آدم يوسف
تنتشر عشبة الخبيزة البرية (الخبازة صغيرة الأزهار) بكثرة في مختلف ربوع تونس، مثل غيرها من بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، لا سيما المغرب العربي وبلاد الشام. وتنمو بأوراقها شبه الدائرية الكبيرة، قرب منابع المياه ومجاريه في المزارع والحقول والغابات، حيث يعتبرها المزارعون نباتاً طفيلياً يستهلك كميات الماء التي من المفترض أن تسقي الأرض والخضار والغلال. لكنّ للخبيزة فوائد كبيرة أيضاً، إذ تحتوي البوتاسيوم والحديد والسيلينيوم وفيتامين “أ” وفيتامين “سي”.
وتعتبر مرقة الخبيزة من أعرق الوجبات التقليدية التونسية التي يعود تاريخها بحسب روايات الأجداد إلى شعوب البربر، أو الأمازيغ، سكان شمال أفريقيا، الذين برعوا في طهوها بطرق وبهارات ذات خصوصية قبل أن تتوارث الأجيال هذه الوجبة التي ميزت المائدة التونسية طوال قرون.
من جهتها، تطهو الخالة سعاد النصري (64 عاماً) الخبيزة كلّ أسبوعين، فهي تعتبرها من الأطباق اللذيذة التي تتقنها وتحبها على الرغم من امتناع أبنائها عن أكلها مقابل إقبالهم على الوجبات السريعة والأكلات المستوردة وبعض الأطباق التقليدية التي ما زالت ثابتة أمام التغيرات السريعة التي يعيش على وقعها المجتمع التونسي. وتعتبر النصري أنّ زوجها الراحل كان مدمنا على وجبة الخبيزة، فكانت تطبخها بكثرة خلال فصلي الشتاء والربيع، حيث تتولى بنفسها قطاف أوراق الخبيزة الخضراء الطرية، وتعود إلى بيتها حاملة الحزم، فتفرزها جيداً في المطبخ لتبقي على الأوراق النضرة من بينها وما يتصل بها من سيقان.
تروي الخالة كيفية تفننها في طبخ مرق الخبيزة وحرصها على انتقاء أفضل الأوراق وأجودها، إذ تغسلها وتنظفها جيداً لإزالة التراب عنها في البداية. ثم تعمد بعد ذلك إلى تقطيعها بشكل رقيق على حدة، وتجمع سيقانها على حدة، قبل وضعها وترصيفها في الإناء المخصص للطبخ. تجهز النصري أواني ومستلزمات طبخ مرق الخبيزة، فتملأ نصف القدر بالماء وفوقه وعاء مليء بالثقوب (المقفول والكسكاس) مما يعتمد لطهي الكسكسي التونسي. وعندما يبدأ ماء القدر بالغليان ويشرع الوعاء الفوقي في إخراج البخار، تضع السيقان المقطعة أسفل المقفول، فيما تضع الأوراق فوقه، لتضع الكسكاس فوق المقفول، وتغطيه جيداً بهدف طهيها سريعاً. وفي الأثناء، تضع وعاء للطهي على نار متوسطة ثم تضيف إليه الزيت والبصل المقطع جيداً، ثم تضيف بعد ذلك معجون الطماطم (صلصة البندورة) والفلفل الأحمر والثوم مهروسة إليه، إلى جانب البهارات. تترك الخالة سعاد خليط المرق على نار هادئة مع إضافة الماء، إلى أن يجهز تماماً، وعند التأكد من أنّ الخبيزة جاهزة تخلطها جيداً قبل تقديمها ساخنة، مع قليل من زيت الزيتون.
وكانت الخبيزة من بين الأعشاب التي تستعمل للتداوي والطب البديل في تونس، إذ يستعمل زيتها كمرهم للآلام والجروح والإصابات. ويعتبر كثير من السكان في تونس، أنّ الخبيزة من بين الوجبات التي تعزز المناعة وتقوي صحة الجهاز الهضمي، فهي من مضادات البكتيريا والفيروسات، كما تعتبر من مضادات الالتهاب والكدمات والطفح الجلدي، فيما تستعملها النساء كمادة للتجميل ولمحاربة الشيخوخة ومقاومة التجاعيد، بالإضافة إلى كونها تساعد في تهدئة الأعصاب، وتحسين المزاج، كما تساعد على النوم، وتقاوم الشعور بالأرق وما يصاحبه من قلق.
لكنّ الأجيال الجديدة تهجر عشبة الخبيزة، رغم طعمها اللذيذ وفوائدها الكبيرة غذائياً وصحياً. وفي هذا الإطار، يقول المتخصص في علم الاجتماع، حسان موري، إنّ الخبيزة من بين الأطباق التقليدية التي أهملها التونسيون وهجروها لأسباب عدة، على الرغم من كلفتها غير المرتفعة، والتي تتيح لمتوسطي الدخل وحتى بسطاء الدخل الحصول عليها.
يتابع لـ”العربي الجديد” أنّ أسباباً عدة تقف وراء التغيير السريع للمجتمع في موروثه من العادات والتقاليد عموماً، مما كان يمثل حاضنة تشعره بالأمن وتربطه بالشخصية القاعدية المشتركة مع بقية مكونات المجتمع. ولعلّ من أبرزها الثورة الرقمية، والعولمة، والتطور التكنولوجي، إلى جانب تغير شكل العائلة وهيكلتها نحو الأسرة المصغرة التي تقطع مع العائلة الممتدة التي عرفتها تركيبة المجتمع التونسي حتى بداية التسعينات. وهكذا، يشير، إلى أنّ الجيل الجديد، بدأ يتخلى شيئاً فشيئاً عن أطر الهوية والعادات التي يعتبرها تكبل جموحه نحو العصرنة ومواكبة التطور، فقد سعى هذا الجيل إلى الهجر التدريجي لكلّ ما يربطه بالماضي الذي لا يساير عصر الوجبة والمطبخ السريعين المرتبطين بالعالم الافتراضي
المصدر:العربي الجديد