ياسين عبد الله جمّول
عشر سنوات تقضّت منذ نداءات الحرية والكرامة في 2011، وهي في ميزان الأفراد عُمر ليس بقصير؛ لكنها في أعمار الدول والحركات وَمْضة، وأفراد البشر مسؤولون يوماً عن أعمارهم فيما أفنَوها، وذلك كشفُ حساب ليس لأحد إلا لمالك يوم الدّين؛ فهل يُحاسب المجموع على ما يَفنَى من عُمر الثورات والحركات الوطنية؟
أكثر ما يُعقد من جلسات المحاكمة للأفراد والكيانات؛ فتُستلّ الأقلام وتُسوَّد صفحات وسائل التواصل بالهجوم على فلان من الائتلاف وفلان من الجيش الحرّ وفلانة من ذاك الكيان، حتى تختلط عليك الأحداث فلا تدري أحياناً سبب الهجوم، ولا تتضح دواعي الإسقاط والإخراج عن الملّة والوطنية! ولكنْ مع شدة الوطأة على الناس وهم يترقبون الفرج، ويعانون مرارة التخاذل الدولي عن نصرتهم مع التنافس الدولي على سرقة ثرواتهم ونهب وطنهم؛ تلتمس الأعذار قليلاً، وإن عزّت في مواطن كثيرة، لاسيما ممن يتصدّر سياسياً أو عسكرياً أو فكرياً.
وإن لم يكن لأحد محاسبة “المجموع” فإن استحضار الأصول قليلاً في الحديث بين فرض العَين وفرض الكفاية؛ يضعنا أمام استحقاق خطير، وهو تأثُّم المجموع إن قصّر فيما يجب على أفراد منه القيام به.
ولعل أشد ما يتأكد التقصير العام فيه مع عَشرية الثورة السورية هو التوثيق؛ ولا أعني هنا ما ننفر منه من تصوير المعاناة الإنسانية والاتّجار بآلام الناس، فبئس ذلك من توثيق؛ وإنما المراد توثيق أحداث الثورة بما يحفظ الحقوق ولا يضيع أمانات نحو مليون شهيد ومعتقل، وأكثر من مليون جريح ومصاب.
ليس من الفجاجة الاعتراف بتقصير السوريين في توثيق ما مرّوا به من تجارب في طول الثورة وعرضها؛ فكم من تجربة عسكرية بدأت واتسعت حتى غطت راياتها الخريطة السورية ثم انتهت بأنياب الغِيلان ولا مرجع اليوم لباحث عنها، مع وفرة مَن بقي مِن أفرادها وقادتها؟ وهذا الألم لا يعرفه إلا مَن عايشَه من دارسين وباحثين يتلمّسون حقيقة ما جرى في منطقة من مناطق الثورة، فلا يجدون مرجعاً يوثق منه إلا ما نُشر من الأجانب عنّا وعن ثورتنا. مع أن المناطق المحررة التي سقطت حتى اليوم شهدت من تجارب الحكم المدني الرشيد ما يُدرَّس في الأكاديميات؛ فضلاً عن الصمود والعمليات العسكرية الثورية الذي كنا نقرأ عنه في الكتب فحسب، وقامت في تلك المناطق رغم شدة الحصار والمعاناة محاولات وطنية عظيمة في التعليم والصحة والمجتمع المدني؛ فلما سقطت وهُجّر أهلها منها نُسيت وأُهملت وطُوي كل ما كان فيها كأنها لم تكن! مع أن أعداء الثورة والسوريين وقفوا عاجزين حائرين أمام بعض تلك التجارب عند دخولهم المناطق بعد تهجير أهلها منها؛ وإن صوّروها بصورة “التخريب” ودعم “المتمرّدين والإرهابيين”.
وإن كنّا نعذر المحاصرين للتقصير في توثيق ما عاشوا وعانوا، وفي تصدير جوانب الألم خلال الحصار؛ فأين الأعذار وقد خرجوا؟! وإن بقيت لمن زاد عليهم الألم بالخروج فاضطروا للعيش في مخيمات النزوح؛ فلا نجهل أن كثيرين صاروا أحسن حالاً، بل تصدروا المنصّات الإعلامية والهيئات السياسية والمنظمات الإنسانية، أليس من الوفاء لما مرّ من سنوات المرارة في الحصار ولمن ودّعناهم تحت الأرض وفي السجون ومَن أقاموا في المخيمات أن نوثّق تجاربنا في تلك المناطق، وأن نشرح للعالم بأسره أننا لولا أنهم أخرجونا بالقوة ما خرجنا؛ بعيداً عن نظريات بيع المنطقة من فلان وسعدان!
ونسعد حين ننظر منصات وسائل التواصل تتزيّن بذكرى استشهاد قائد قضَى؛ وإن كان يعزّ أن نجتمع جميعاً على مدح رجل إلا بعد موته! لكنّ هذا يُعيدنا إلى الاستحقاق ذاته: أين نحن من توثيق يليق بأولئك القادة الأبطال؟ وأين نحن من باقي الشهداء معروفين كانوا أو مغمورين؟ وهل ينجو “المجموع” من إثم التقصير مع نحو مليون شهيد ومعتقل يجهل السوريون -قبل غيرهم- سِيرَهم؛ إلا مَن أسعدَه القدَر بكاتبٍ قريبٍ له يحكي عنه، أو بحدثٍ ارتبط به اسمه يحفظه قليلاً.
وما أنجزته منظمات المجتمع المدني السورية حتى اليوم من الخدمات والتضحيات ليس أقل مما بذله المقاتلون في فصائلهم؛ فسعَوا للجائع وللمصاب وللأرامل وأبناء الشهداء، فماذا أنجزوا في توثيق أعمالهم وتجاربهم الإنسانية؛ عدا التوثيقات الإعلامية التي كثيراً ما تأتي مشوّهة لأعمالهم وبطولاتهم، ومما أُنجز كذلك مشاريع إنسانية مميزة في سدّ الثغور وتلبية احتياجات الناس؛ ثم تجدنا نسعى لحضور دورة في كيفية الاستجابة في وقت الأزمات، مع أننا شاركنا لسنوات في الاستجابة لأزمة من أكثر الأزمات تعقيداً وطولاً؛ لكننا تكاسلنا عن تطويرها وتوثيقها بما يجب لبلورتها وتقديمها تجارب إنسانية مميزة، كما ظهرت تجربة “الخوذ البيضاء”؛ مع أنه من الظلم للجهود الإنسانية في سوريا خلال عشر سنوات ألا تظهر إلا تجربة “الخوذ البيضاء” المميزة.
وليس الحال إعلامياً بأحسن مما سواه؛ مع وفرة الإعلاميين والمنصات الإعلامية والقنوات الفضائية المؤيدة للحرية، ولكنْ يُحمد لناشط غيور مثل تامر تركماني قيامه بما يجب على هيئات الثورة القيام به من التوثيق والأرشفة، لأنه عمل لا ينهض به فرد؛ بل هو من واجبات “المجموع”، ولعله بقيامه بتوثيق ما حفظ وأرشفة مجريات الثورة وأحداثها أسقط “إثم التقصير” عن مجموعنا كلنا؛ ولكن لابد له من مؤازرة ومساندته من كل غيور على ثورته ودماء الشهداء وآلام المعتقلين فيها.
وأما قطاع التعليم فمع أنه أهم محاضن التربية والتنشئة وإعداد الأجيال فهو من أكثر القطاعات إهمالاً لتوثيق التجارب ودراستها؛ رغم أن للسوريين فيها جهوداً تُخلد على جدار الزمن، ففي القرن الحادي والعشرين لم يترك آلاف الأطفال تعليمهم في المناطق المحاصرة وداوموا في الأقبية يدرسون، وتحت ظلال الزيتون نالت طالبات أعلى الدرجات بعد التهجير، ومع الحاجة والإصابة أكمل كثيرون دراساتهم؛ فأين التوثيق السديد لكل ذلك؟ كم لنا في إدارة التعليم والإرشاد والدعم النفسي والتعليم المسرَّع ما يصلح مواد دراسية في كليات التربية؟ ولماذا لا تحصر الجامعات الحرّة جهودها مع طلابها وأكاديمييها لدراسات ميدانية عما مررنا به؟ لأنّ أحداً لن يذكر تجاربنا تلك ما لم نوثّقها على أصولها ونحفظ شهادات أصحابها عليها؛ ولولا التقارير المميزة لوحدة ACU عن المدارس مثلاً لكنا في جهل تامّ حتى عن وضع مدارسنا في المدن والمخيمات.
يمثّل توثيق الأحداث ركيزة من أهم ركائز تحقيق العدالة الانتقالية، وكلنا نتحرّق للوصول إلى برّ العدالة؛ لكننا إن وصلنا ولا شيء في أيدينا موثقاً وفق الأصول المعمول بها فليس لنا أن “نزعل” من أحد إذا وجدنا أننا بدّدنا تضحيات ملايين منا هباءً، ولا أن نرميها على “المؤامرة” ولصوص الثورة والإنجاز؛ لاسيما مع ما نراه من مواقع مثل يوتيوب وغيره من حذف متعمد للمواد المتعلقة بالثورة السورية.
عشر سنوات تقضّت لن يكون ما بعدها كما كان قبلها؛ فهل نحن على استعداد لدخول العقد الجديد من عُمر ثورتنا؟ وماذا أنجزنا من توثيق تجاربها بالصوت والصورة والقلم؟ ماذا قدّمنا للعالم عنها بالتاريخ والأدب والفنّ والموسيقا والدراما؟
إنها دعوة لاستنفار الأقلام والأصوات الحرّة لأرشفة واعية لعشر سنوات تتسرّب من بين أيدينا، فيومياً نخسر شاهداً وأكثر من شهود تلك العَشرية؛ فلنتدارك ثورتنا وإنجازاتنا قبل أن نندب أنفسنا، ونقول: ليت أنّ ليت أنّ!
لاسيما مع وفرة المؤسسات الثورية السورية اليوم، وما يعيشه عموم السوريين داخل المناطق المحررة وخارج سوريا من حرية التوثيق والكتابة.
فإن لم نوثق أحداث ثورتنا وإنجازاتها على الوجه المأمول فلا نلومَنّ إلا أنفسنا على ما سيُكتب عن تاريخ “ثورة الحرية والكرامة” وسيكون في مقررات الطلاب بعد سنوات؛ وتلك هي الجناية الكبرى على الثورة، ومعها يكون “إثم التقصير” على “المجموع” كله؛ فالتاريخ اليومَ يُكتب وهو ما يُخلّد، وليس ما يجري على طاولات المفاوضات والمساومات بنا وبثورتنا.
فماذا نريد للأجيال أن تعرف عنّا وعن ثورتنا؟ فلنكتب ما نريد للتاريخ أن يحفظ ويحدّث عنّا.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا