حمدي مالك
تُعتبر استراتيجية طهران الإعلامية في الشرق الأوسط جزءاً لا يتجزأ من جهودها لتبرير مشروعها التوسعي الإقليمي وتعزيزه بين جمهور واسع. ويمكن أن يؤدي إدراج وسائل الإعلام المرتبطة بإيران على قائمة العقوبات إلى الحد من أنشطتها، ولكن من الضروري اعتماد استراتيجية أكثر شمولية إذا كانت واشنطن تأمل في مواجهة آلة الدعاية الإيرانية في المنطقة بشكل فعال.
في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، قام “مكتب مراقبة الأصول الأجنبية” التابع لوزارة الخزانة الأمريكية بإدراج خمسة كيانات إيرانية على قائمة العقوبات بسبب استحصالها على بيانات تسجيل الناخبين الأمريكيين من أجل التأثير على الانتخابات الأمريكية والتحريض على الاضطرابات. ووفقاً للمدير السابق لأجهزة الاستخبارات الوطنية جون راتكليف، أرسل عملاء إيرانيون رسائل تهديد إلى الناخبين الديمقراطيين، منتحلين صفة أعضاء في جماعة “براود بويز” القومية البيضاء المؤيدة لترامب. وكان “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية” (“الاتحاد”) أحد الجهات المسؤولة عن حملة التضليل الإعلامي، حيث يدعم – ويؤسس في كثير من الحالات – الجزء الأكبر من القنوات التلفزيونية ووسائل الإعلام الأخرى التي يديرها وكلاء إيران في الخارج – وهي مهمة تنسجم مع مكانة “الاتحاد” باعتباره الذراع الدعائية الرئيسية لـ «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني.
وفي الواقع، كانت الأنشطة الخارجية لـ “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية” والكيانات ذات الصلة تستحق اهتمام الحكومة الأمريكية قبل فترة طويلة من الإدراج على قائمة العقوبات، ولأسباب أوسع بكثير من التدخل في الانتخابات. وتُعتبر استراتيجية طهران الإعلامية في الشرق الأوسط جزءاً لا يتجزأ من جهودها لتبرير مشروعها التوسعي الإقليمي وتعزيزه بين جمهور واسع. وستتطلب مواجهة هذه الاستراتيجية أكثر من مجرد إدراج كيانات فردية، حتى تلك الكيانات واسعة النطاق مثل “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية”.
شبكة وسائط إعلام محور المقاومة
تأسس “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية” في عام 2007 كهيئة تابعة لـ “وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي” الإيرانية التي يرأسها أحد الوزراء القلائل الذين يجب أن يحصلوا على موافقة المرشد الأعلى لكي يتولّى المنصب. وتم تكليف “الاتحاد” بنشر سردية معادية لأمريكا وإسرائيل في الشرق الأوسط، وهو يعمل كمظلة لوسائل إعلام “محور المقاومة” في جميع أنحاء المنطقة. ويزود “الاتحاد” هذه المنافذ الإعلامية بالدعم المالي والتكنولوجي والتنظيمي، ويساعد في تدريب موظفيها، ويضع استراتيجية موحدة لكي تقوم بمتابعتها.
وسَعَت طهران للتأثير بشكل مباشر على الرأي العام في الخارج قبل وقت طويل من تأسيس “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية”. فقد كانت “الخدمة العالمية” لـ “إذاعة جمهورية إيران الإسلامية” (“الإذاعة”) تعمل عن كثب مع «فيلق القدس» حين أطلقت قنوات إخبارية بعدة لغات، من بينها “قناة العالم” الفضائية باللغة العربية. لكن الاستراتيجيات الإعلامية لدول أخرى، ولا سيما قطر والمملكة العربية السعودية، طغت على جهود “الإذاعة”، مما دفع النظام إلى إنشاء “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية”.
واليوم، لدى “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية” أكثر من 210 شركة حليفة في 35 دولة، معظمها في الشرق الأوسط. وتشمل هذه الشركات القنوات الفضائية ومحطات الراديو والمواقع الإخبارية ووكالات الأنباء ومراكز التدريب وشركات الإنتاج الإعلامي ومراكز البحوث. ويخضع “الاتحاد” لثلاث هيئات هيكلية جامعة:
“المجلس الأعلى”: هو هيئة رقابية مؤلفة من ثلاثة عشر عضواً، بمن فيهم الأمين العام ونائبان. ويرأسه حالياً المدير العام لـ “قناة الغدير” التلفزيونية التابعة لـ «منظمة بدر» في العراق مضر البكاء.
“الأمانة العامة”: مقرها في طهران ويرأسها علي كريميان، وهو رجل دين تربطه علاقات وثيقة بمكتب المرشد الأعلى، حيث يتم وضع استراتيجيات «فيلق القدس» والإشراف عليها. ونائبه هو ناصر أخضر (المعروف أيضاً باسم أبو مصطفى)، مدير البرامج السابق في شبكة تلفزيون “المنار” التابعة لـ «حزب الله» اللبناني. وأخضر مسؤول حالياً عن صياغة استراتيجية إعلامية للثوار الحوثيين في اليمن، حيث يعمل كحلقة اتصال رئيسية مع «حزب الله» وإيران. ودوره مهم للغاية لدرجة أنه رافق وفد الحوثيين في محادثات السلام اليمنية في جنيف في عام 2015.
“اللجان الدائمة”: تشمل هذه الهيئات الرقابية المتنوعة “لجنة الخطاب الديني”، و”لجنة السياسة والأخبار”، و”لجنة التدريب”، و”لجنة الإنتاج”، و”لجنة الخدمات الفنية والإذاعية”، و”لجنة الإذاعات”.
استراتيجية “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية” في العراق ولبنان
ينشط “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية” بالدرجة الكبرى في العراق ولبنان. وتعكس استراتيجية الرأي العام الإيرانية في هذين البلدين نهجها تجاه الأنشطة السياسية والعسكرية هناك، حيث أن «حزب الله» مسؤول عن مشاريع “الاتحاد “في لبنان، بينما تقدم منظمة جامعة تدعى “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات العراقية” الدعم لمجموعة كبيرة من وسائل الإعلام التابعة للميليشيات في تلك البلاد.
ويرأس الاتحاد الأخير رجل الدين العراقي حميد الحسيني الذي تربطه علاقات وثيقة بمكتب المرشد الأعلى. ووفقاً لمحادثات مع مصادر موثوقة في الحكومة العراقية، كشف الحسيني لأشخاص في أوساطه بأنه عقيد في «الحرس الثوري» الإيراني – وهي علاقة بدأت تتشكل بعد فراره من العراق في عهد صدام حسين. وساعد الاتحاد في إنشاء ودعم العديد من وسائل الإعلام العراقية التي تملكها الميليشيات المدعومة من إيران، من بينها شبكات تلفزيون “الاتجاه” (التي تديرها «كتائب حزب الله»)، و “العهد” (التي تديرها «عصائب أهل الحق»)، و “النجباء” (التي تديرها «حركة حزب الله النجباء») و”قناة البينة” (التي تديرها «سرايا الجهاد»).
لكن النموذج يختلف في لبنان. إذ يشرف «حزب الله» على كافة أنشطة “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية” في البلاد، ويشمل ذلك تطوير وسائل الإعلام غير اللبنانية على غرار “قناة المسيرة” التابعة للحوثيين، والتي تبث من ضاحية بيروت الجنوبية. وتوجد أيضاً الكيانات الأخرى التي أنشأها “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية” مباشرة في الضاحية ويديرها «حزب الله»، من بينها “مركز الاتحاد للتدريب الإعلامي” ووكالة الأنباء “يونيوز” [U-News] و “مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير” (المعروف أيضاً باسم “يوفيد” [U-feed]).
التحوّل إلى وسائل التواصل الاجتماعي
كان لسياسة الضغط الأقصى لإدارة ترامب تأثير ملحوظ على استراتيجية إيران الإعلامية العدوانية في المنطقة. ووفقاً لبعض التقارير يتعرض أعضاء “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية” لضغوط مالية، وأن بعض القنوات التلفزيونية التي تديرها “الخدمة العالمية” لـ “إذاعة جمهورية إيران الإسلامية” اضطرت إلى التوقف عن البث في عام 2020 بسبب ديونها المستحقة لصالح مشغلي الأقمار الصناعية (على سبيل المثال، توقفت “يوتلسات” (Eutelsat) عن تقديم الخدمات لـ “قناة الكوثر” العربية في أيار/مايو الماضي).
ومع ذلك، يملك «حزب الله» اللبناني والميليشيات العراقية مصادر دخل محلية خاصة بهم، لذلك تمكنوا من الحفاظ على خدماتهم الرئيسية على الرغم من الضغوط. ومن غير المرجح أن يكون لإدراج “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية” على قائمة العقوبات في تشرين الأول/أكتوبر تأثير كبير على مشاريع “الاتحاد”، ويعود ذلك جزئياً إلى أن إجراء وزارة الخزانة الأمريكية استثنى جهات فرعية مهمة مثل “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات العراقية”. صحيح أن الخطوة الأمريكية يمكن أن تحد من مشاركة “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية” في الحوارات الإعلامية الأورومتوسطية والمنتديات الدولية المماثلة. ومع ذلك، يبقى الواقع أن مجرد إدراج مثل هذه المنظمات من غير المرجح أن يعيق مهمتها المتمثلة في نشر المشاعر المعادية لأمريكا أو دفع إستراتيجية إيران إلى الأمام.
ويرجع ذلك جزئياً إلى أن الميليشيات المدعومة من إيران تلجأ إلى أساليب أرخص بكثير للوصول إلى جماهيرها بفعالية. على سبيل المثال، زاد الوكلاء العراقيون مؤخراً من أنشطتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، ولا سيما على تطبيق “تيليغرام”. فقد أنشأوا منتديات يمكن من خلالها للناس (الشباب بشكل أساسي) مناقشة الأيديولوجيات الإسلامية والمشاعر المعادية لأمريكا، مع مشاركة الإعلانات وتنظيم الأنشطة المتعلقة بالميليشيات. وأنشأت بعض الجماعات “قنوات إخبارية” على وسائل التواصل الاجتماعي تشارك في حملات تضليل ضد الولايات المتحدة والحكومة العراقية. وبالإضافة إلى بث التقارير حول الهجمات على المصالح الأمريكية، تقوم بتجنيد الشباب لإرسال الصور والمعلومات حول التحركات الأمريكية في جميع أنحاء البلاد، وتعمل كما يسمى بـ “خلية الظل”. ويُستخدم تطبيق “تيليغرام” أيضاً لتنظيم أنشطة مراقبة تهدف إلى إسكات أولئك الذين يعبّرون عن معارضتهم للتوسع الإيراني في العراق، ومن بين هذه الأنشطة عمليات التخريب والهجمات المتعمدة ضد النوادي الليلية ومحلات بيع الخمور ومحطات التلفزيون المنافسة ومكاتب الأحزاب السياسية. باختصار، فإن أي سياسة تهدف إلى مواجهة آلة الدعاية الإيرانية في المنطقة ستحتاج إلى مواجهة الطريقة القوية التي تستغل بها الجماعات الموالية لإيران وسائل التواصل الاجتماعي.
ومن الضروري اتخاذ إجراءات إضافية ضد الهيئات الإعلامية التقليدية أيضاً. على وجه الخصوص، يجب على الحكومة الأمريكية فرض عقوبات على “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات العراقية”، وهو المنظمة الفرعية لـ “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية” الذي يقدم خدمات لوسائل الإعلام التابعة لميليشيا «كتائب حزب الله»، و «عصائب أهل الحق»، و «حركة حزب الله النجباء» المصنفة على قائمة الإرهاب الأمريكية. فقد ارتكبت هذه الجماعات انتهاكات عديدة لحقوق الإنسان (مثل خطف وقتل المتظاهرين العراقيين)، ثم استخدمت وسائلها الإعلامية لتوريط أطراف مجهولة أو الولايات المتحدة زوراً في هذه الجرائم. كما تسعى إلى تقويض رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي. وعلى حد قول أحد المحللين في بث سابق على “قناة الاتجاه”، “هناك محور إقليمي أُجبر على القبول بالكاظمي لرئاسة الوزراء. وبعد رحيل ترامب، سيغيّر هذا المحور موقفه وسيسحب البساط من تحت قدمَي الكاظمي”.
بالإضافة إلى ذلك، نظراً لأن نموذج “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية” يهدف إلى الحفاظ على شبكة فضفاضة من المنافذ الإعلامية التي يديرها وكلاء، يجب على السلطات الأمريكية النظر في معاقبة العديد من القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية والمواقع الإلكترونية والمنظمات ذات الصلة التابعة لها في جميع أنحاء المنطقة. يجب أيضاً فرض عقوبات على “الخدمة العالمية” لـ “إذاعة جمهورية إيران الإسلامية”، التي تلعب دوراً رئيسياً في نشر المعلومات المضللة والتحريض على العنف ضد كل من القوى الغربية والشخصيات في المنطقة التي تُعبّر عن معارضتها للتدخل الإيراني في بلدانها.
حمدي مالك هو زميل مشارك في معهد واشنطن، ومؤلف مشارك لدراسته لعام 2020 بعنوان “التكريم من دون الاحتواء: مستقبل «الحشد الشعبي» في العراق”.
المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى