أحمد جبر
كان وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، كغيره، ينتظر لحظة نطق الحكم من محكمة كوبلنز في بلاده ضد السوري إياد الغريب، ليسارع مباشرة لوصف القرار بالتاريخي. وعلى الرغم من أن الوزير نفسه، في البيان الذي نشره عبر “تويتر”، قال إن القرار يضمن بعض العدالة، ويحمل معنى رمزيا رفيعا لناسٍ كثيرين، إلا أن معظم القنوات الإخبارية والصحف السياسية العالمية والعربية تلقفت وصفه (الوزير ماس)، لتعنون أخبارها ذات الصلة بالوصف نفسه، لا بل إن مواقع إلكترونية لم تكتف بالوصف التاريخي، لتذهب إلى أبعد من ذلك، وتضيف أنه حكم “إدانة بحق النظام السوري كله”.
ليس هناك ما يبرّر كل هذا التهويل الإعلامي الذي رافق جلسات القضية، والذي وصل إلى ذروته مع قرار الإدانة بحق إياد الغريب. والواضح أن معظم من هللوا للحكم كانوا يجهلون الرجل، وليس لديهم معلومات عنه. لا بل وحتى وبعد يومين من إصدار الحكم، لم يكن من اليسير على أحد العثور على أي معلومات في محرّكات البحث على الإنترنت، تخص إياد الغريب. وهو صف ضابط (مساعد) متطوّع في المخابرات السورية منذ عام 1996، حيث بدأ مدربا للرياضة في مركز نجهة للتدريب البدني، التابع لإدارة المخابرات العامة حتى عام 2010، ثم انشق عن فرع الأمن الداخلي 251، وهذا أحد الأفرع الأمنية السورية التابعة لإدارة المخابرات العامة في سورية. وكان من أوائل المنشقّين عن أجهزة النظام الأمنية (نهاية عام 2011 ومعلن عنه في الشهر الأول من 2012)، بعد قيام الثورة السورية، وانطلاق الاحتجاجات المناهضة لنظام الأسد، والتي طالبت عناصر الجيش والأمن بالانشقاق عن النظام.
حكمت المحكمة الألمانية، في 24 من الشهر الماضي (فبراير/ شباط) أنّ الغريب ساعد في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، استنادا إلى قانون الجرائم ضد القانونين، الدولي والجنائي الألماني، وبذلك حكمت المحكمة عليه بالسجن أربع سنوات ونصف السنة. وهو حكم اعتبر تاريخيا، كونه الأول الذي يصدر استناداً إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية، المعتمد في ألمانيا منذ عام 2002، والذي يتيح للادّعاء العام الألماني تحريك الدعوى ضد من يشتبه بارتكابه جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية، من دون الحاجة لأن تكون الجريمة قد وقعت على الأراضي الألمانية، أو أن يكون الجاني أو المجني عليه ألمانيا. إلا أن المجموعات المدافعة عن المحكمة ونزاهتها استهجنت تراخيها بالحكم على إياد الغريب، فصار من الرائج سماع بعض التهكمات، من قبيل “لو أن شخصا سرق دجاجتين لحكم بمدة أطول” وغيرها كثير. وكأننا أمام مشهد هوليودي، يصوّر تعذيب أحد المارقين على الملأ، وسط مطالب الحاضرين بمزيد من التعذيب والعنف، في حالة من الهياج الهستيري غير المفهوم، فيبدون كطغمة هائجة ومتوحشة. وهنالك من يحاجِج بأهمية المحكمة، كونها المرة الأولى التي يحكم فيها بإدانة مسؤول في النظام السوري بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، بسبب انتهاكات ارتُكبت خلال الثورة السورية. ويتجاهل هؤلاء حقيقتين جليتين: الأولى أن إياد الغريب لم يكن مسؤولا، وانما صف ضابط (مساعد) كما ذكر سابقاً. والثانية أنه منشق عن النظام ولم يعد جزءا منه. ولذلك كان الأحرى لسلامة التوصيف القول إنها “المرّة الأولى التي يُحكم فيها بإدانة منشقين عن النظام السوري”.
وفي مقابل الضجّة الإعلامية، تنادت أصواتٌ، وجلها من ناشطي الثورة، تحاول إنصاف إياد الغريب، وتستهجن حكم الإدانة بحقه، ومنهم عضو الهيئة السياسية السابق في الائتلاف عن كتلة الحراك الثوري في دير الزور، أكرم العساف، متحدّثاً لـ”زمان الوصل” عن بعض ما قدّمه الغريب لخدمة الثورة، قبل انشقاقه وبعده “عندما اندلعت الثورة السورية، لم يتأخر إياد عن تأييدها، وساعد بتسريب معلومات لأشخاص كان الفرع 40 ينوي اعتقالهم”.
وبالنسبة للحكم المعتمد على قانون الجرائم ضد القانونين، الدولي والجنائي الألماني، بحسب توصيف المحكمة، كان مستغربا أن هيئة المحكمة التي أثبتت اهتمامها بأدق التفاصيل، خلال عملية المحاكمة، تجاهلت تماما الاستفسار عن القانون السوري والإحاطة به. ومن المستغرب أكثر تجاهل محامي الدفاع عن الرجل إثارة هذه النقطة، بعد أن غفلت عنها هيئة المحكمة، حيث إن براءته موجودة بين سطور هذا القانون القائم على الترهيب والإكراه. فتنص الفقرة د من المادة 112 من قانون العقوبات العسكري السوري: “إذا وقع التمنّع أثناء مجابهة العدو أو المتمرّدين تكون العقوبة الاعتقال المؤقت لمدة لا تنقص عن العشر سنوات. وإذا نجم عن التمنع ضرر جسيم تكون العقوبة الإعدام. وإذا كان الفاعل ضابطاً ومنح الأسباب المخففة فيقضى عليه فوق ذلك بعقوبة الطرد”. وتنص الفقرة هاء من المادة نفسها: “يعاقب بالإعدام كل عسكري أبى إطاعة الأمر بالهجوم على العدو أو المتمرّدين”. وللتوضيح، يوجب التذكير أن النظام السوري اعتبر كل المشاركين في الثورة السورية متمرّدين وإرهابيين، لا بل إن رأس النظام بشار الأسد ذهب إلى أبعد من ذلك، حين ضمن الإرهاب للحاضنة الشعبية للثورة.
ويوضح نص القانون هذا، بما لا يدع مجالا للشك، أن إياد الغريب، وبمناسبة ممارسة عمله كان مهددا، وبحكم القانون؛ بالإعدام في حال رفض تنفيذ الأوامر الموجهة إليه، ما يعني أن الرجل كان تحت إكراه معنوي مهدّد للحياة، ما يعد من أسباب موانع المسؤولية الجنائية. وهذا ما يتطابق مع نص المادة 33 فقرة 1 الحالة أ من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية “في حالة ارتكاب أي شخص جريمة من الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة، لا يعفى الشخص من المسؤولية الجنائية، إذا كان ارتكابه تلك الجريمة قد تم امتثالا لأمر حكومة أو رئيس، عسكريا كان أو مدنيا، عدا في الحالات التالية: (أ) إذا كان على الشخص التزام قانوني بإطاعة أوامر الحكومة أو الرئيس المعني”.
ولا يخفى على أحد أن أدوات النظام كانت تقوم بتصفية مباشرة للعناصر والعسكريين الذين يرفضون تنفيذ الأوامر، من دون الحاجة حتى لإخضاعهم إلى محكمة عسكرية تنطق بحكم الإعدام بحقهم. وفي هذا السياق، تنص المادة 31 فقرة 1 جزء د من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية “إذا كان السلوك المدّعى أنه يشكل جريمة تدخل في اختصاص المحكمة قد حدث تحت تأثير إكراهٍ ناتج عن تهديد بالموت الوشيك، أو بحدوث ضرر بدني جسيم مستمر أو وشيك ضد ذلك الشخص أو شخص آخر، وتصرّف الشخص تصرفا لازما ومعقولا لتجنب هذا التهديد، شريطة ألا يقصد الشخص أن يتسبّب في ضرر أكبر من الضرر المراد تجنبه. ويكون ذلك التهديد: صادرا عن أشخاص آخرين؛ أو تشكّل بفعل ظروف أخرى خارجة عن إرادة ذلك الشخص”.
كانت نصوص القانون السوري، إضافة إلى واقع الحال الذي يمكن إثباته بالشهادة والخبرة، كفيلة بثبوت الإكراه المعنوي المهدد للحياة. كما أن انشقاق إياد الغريب مبكّرا، وتعدّد الشهادات حول المخاطرة بتقديم المساعدة (كتحذير المطلوبين أمنياً) منذ بداية الثورة حتى انشقاقه، يعد القرائن القانونية لغياب أي نيةٍ جرميةٍ لديه، وعدم قبوله ممارسات النظام كاملة.
وخلال جميع جلسات المحكمة الممتدة عشرة أشهر لم يتقدّم أي شخص بادّعاء شخصي بحق إياد الغريب، وهذا ما أكدته المحكمة التي أقرّت أن حكم الإدانة كان مبنيا على شهادة إياد نفسه، شهادة قدّمها طواعية بمحاولة منه إدانة النظام السوري.
ربما نختلف حول تسمية ما يجري في كوبلنز الألمانية. ولكن المؤكّد أن ما يجري لا يمكن اعتباره بأي شكل محاكمة بحق رموز النظام السوري. ومؤكّد أيضا أنه لا يوجد أي نية دولية لمحاسبة النظام السوري على جرائمه التي وثّقت محكمة كوبلنز بعضها، وسبقها في ذلك صور قيصر الشهيرة، والأهم تقرير لجنة التحقيق في استخدام الأسلحة الكيميائية في سورية.
خلاصة الحديث، لا يمكن اعتبار محاكمة كوبلنز جزءا من مسار العدالة الانتقالية، وربما قطار العدالة المنطلق فيما يخص النظام السوري وجرائمه قد سار على غير سكّته، فالعدالة الانتقالية لا يمكن أن تبدأ إلا بعد سقوط النظام. ومحكمة كوبلنز أقرب إلى ما يمكن تسميتها العدالة الانتقائية المشكوك بعدالتها تجاه الوضع والشعب السوري تحديدا، لجهلها بالظرف والوضع السوري، الذي يتحمل مسؤوليته الطرفان، المدّعي والمدافع عن إياد، إضافة إلى هيئة المحكمة. ببساطة القول هي محاكمة بحق المنشقين عن النظام السوري، وإدانة لهم في المحاكم الأوروبية، حيث تبدو كأنها مساعدة ربما بلا قصد للنظام الذي يطمح إلى الانتقام من عناصره وضباطه المنشقين الذين شكلوا العمود الفقري للجيش السوري الحر.
المصدر: العربي الجديد