إبراهيم درويش
في الأشهر الأولى من عام 2011 كان المزاج في الشرق الأوسط مكهربا وبعد سنوات من الاضطهاد والأنظمة القمعية اندلعت التظاهرات في الجزائر واليمن ومصر وتونس وليبيا والبحرين والأردن. وأدت التظاهرات في القاهرة للإطاحة بحسني مبارك وبدا وكأن تيار الثورة لا يمكن وقفه. وشعر الناس في سوريا بحالة من النشوة لكن الخوف لا يزال ساكنا في الشوارع.
وفي ليلة من ليالي شباط/فبراير قامت مجموعة من الأطفال في مدينة درعا الجنوبية بخربشة على الجدران “أجاك الدور يا دكتور”. وكان مسؤول الأمن قريبا بعيدا للأسد ولكنه كان بلطجيا أعلى مما هو معروف عن قوات الأمن وقام بحملة اعتقال للأطفال وعذبهم. وعندما ناشد أباؤهم الأمن بالإفراج عنهم قال لهم متهكما إنهم مستعدون لمنحهم أولادا كثرا لو أرسلوا إليهم زوجاتهم. وتجمع الناس أمام المسجد وطالبوا بالحرية والكرامة وردت قوات الأمن بفتح النيران عليهم. ولم يكن من الواضح- كما بدا لأسماء- كيف سيرد الأسد، ونصحه أحد جنرالاته بسجن مدير الأمن والاعتذار. وكانت المدن الكبرى لا تزال هادئة والدعوات المتجددة للإصلاح ربما أسهمت في الحفاظ على الهدوء. ومن هنا قام السفير السوري في واشنطن بمساعدة الأسد في كتابة مسودة خطاب يعلن فيه عن إصلاحات جديدة. وتم إخبار أصدقاء الأسد في واشنطن، وكانت أسماء تتوقع على ما يبدو ترضية للجماهير. ومع توسع الربيع العربي قالت إن النظام كان يعرف أن عليه التغير وإنها حاولت الوصول إلى المعارضة كما قال أحد المقربين منها.
وفي 30 آذار/مارس ألقى الأسد خطابا أمام البرلمان. وتحدث فيه عن مواجهة سوريا مؤامرة أجنبية ووصف لقطات الفيديو عن إطلاق الجيش النار على المتظاهرين بالأخبار الكاذبة واستبعد إصلاحات لأنها غطاء لمؤامرات خارجية. وقال أحد أعضاء مجلس إدارة جمعية أسماء “كان النظام القديم يتحدث” وغادر سوريا مباشرة بعد الخطاب و”لم تكن هناك حتى كلمة مصالحة أو اعتراف بأن الأمور يمكن عملها بطريقة مختلفة. وعندما قابلت بشار كان يتحدث عن الإصلاح، وكان مدمرا اكتشاف أن كل هذا مهزلة”.
وبعد الخطاب زادت التظاهرات اتساعا. وعادة ما كانت تعقد يوم الجمعة حول جنازات القتلى. ومع زيادة التظاهرات في المدن تصاعدت شراسة النظام: في البداية الشبيحة ثم القناصة وبعد ذلك الدبابات. ولأن تأثير الجنرالات وقادة الأجهزة الأمنية وحزب البعث قد تراجع في السنوات الماضية فقد كانت التظاهرات فرصة لهم للعودة وبانتقام. وطالبت والدة الأسد، أنيسة، بالرد وقالت ساخرة منه “ماذا كان والدك سيفعل؟” عندما واجه تحديا كهذا، ومذكرة برده على حماة. وقال السفير الفرنسي السابق إن بشار سمع في تلك الفترة وهو يقول “كان والدي على حق، ألاف القتلى في حماة جلبت علينا ثلاثة عقود من الهدوء”. ومع انزلاق سوريا نحو الفوضى انهارت معها قلعة أسماء التي أقامتها في الهواء، فقد ألغيت حفلة لافتتاح المتحف الوطني ولم تتحقق مشاريع إعادة تجميل دمشق وظل متحف الاكتشاف الذي صمم على شكل متحف العلوم في لندن مجرد هيكل اسمنتي. وغادر المستشارون وشركات العلاقات العامة دمشق وشطبوا الأمانة السورية من سيرهم الذاتية. وقال وفيق سعيد إنه ناشد بشار اتباع طريق معتدل “إنهم يحبونك وزوجتك، فأنت لست مثل مبارك” و”لا تضيع الفرصة لأن تصبح أعظم زعيم للعالم العربي. أعطهم بعض الحقوق وبعضا من الكرامة وسيحبونك للأبد”. إلا أن طريق الأسد كان محددا. وفي خطاب ألقاه في حزيران/يونيو شبه المتظاهرين بـ “الجراثيم” مما فتح الباب أمام فصل مظلم سيخيم على سوريا.
وفي الوقت الذي دخلت فيه الدبابات بلدة عائلتها، كتبت أسماء رسالة إلكترونية لصديقة لها تسألها “هل رأيت شيئا أعجبك؟” وأرسلت لها معلومات عن مجموعة حصرية لأحذية كريستيان لوبوتين. ولم تظهر أسماء في العلن مما قاد لشائعات حول سجن الظروف لها أم أنها وقفت إلى جانب زوجها. ومن تحدث إليها في الأيام الأولى للثورة قالوا إنها التزمت بالخط الرسمي بأنها مؤامرة أجنبية.
ومن الناحية النظرية كان يمكن لأسماء السفر إلى لندن، فهو مواطنة بريطانية. وكانت هناك عروضا بالممر الآمن ومكافأة مجزية من دول في الخليج. وظلت الحكومة البريطانية تردد أنها لن تمنعها من العودة فهو مواطنة وهو ما فسر على أنها ستقدم الحماية لها. ولكن الجو في لندن لم يكن مرحبا، فقد تجمع المتظاهرون أمام بيت عائلتها ولطخوا بابه بالأحمر، وشطبت كوينز كوليج اسمها من قائمة المتخرجين. وانتشرت شائعات بأنها خرجت، وتذكر مسؤول عمل في السفارة السورية في لندن أن الأمن كان يحضر لاستقبال إرسالية (ربما لم تكن أسماء). وقال آخرون إنه جرى توقيفها من شلة النظام الذين خطفوا أولادها في المطار ولهذا ترددت بالسفر دونهم. وتوقفت ولعدة أشهر عن تقديم لقاءات صحافية وركزت في العام الأول من الإنتفاضة جهودها على إعادة تأثيث البيت وأنفقت 250 ألف دولار وأرسلت مصففة شعرها إلى دبي لشراء ما تريده، فيما ساعدها شخص في لندن لتأمين شراء الثريات من هارودز، واستخدمت اسماء مستعارة وأطلقت مازحة على نفسها “الديكتاتور الحقيقي في بيت الأسد”. وتم الكشف عن قائمة مشتريات أسماء ورسائلها في 2012، حيث زودت المعارضة صحيفة “الغارديان” بها ونشر بعضها موقع “ويكيليكس”.
وفي أول تصريح رسمي لها في عام 2012 أكدت أسماء أن “الرئيس هو رئيس كل السوريين وليس رئيس فصيل سوري وأن السيدة الأولى تدعمه في هذا الدور”. لو اعتقدت المعارضة أن هذا جزء من المصالحة مع الأسد إلا ان عودتها للحياة العامة تمت بمساعدة والدها، وبالتالي ستكون مشاركة وعلى قدم وساق في الرئاسة.
وفي صيف 2012 فرت بشرى، شقيقة الأسد، إلى دبي بعد مقتل زوجها في انفجار. وأعلنت المعارضة مسؤوليتها لكن انفجارا كهذا يظل خارج قدرة المعارضة. وكانت بشرى وزوجها يمثلان مصدرا من المصادر المعادية لأسماء في داخل الحلقة المقربة للأسد. وأكد الكثيرون أن القتل كان عملية من الداخل. وعلى مدى السنوات حسن الأسد من موقعه وأوقف تقدم المعارضة التي ظلت ترسل الصواريخ من ضواحي دمشق القريبة لكنها لم تستطع الإطاحة به. وتم القتال على كل بوصة في سوريا. وفي 2016 سيطر الأسد على حلب، كبرى المدن السورية، وواصل الطيران التابع له بقصف المدن التي تحولت إلى أنقاض. وتوقفت الأمم المتحدة في نفس العام عن احصاء القتلى.
وأصبح هذا الدمار لا يناسب أحذية شانيل ولا البدلات أو المجوهرات الراقية، ولهذا استبدلت أسماء الكعب العالي بالحذاء العادي والقمصان التي كشفت عن ذراعيها الهزيلين والبنطال. وعندما ماتت والدة الأسد في 2016 خسرت أسماء أكبر المعارضين لها، لكن العذاب الأكبر كان شخصيا، ففي 2018 تم اكتشاف أنها مصابة بسرطان الثدي. لكن المرض لم يمنعها من إعادة رسم صورتها العامة والتأكد من معرفة الجميع أنها باقية في سوريا للعلاج. وتم تصوير معاناتها وبشكل يومي في التقارير اليومية للصحافة وعبر منصات التواصل الإجتماعي بل ونشر فيديو لها وهي على الكرسي المتحرك باتجاه غرفة العمليات. وعندما بدأ شعرها بالتساقط لبست مناديل جميلة لتظهر ضعفها وقوتها وكمجاز لا يمكن تجاهله عن كفاح زوجها ضد المتمردين. وبدأت مقدمة برامج على التلفزيون مقابلته “تهانينا على انتصارك على السرطان” وأجابت “شكرا” و”آمل ان نحتفل بانتصار سوريا”. وحتى قبل تعافيها شوهدت وهي تدق على أبواب الفلاحين وهي تعانق الأمهات اللاتي فوجئن بالسيدة الأولى التي رافقتها عدسات التلفزة المؤيدة للنظام. وعملت أسماء جهدها لإخفاء “بريطانيتها” واجتهدت في تحسين لغتها العربية لدرجة لم يعد هناك لهجة أو نبرة تشير إلى أثر اللغة الإنكليزية في كلامها.
ورغم إدارة أسماء ظهرها للمؤسسات الدولية التي أثرت على مالية جمعيتها إلا أن علاقتها مع المانحين الدوليين استمرت، فتدفق الدعم الإنساني على سوريا عنى أن كل هذا الدعم سيمر عبر منظمتها. وبالنسبة للمنظمات الإغاثية التابعة للأمم المتحدة التي تبحث عن طرق لإيصال الدعم إلى المناطق الخاضعة للنظام، مثلت جمعية أسماء المحاور المناسب، ففريقها المتحدث بالإنكليزية يعرف التنظيمات الدولية، ويمكن لأسماء فتح- الأبواب للشيكات. وفي عام 2017 مر دعم إغاثي عبر الأمانة أكثر من أي جمعية أخرى في سوريا. وعادة ما تتعامل الأمم المتحدة مع الأنظمة الديكتاتورية والفاسدة لكن عددا من الموظفين فيها عبروا عن دهشتهم من استعدادها للتعامل مع الحكومة السورية. وفي الفترة ما بين 2016- 2019 حصلت الأمانة الوطنية السورية على كميات كبيرة من المال تبرعت فيها وكالات الأمم المتحدة كل عام. وتبرعت مفوضية اللاجئين 6.5 مليون دولار في الخمس أشهر الأولى من 2018. ولدى الأمانة 1.500 موظف بحلول 2020 و5 آلاف متطوع وهي زيادة بعشرة أضعاف أثناء سنوات الحرب. وكرئيسة للجمعية فقد قدمت لأسماء أكثر من مجرد الثروة بل والحماية من أمراء الحرب الذين طورت علاقات معهم، وهو ما أشعر السكان بالامتننان لها والإحسان الذي جاء على شكل حقائب مالية نقلت إلى المنظمات التي ترتبط بها.
واستفادت أسماء مباشرة من اقتصاد الحرب، حيث حصلت على عقود في مجال بطاقات الدفع الذكية. وأطلقت شركة توزيع الهواتف النقالة اسمها “إيماتيل” على اسمها وهي في المدرسة.
وسجلت باسم خضر علي طاهر الذي يشار إليه بأنه “واجهة أسماء في كل شيء”. وأثرت عائلتها أيضا فقد أصبح أفرادها مؤثرين. ويدير شقيقها فراس وقريبها مهند الدباغ شركة الهواتف. ووصف تقرير لموظف سابق في السفارة السورية بواشنطن طريف الأخرس، ابن عم أسماء، بأنه “واحد من الرموز المهمة للنظام”. ويقول مقربون إن الأسد سعيد بنجاح زوجته وهو متعب بعد سنوات الحرب والاقتصاد ليس مجاله القوي. وأصبحت أسماء “كبير مستشاري الرئيس الاقتصاديين”.
وبحلول 2019 كان الروس يضايقون الأسد لدفع الديون فيما زاد الأمريكيون من العقوبات. ومن هنا بحثت عائلة الأسد عن هدف. وكان رامي مخلوف، ابن خال الرئيس الذي استخدم علاقاته مع النظام لبناء مملكة تجارية متنوعةـ شركات اتصالات ومحلات في الأسواق الحرة واستيراد وتصدير. وعلى الورق كان رجل أعمال ناجح لكنه كان عمليا مديرا تنفيذيا لسوريا. وقيل إنه كان يستطيع التخلص من وزير بمكالمة واحدة. وخسر مخلوف بوفاة أنيسة حاميه، وتمت السيطرة على الجمعية التي استخدمها لبناء تأثير بين الطائفة العلوية، وسيطرت عليها أسماء وتم تجميد حساباته. ورد مخلوف في أشرطة فيديو حاول فيها تدمير أسماء، قائلا إن “أشخاصا من فوق” هم من يدفعون للتخلص منه.
وظهرت تقارير في الصحف الروسية عن شراء الأسد لوحة لديفيد هوكني بمبلغ 30 مليون دولار هدية لزوجته. ولم ينجح مخلوف ولا يزال تحت الإقامة الجبرية، إذ تقول شائعات إنه ظل على قيد الحياة لأنه يعرف المفاتيح والكلمات السرية لحساباته في الخارج وهي 10 مليارات دولار بالمجمل. وواصلت أسماء الحصول على أرصدة جديدة، وسيطرت جماعتها على ثاني شركة اتصالات في سوريا. وتوسعت شركتها إيماتيل في كل أنحاء سوريا حتى بالمناطق غير الخاضعة للنظام. وكان نجاح أسماء التجاري والمالي سببا في تراجع صورتها التي حاولت تنشئتها بين السكان. ويقول رجل أعمال إن البعض لا يزال يحبها ويضع صورتها على حسابه في انستغرام لكن الآخرين ينظرون إليها كشجعة. وفي هذه الأيام لا أحد يتهم أسماء بأنها لا تفهم كيف تعمل سوريا. ومع تحييد مخلوف وموت والدة الأسد ورحيل شقيقته لم يعد لدى أسماء منافسين مهمين داخل الدائرة المغلقة، وعين عدد من مستشاريها في المراكز المهمة بمكتب الرئيس و “هي تسيطر على المعنين في القصر” كما يقول رجل أعمال في دمشق و “يمكنها ترشيح من تريد”.
وهناك شائعات في دمشق والعواصم الأجنبية عن تفكير أسماء وطموحها بتولي الرئاسة حالة أصبح موقع بشار ضعيفا ولا يمكن الدفاع عنها. فهل يمكن للرئيسة أسماء قيمة مهمة للغالبية السنية واستمرارية للحكم. وهناك تقارير عن لقاء أقارب أسماء مع مسؤولين أمريكيين لجس النبض ودعم الفكرة. وقال دبلوماسي سوري سابق “تفكر أسماء والأسد في نفس الشيء” و”تحب أن تكون رئيسة وكلاهما يفكر بهذا كفكرة ثورية لحماية النظام”. وربما دعمت بريطانيا طموحات أسماء في السابق، وهي سعيدة بأن تضيفها إلى قائمة حكام الشرق الأوسط ممن لهم روابط معها. ورغم شجبها إلا أنها لم تجردها من جنسيتها كما فعلت مع شميما بيغوم، البنت من شرق لندن التي سافرت إلى سوريا وانضمت إلى تنظيم “الدولة”.
ولن يدعم المتشددون العلويون محاولاتها للرئاسة، وبخاصة ماهر الذي لا يزال يقود الفرقة الرابعة القوية. وقال تاجر سوري مقيم في دبي “سيتآمر الجيش والطائفة لمنع وصولها إلى الرئاسة”. وهي قوية أكثر من أي وقت ولكنها عرضة للخطر. والحديث عن طموحات رئاسية يجعلها في وضع خطر، ومع أن الكثير من أصدقائها وصديقاتها تخلوا عنها ولكنهم حريصون عليها وعلى حياتها. وقال وفيق سعيد “أنا قلق عليها”، لكن أسماء اكتشفت منذ وقت طويل انه لم يعد هناك رجعة.
المصدر: “القدس العربي”