات ترامب.
يعتقد بعض المحللين، الذين استشهدوا بعزو المؤرخ اليوناني ثيوسيديدس الحرب البيلوبونيسية إلى خوف أسبرطة من أثينا الصاعدة، أن العلاقات الأميركية الصينية تدخل فترة من الصراع تؤلب قوة مهيمنة راسخة ضد خصم قوي على نحو متزايد.
أنا لست متشائما إلى هذا الحد. في اعتقادي أن الاتكالية المتبادلة على المستويين الاقتصادي والبيئي تقلل من احتمالية نشوب حرب باردة حقيقية، ناهيك عن حرب ساخنة، لأن كلا البلدين لديهما الحافز للتعاون في عدد من المجالات. في الوقت ذاته، يُـعَـد سوء التقدير والحسابات الخاطئة من الاحتمالات الدائمة، ويرى بعض المراقبين خطر “السير دون وعي” إلى الكارثة، كما حدث مع الحرب العالمية الأولى.
التاريخ حافل بحالات سوء الفهم حول موازين القوى المتغيرة. على سبيل المثال، عندما زار الرئيس ريتشارد نيكسون الصين في عام 1972، كان يريد موازنة ما اعتبره تهديدا سوفييتيا متنامية لأميركا الآفلة. لكن ما فسره نيكسون على أنه أفول أو انحدار كان في حقيقة الأمر عودة حصة أميركا الكبيرة بشكل مصطنع في الناتج العالمي بعد الحرب العالمية الثانية إلى وضعها الطبيعي.
أعلن نيكسون تعدد الأقطاب، لكن ما تلا ذلك كان نهاية الاتحاد السوفييتي ولحظة أميركا أحادية القطب بعد عقدين من الزمن. واليوم، يقلل بعض المحللين الصينيين من قدرة أميركا على الصمود ويتوقعون تفوق الهيمنة الصينية، لكن هذا أيضا قد يتبين أنه كان سوء تقدير خطير.
من الخطورة بذات القدر أن يبالغ الأميركيون في تقدير القوة الصينية أو يستخفوا بها، وتحتوي الولايات المتحدة على مجموعات لديها حوافز اقتصادية وسياسية كفيلة بدفعها إلى أي من الحالين. يعادل اقتصاد الصين بالدولار نحو ثلثي حجم اقتصاد الولايات المتحدة، لكن العديد من خبراء الاقتصاد يتوقعون أن تتخطى الصين الولايات المتحدة في وقت ما من ثلاثينيات القرن الحادي والعشرين، اعتمادا على ما يفترضه المرء بشأن معدلات النمو الصينية والأميركية.
تُـرى هل يعترف قادة أميركا بهذا التغيير على النحو الذي يسمح بعلاقة بَـنّـاءة، أو يستسلمون لمخاوفهم؟ هل يخوض قادة الصين المزيد من المجازفات، أو هل يتعلم الصينيون والأميركيون التعاون في إنتاج المنافع العامة العالمية في ظل توزيع متغير للقوة؟
ينبغي لنا أن نتذكر أن ثيوسيديدس أرجع الحرب التي مزقت العالم الإغريقي القديم إلى سببين: صعود قوة جديدة، والخوف الذي بثه ذلك في القوة القائمة. ولا يقل السبب الثاني أهمية عن السبب الأول. يتعين على الولايات المتحدة والصين تجنب المخاوف المبالغ في تقديرها والتي قد تُـفضي إلى نشوب حرب باردة أو ساخنة جديدة.
حتى لو تخطت الصين الولايات المتحدة لتصبح الدولة صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، فإن الدخل الوطني ليس المقياس الوحيد للقوة الجيوسياسية. تحتل الصين مرتبة متأخرة كثيرا عن الولايات المتحدة في القوة الناعمة، ويقارب الإنفاق العسكري الأميركي أربعة أضعاف مثيله الصيني. ورغم أن القدرات العسكرية الصينية كانت في ازدياد في السنوات الأخيرة، فإن المحللين الذين يدرسون التوازن العسكري بعناية يخلصون إلى أن الصين لن تكون قادرة، على سبيل المثال، على استبعاد الولايات المتحدة من غرب المحيط الهادئ.
من ناحية أخرى، كانت الولايات المتحدة ذات يوم الدولة صاحبة أكبر اقتصاد تجاري وكانت أكبر مقرض ثنائي في العالم. اليوم، نجد أن ما يقرب من 100 دولة تعتبر الصين أكبر شريك تجاري لها، مقارنة بسبع وخمسين دولة للولايات المتحدة. وتخطط الصين لإقراض أكثر من تريليون دولار لتنفيذ مشاريع البنية الأساسية في إطار مبادرة الحزام والطريق على مدار العقد المقبل، في حين خفضت الولايات المتحدة مساعداتها. وسوف تكتسب الصين المزيد من القوة الاقتصادية بفضل حجم سوقها الهائل فضلا عن استثماراتها في الخارج ومساعدات التنمية التي تقدمها. كما ستزداد قوة الصين الإجمالية نسبة إلى الولايات المتحدة في الأرجح.
مع ذلك، من الصعب الحكم على موازين القوى. فسوف تحتفظ الولايات المتحدة ببعض مزايا القوة الطويلة الأمد التي تتباين مع نقاط الضعف الصينية.
تتمثل الأولى في الجغرافيا، فالولايات المتحدة محاطة بالمحيطات والجيران الذين من المرجح أن يظلوا ودودين. أما الصين فتشترك في حدودها مع 14 دولة، وتفرض منازعاتها الحدودية مع الهند، واليابان، وفيتنام، القيود على قوتها الصارمة وقوتها الناعمة.
تُـعَـد الطاقة مجالا آخر تتمتع فيه أميركا بميزة واضحة. قبل عشر سنوات، كانت الولايات المتحدة تعتمد على الطاقة المستوردة، لكن ثورة النفط الصخري عملت على تحويل أميركا الشمالية من مستورد للطاقة إلى مصدر لها. في الوقت ذاته، أصبحت الصين أكثر اعتمادا على واردات الطاقة من الشرق الأوسط، والتي يتعين عليها أن تنقلها عبر طرق بحرية تسلط الضوء على علاقاتها المضطربة مع الهند.
تتمتع الولايات المتحدة أيضا بمزايا ديموغرافية. فهي الدولة المتقدمة الرئيسية الوحيدة التي من المتوقع أن تحتل المرتبة العالمية الثالثة من حيث عدد السكان. وعلى الرغم من تباطؤ النمو السكاني في الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، فإنه لن يتحول إلى النمو السلبي، كما هي الحال في روسيا وأوروبا واليابان. من ناحية أخرى، تخشى الصين بحق “أن تشيخ قبل أن تصبح دولة غنية”. وقريبا ستتفوق الهند عليها باعتبارها الدولة الأكثر سكانا في العام، وقد بلغت قوة العمل لديها ذروتها في عام 2015.
كما أن أميركا تظل في طليعة التكنولوجيات الرئيسية (التكنولوجيا الحيوية، وتكنولوجيا النانو، وتكنولوجيا المعلومات) التي تشكل ضرورة أساسية للنمو الاقتصادي في القرن الحادي والعشرين. تستثمر الصين بكثافة في البحث والتطوير، وتتنافس بنجاح في بعض المجالات. لكن أفضل 15 جامعة بحثية بين أفضل عشرين في العالم توجد في الولايات المتحدة؛ ولا يوجد أي منها في الصين.
الحق أن أولئك الذين يعلنون “السلام الصيني” والتراجع الأميركي يفشلون في وضع النطاق الكامل لموارد القوة في حسبانهم. لا شك أن الغطرسة الأميركية تشكل خطرا على الدوام، لكن هذا ما تفعله أيضا المبالغة في الخوف، والتي قد تؤدي إلى المبالغة في رد الفعل. ولا تقل القومية الصينية المتصاعدة خطورة، فهي تعمل، إلى جانب الإيمان بالانحدار الأميركي، على دفع الصين إلى خوض مجازفات أعظم. ويجب أن يتوخى كلا الجانبين الحذر من سوء التقدير والحسابات الخاطئة. ففي أغلب الأحيان، تكون قدرتنا على ارتكاب الخطأ هي الخطر الأعظم الذي يهددنا.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
*جوزيف س. ناي الابن أستاذ في جامعة هارفارد، وهو مؤلف كتاب “هل تشكل الأخلاق أي أهمية؟ الرؤساء والسياسة الخارجية من فرانكلين ديلانو روزفلت إلى ترمب”.
المصدر: الغد الأردنية