منهل باريش
احتفل المهجرون والنازحون بذكرى مرور عقد على انطلاقة الثورة السورية. وشهدت المظاهرات حشدا كبيرا في عدة مناطق، خصوصا مع سماح هيئة «تحرير الشام» رفع علم الثورة في ساحة السبع بحرات، أكبر ساحات مدينة إدلب.
كذلك، أقيمت عشرات الاحتفالات، شارك في أغلبها أعضاء الائتلاف السوري المعارض في شمال حلب وعفرين، تزامنا مع اجتماعات هيئته العامة الدورية، المنعقدة في مكتبه قرب اعزاز.
وسجلت درعا حضورا لافتا في ذكرى انتفاضتها وسقوط الشهيدين حسام عياش وأكرم الجوابرة، أول شهداء الثورة السورية، حيث تظاهر المئات أمام جامع العمري في درعا البلد، ورفعوا لافتة عريضة كتب عليها «الثورة حق.. والحق لا يموت».
وفي الذكرى العاشرة لانطلاق الحراك الشعبي، أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، تقريرا حول مرور «عقد من الانتهاكات المتواصلة» وأشارت إلى أنها وثقت مقتل 227413 مدنيا بينهم 14506 بسبب التعذيب، واعتقال وإخفاء قسري لنحو 149361 وتشريد 13 مليون سوري بين مهجر قسريا ونازح داخليا ولاجئ.
ومع ذكرى انفجار الثورة، يعود نقاش السوريين إلى أوله، كأنهم في عامهم الأول، يعود السجال إلى موعد بدء الثورة، هل هي في 15 آذار/مارس، أم في 18 منه؟ التاريخ الأول هو يوم مظاهرة سوق الحميدية، والثاني هو لحظة تحول الاحتجاج في درعا إلى احتجاج شعبي وسقوط أول شهيد.
ومرورا بسجالات الثورة، ينبري المجادلون حول السلمية والعسكرة، فيدافع البعض عن أسباب حمل السلاح، فيما يرى الآخرون أن البنادق لعنت ثورتهم المزهرة.
كل أنواع القنابل
تختزل الثورة السورية في عناوينها كل ما يمكن ان تختبره ثورة في التاريخ، فحجم المآسي والبطش الذي تعرضت له، قد اختبرت كل أنواع الذخائر المشروعة والمحظورة دوليا، وحدها القنبلة الذرية غابت كأداة انتقام من شعب مظلوم ووطن متوارث، بسبب عدم حيازتها، عدا عنها، استخدم نظام العائلة الأسدية كل ما يملك، كان أشدها الكيميائي، وسبقته كل أنواع القنابل.
وعانت الانتفاضة السورية ضد بشار الأسد منذ انطلاقها من تردد الدول العربية والجارة في دعمها، بما فيها إسرائيل، ورغم انتقادها من قبل دول الاتحاد الأوروبي إلا ان القنوات الدبلوماسية والاجتماعات لم تتوقف مع النظام السوري. إضافة إلى موقف ضبابي من قبل الإدارة الأمريكية، حيث قال أوباما ان على الأسد الرحيل، من دون دعم حقيقي لعملية رحيله.
ووعدت بعض الدول العربية النظام السوري بمنح مالية شريطة الانفتاح السياسي، فعليا لم تنقطع العلاقات مع النظام بشكل نهائي حتى تشكيل المجلس الوطني المعارض وبدء التواصل معه وتشكيل الجيش السوري الحر.
وفتحت الدول العربية باب دعم الثورة السورية على غاربه، من دون محددات وضوابط، وبدون التزام بدعم الثورة عبر بوابتها السياسية الممثلة بالمجلس الوطني. بل توجهت عبر وكلاء مثل الشيخ عدنان العرعور، ونواب في مجلس الأمة الكويتية ومشايخ السلفية الممتدة من لبيبا إلى مصر والكويت وقطر والسعودية.
وفرغت محطات فضائية عربية ساعات طويلة لدعم الثورة السورية، ومع موقف إيران وحزب الله المعادي للثورة بوصفها مؤامرة امبريالية، خلقت مظلومة سنية عريضة، لا ينكر وجودها عاقل، تمثلت في عمليات الانتقام التي مارسها الشبيحة «العلويون» في حمص واللاذقية وبانياس. لكن القنوات العربية عملت على تضخيم المظلومية ودفع الثورة السورية إلى الأسلمة وتحويلها من ثورة شعب إلى ثورة السنة ضد نظام علوي، مستغلين وحشية النظام وتوظيف المشاعر الدينية الشعبية بهدف سوق الحراك الشعبي إلى وضعه في قالب نمطي جاهز.
المجلس الوطني
وشجع تراخي المجلس الوطني باعتباره الممثل السياسي للثورة السورية، في وقف عبث «الأخوة العرب» بمسارات ثورته على ربط الدعم بالشعارات الإسلامية وتسمية الكتائب والألوية. وانعكس خلاف الدعم العسكري بين الأخوة العرب على صراع بين دعم المجالس العسكرية والجبهات. وبلغ حضيض الثورة عسكريا، أن يرعى شيخ سلفي تأسيس القيادة المشتركة للمجالس العسكرية الثورية. وأن يقدم له ضابط رفيع برتبة عميد ركن التحية العسكرية، ويبث ذلك المشهد على الهواء مباشرة على أهم شاشة عربية، ما أثار سخطا واسعا في صفوف النشطاء المدنيين والعلمانيين والآخرين من غير المسلمين.
ودفع الخلاف العربي داخل قيادة الأركان، إلى لم شمل الفصائل الإسلامية وتأسيس الجبهة الإسلامية، في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2013 التي أعلنت رغبتها في «بناء دولة إسلامية راشدة، تكون فيها السيادة لله وحده، مرجعا وحاكما وناظما لتصرفات الفرد والمجتمع والدولة» وضمت «جيش الإسلام» وحركة «أحرار الشام» الإسلامية و»لواء الحق» و»لواء التوحيد» و»الجبهة الإسلامية الكردية». ومع تشكيل الجبهة الإسلامية انعطف الحراك العسكري إلى نقطة اللاعودة، ودفع رهطا كبيرا من آل الثورة والحراك إلى العزوف والتراجع خطوة إلى الخلف.
قبل ذلك بعام، فرضت أمريكا عبر سفيرها في دمشق روبرت فورد، بناء منصة سياسية عوضا عن المجلس الوطني، تحت ذرائع متعددة، فالمجلس الذي تبنى العسكرة ودعم الفصائل العسكرية ولو بشكل محدود ماليا في عام 2012 رفض بيان جنيف الصادر في 30 حزيران (يونيو) من نفس العام، لعدم تضمنه فقرة عن عدم وجود دور للأسد صراحة في المرحلة الانتقالية.
ودعت الدوحة إلى انعقاد مؤتمرين متتاليين الأول لاجتماع الهيئة العامة للمجلس الوطني بعد توسعة المجلس، والثاني إلى تأسيس جسم سياسي بديل، اعطي فيه المجلس الحصة الكبرى من المقاعد فيما أدخلت كتل أخرى محضرة مسبقا، إضافة إلى نشطاء ومستقلين والهيئتين الأوسع للحراك الثوري (لجان التنسيق المحلية في سوريا، والهيئة العامة للثورة السورية).
وفي ربيع عام 2014 فجر أبو بكر البغدادي زعيم «الدولة الإسلامية» في العراق مفاجأة مدوية بإعلانه تبعية قائد جبهة النصرة لأهل الشام والعراق، ابي محمد الجولاني له، ووصفه انه أحد جنوده، واقتسم معه بيت مال المسلمين على حد وصفه، ودخلت الثورة السورية في منزلق كبير أدى إلى اقتتال فصائلي كبير، سيطر في نهايته تنظيم البغدادي الذي سماه «الدولة الإسلامية في العراق والشام» على نصف ريف حلب الشمالي والشرقي ومحافظات الرقة ونصف الحسكة ودير الزور وأجزاء كبيرة من باديتي حمص وحماة وصولا إلى ريف دمشق الشرقي وبادية السويداء.
وأدى ذلك الاقتتال إلى وسم صفة المعارضة المسلحة بالجهادية والتطرف، ولم يعد أحد يذكر سوريا في نشرات الأخبار إلا بوصفها منطقة سيطرة تنظيم «الدولة» وغطت الأشرطة المصورة التي بثها التنظيم، أغلب مساحات السوشال ميديا ووسائل الإعلام المسموع والمكتوب. وما كاد الرأي العام العالمي ينسى آخر شريط عن عملية ذبح، حتى تعود وكالة «أعماق» الرسمية بإظهار فيلم جديد، يخترع فيه عاصر التنظيم ومخرجوه نوعا جديدا من أساليب القتل. وساهمت الأشرطة المصورة باستقطاب عدد كبير من الشبان والشابات المتحمسين للعيش في رغد «دولة الخلافة» التي أعلنت في صيف عام 2014.
الأولوية الأمريكية
رفضت المعارضة السياسية والعسكرية في عام 2014 المشاركة في التحالف الذي بدأت أمريكا في تشكيله للقضاء على تنظيم «الدولة الإسلامية» والذي تشكل عقب اجتماع جدة في 11 أيلول (سبتمبر) وشارك فيه وزراء خارجية دول، أمريكا والسعودية ومصر والعراق والأردن ولبنان وقطر والكويت والبحرين والإمارات وسلطنة عُمان على محاربة تنظيم «الدولة». وفي 23 من الشهر نفسه، شن التحالف أول طلعات جوية له. ومع رفض المعارضة السورية القتال في أي مشروع يستثني الأسد، وجدت واشنطن في وحدات «حماية الشعب» الكردية شريكا جاهزا للقتال على الأرض، وهو ما راهنت أنقرة على استحالته، حيث سادت وجهة نظر تركية، انعكست لدى المعارضة السورية، ان أمريكا لن تغضب شريكها الاستراتيجي في المنطقة وثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي، لكن الرهان التركي فشل في قراءة الأولوية الأمريكية. ورغم ان المعارضة السورية راعت الرغبة التركية في الامتناع عن المشاركة في برنامج التدريب الذي أطلقته وزارة الدفاع الأمريكية، إلا أن السبب الأهم هو ان شعورا عاما داخل لدى قادة الفصائل الإسلامية وفصائل الجيش الحر مفاده ان عناصرهم لن يقاتلوا تحت راية أمريكية ضد من يرفع راية «لا إله الا الله» خصوصا بعد الانشقاقات التي حصلت في صفوف بعض فصائل الجبهة الإسلامية والتحاقها في تنظيم «الدولة» فالقناعة السائدة ان الاقتتال الأولي كان يمكن تبريره بمسألة دفع ظلم التنظيم، أما القتال تحت تحالف أمريكي فهو بالغ الصعوبة، خصوصا ان أغلب شرعيي تلك الفصائل كان يكفر الغرب، جهارا نهارا، على موقع تويتر، وفي الدورات الشرعية التي تقوم بها بعض فصائل الجبهة الإسلامية، ويعتبر الخوف من «جبهة النصرة» أحد أسباب ذلك الرفض أيضا، فلم يكف مقاتلي النصرة بنعت الجيش الحر بـ»الصحوات» في الأحاديث العامة وبين الناس.
هزمت الثورة عسكريا، وانحسر دور بنادقها مع التدخل الروسي نهاية عام 2015 وأفضت تلك الهزيمة إلى تراجع سياسي وخسارة محافظات درعا والقنيطرة وريف دمشق وحمص وحماة وريفي حلب الجنوبي والغربي واللاذقية عدا عن ممر صغير وتل الكبينة. وفرض المتغير الجديد والانسحاب الأمريكي على تركيا تغيير تحالفاتها وبناء مسار جديد مع داعمي النظام، فبنت مسار أستانة إلى جانب روسيا وإيران في محاولة منها لتقليل خسائرها كونها غير قادرة على المجابهة، وخشية ألا تنجر إلى حرب في غير صالحها.
في عقد الثورة السورية، تشير المعطيات على الأرض إلى حجم الكارثة الإنسانية التي الحقت بهؤلاء المحتفلين في ذكراها، فمن يستمع إلى حناجر مئات آلاف المتظاهرين خلال الأيام الفائتة في مناطق الشمال السوري، يعجب لجبروت هؤلاء المتمسكين بثورتهم رغم كل الهزائم والبراميل التي أسقطها طيران النظام على رؤوسهم. انها ثورة القابضين على الجمر كما يشاء أحد النشطاء تسميتها.
المصدر: القدس العربي