صدر عن دار نون في عينتاب اليوم تاريخ 30 آذار/ مارس 2021، وفي الذكرى 21 لرحيل المفكر القومي الديمقراطي الكبير الدكتور جمال الأتاسي، الكتاب الأهم لمجموعة من المؤلفين تحت عنوان (جمال الأتاسي: المفكر.. المناضل.. الانسان) وقد جاء الكتاب ضمن 125 صفحة من القطع المتوسط.
الكتاب ليس عملاً عارضًا أو عابرًا، بل هو باكورة سلسلة من الكتب أخذ(ملتقى العروبيين السوريين) على عاتقه مهمة إصدارها، في نطاق استراتيجية فكرية، هدفها تسليط الضوء على بعض فصول حقبة من أشد حقب سورية الحديثة قتامة وكآبة، نعني بالطبع “الحقبة الأسدية” التي قامت على بقايا موروثات الأيدولوجية الفاشية التي ازدهرت في النصف الأول من القرن العشرين، في إيطاليا وألمانيا وإسبانيا وروسيا وتركيا والصين وألبانيا، واستمرت بعض بقاياها في النصف الثاني من القرن العشرين، في كوريا والصين والاتحاد السوفياتي وإيران، ووجد فيها طاغية سورية حافظ الأسد ملاذات يحتمي بها من شعبه، وهو يمارس أقصى درجات الإرهاب الداخلي وسحق المعارضة والتنكيل.
لقد عاشت سورية نصف قرن من القمع والاستبداد الشمولي (التوتاليتاري) تحت حكم حافظ الأسد الذي تمكن بقدرة خارقة من تكريس جمهورية التوحش والتسلط والرعب، لأكثر من نصف قرن، وتمكن من إلغاء جوانب كثيرة مضيئة من إبداعات المجتمع السوري المتعددة في حقول السياسة والثقافة والتعليم والاقتصاد والصحافة والإبداع الفني، وأحل محلها دولة الحزب الواحد، والرأي الواحد، والصوت الواحد، والفكر الواحد، وأدى لتكريس “عبادة الفرد” “وسمح بظهور مرحلة انحطاط جديد، وتفشي قيم القرو- سطية القبلية والطائفية، وتغييب قسري للتنوع والتعدد السياسي والفكري، وتم القضاء على كل صور المعارضة والاختلاف في الفكر والسياسة والرأي.
لكل ذلك جاءت الثورة الشعبية في ربيع 2011 أشبه بانفجار أو زلزال شامل لم يخطط له أحد، ولم يتحكم بصيرورته أحد، لا النظام الأمني المدجج بقوة السلاح والبطش، ولا قوى المعارضة الضعيفة، فأسقطت الثورة الشعبية المزلزلة، وبسرعة لم يكن ممكنًا تخيلها مسبقًا، أسطورة النظام وأجهزته القمعية، ورغم كل ما يقال عن فشل الثورة والمعارضة، وعن استمرار النظام المهلهل في شكل كاريكاتيري ودونكيخوتي فإن الشعب السوري تجاوز ذلك النظام، وعاد إلى ساحة الحياة، وبدأ عصرًا جديدًا في ظل الحرية التي انتزعها، مستأنفًا نشاطه الإبداعي في كافة مجالات الحياة، معبرًا عن قطيعة نهائية مع الحقبة الأسدية.
إن (ملتقى العروبيين السوريين) وهو أحد فعاليات المجتمع السوري الجديدة في مرحلة ما بعد الثورة التي يستمد منها نسغه وقوته، إنما يحاول في نطاق استراتيجيته الفكرية التنويرية تسليط الضوء على ما تعرضت له سورية، وأصاب السوريين من تدمير وتخريب منهجي منظم في الحقبة السوداء، كما يحاول من ناحية أخرى توجيه الأنظار إلى بقاع النور والإبداع ومعالم القوة والصمود التي أبدتها القوى الحية في تلك الحقبة الكالحة رغم قسوة المواجهة بينها وبين النظام المتوحش واختلال موازين القوى بينهما.
إن نشر هذا الكتاب – الملف الذي يضم مقالات عديدة عن الدكتور جمال الأتاسي المفكر المبدع، والقائد السياسي المعارض، هو خطوة أولى في طريق طويل لإعادة كتابة تاريخ سورية المعاصر، وتجارب المعارضة السياسية الشجاعة في ظل أقسى الظروف والشروط على الإطلاق.
إن هذا الكتاب، فضلاً عن إجمالي النشاطات الثقافية التي يقوم بها “الملتقى” منذ تأسيسه عام 2017 تستهدف الدفاع عن وحدة المجتمع السوري، ووحدة هويته العربية وانتمائه التاريخي والحضاري للأمة العربية، والتصدي لمحاولات التشكيك بهذا الانتماء الأصيل، في مواجهة انتعاش الهويات المادون وطنية، ومحاولات البعض اختلاق هويات عرقية ودينية تتسم بالانفصالية والانعزالية بغرض إنتاج سوريات ( جمع سورية) لا تشبه تاريخنا ولا تعبر عن سكانها العرب، ومعزولة عن عمقها ومحيطها، تدعي استقلاليتها، وتتحدث عن خصوصيات تجعل منها أمة قائمة بذاتها، مكتملة التكوين والقوام.
لقد أخذ (الملتقى) على عاتقه مسؤولية النهوض بهذا المشروع الطموح، ردمًا لفجوات فراغية خلفها النظام الآيل للسقوط في ساحتنا الوطنية التي تعج وتضج حاليًا بتعددية مزيفة ومعتكرة، تتقدم فيها تيارات فكرية وسياسية بعضها أصيل، وأكثرها زائف ومصطنع، تحاول استغلال مرحلة الفوضى والوهن العام والتمزق وفقدان الوزن والتوازن الراهنة التي يمر بها شعبنا، وتجد لها منابر في الفضاء العنكبوتي المفتوح، على حساب التيار العروبي الذي أصبح موضع تشكيك واتهام، إلى درجة العنصرية، وأصبح الجهر بالانتماء له، أو الدفاع عنه سبة يتبرأ منها كثيرون، أو فضيلة يتحاشى كثيرون الدفاع عنها جبنًا وخوفًا.
وهذا الكتاب الذي نضعه بين يدي القارئ الكريم يضم مقالات سبق أن نشرناها العام الماضي، في 30_ 03_ 2020 في الذكرى العشرين لرحيل جمال الأتاسي المفكر والقائد، وفاء له ولمسيرته، وتعبيرًا عن إيمان والتزام بمنهجه وخطه السياسي الفكري العقلاني والديمقراطي، جهدنا أن يكون لائقًا بشخصية وطنية كبيرة، ومثقف عضوي استثنائي بحجمه ووزنه التاريخي والمعرفي، والجدير بالإشارة والتنويه أن إعداد الملف الذي اخترنا نشره بين دفتي الكتاب، كان الأول الذي اشتغل عليه موقعنا الإعلامي على الشبكة العنكبوتية (ملتقى العروبيين) كموقع لأحرار العروبة بعد انطلاقته العام الماضي كان متزامنًا مع ذكرى عظيمة وتجربة عربية رائدة، هي الوحدة المصرية_ السورية 1958-1961 التي تمثل إحدى أكمل وأرقى تجارب الوحدة في تاريخ العرب الحديث، إيمانًا منا بأهميتها، وتعبيرًا عن انحيازنا المبدئي لفكرة الوحدة العربية.
في الكتاب_ الملف دراستان منفصلتان كتبتهما ابنتا الراحل د .سراب الأتاسي، والسيدة سهير الأتاسي، وثلاث دراسات للأستاذ حبيب عيسى، الكاتب السياسي القومي المعروف، كتبت في مناسبات مختلفة، ومقالة للمحامي حسن عبد العظيم أحد رفاق طريق الراحل ، ورئيس(هيئة التنسيق الوطنية) حاليا، ومقال للكاتب الصحافي محمد خليفة، مستشار تحرير موقع ملتقى العروبيين، ومقالان لرفيقي الراحل في حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، الأستاذ محمد عمر كرداس والأستاذ نجدت نصر الله، ومقال للأستاذ مازن عدي أحد رفاق جمال الأتاسي في القيادة المركزية ل( التجمع الوطني الديمقراطي) الذي شكل الحامل الأساسي للمعارضة الوطنية الديمقراطية في ثمانينات القرن الماضي، إبان أقصى مراحل القمع في سورية، حتى تشكيل (إعلان دمشق) في ال2006، ومقال للدكتور عبد الناصر سكرية، المناضل اللبناني، والقومي العربي . فضلًا عن مقالات أخرى.
لا نزعم مطلقًا أننا أعطينا المفكر والقائد كل ما يستحقه، ولم نقدم من النقد لفكره وتجربته ما يستحقه، ولكننا حاولنا بقدر المستطاع، وما أتاحته لنا الظروف من تقديم إطلالة على أحد أهم رجال الفكر والسياسة لمرحلة طويلة وخصبة ومعقدة وحافلة بالصراعات والتقلبات من تاريخ سورية الحديث امتدت لما يزيد على خمسة عقود، وهو جهد نأمل أن يستكمله كل المعنيين والمهتمين والمجتهدون في ساحة الفكر والتأريخ لحاضر ومستقبل سورية، للخروج بخلاصات و”قوانين” تعيننا جميعًا على معالجة معضلات الواقع، ومشاكله التي خلفتها الحقبة المظلمة السابقة، بأفضل الصيغ الممكنة التي تفي بتطلعات السوريين في ثورتهم وتوقهم للحرية والكرامة، والنهوض والتقدم.
قليلة هي الكتب التي صدرت عن المرحوم جمال الأتاسي وسيرته الشخصية والسياسية وتجربته الوطنية الفذة، وفكره الثاقب، ولم تنعقد أي ندوة بحثية من مراكز الدراسات العربية، أو السورية الناشئة حديثًا، حيث لم يكن هناك من قبل مراكز دراسات علمية يعتد بها خارج منظومة النظام الثقافية، كما إن الكثير مما كتبه الراحل لم يتم جمعه وتوثيقه وأرشفته، ومعظمه بسبب الاستبداد والرقابة المفروضة على النشر، عدا النزر اليسير مما نشر في دوريات ونشرات حزبية، وفي حدود علمنا ثمة من يعمل على جمع كل تلك الكتابات لنشرها قريبًا، لترى النور، وتوثق مواقف الراحل، ولعل ذلك يدفع الكثيرين حينها للتعامل معها، كذاكرة وطنية، لا ينبغي إهمالها أو القفز عليها، أيًا كان موقفنا منها، سلبًا أو إيجابًا.
ما يزيد في أهمية الكتاب_ الملف اليوم، من وجهة نظرنا المتواضعة، أنه يصدر في وقت عادت فيه السياسة للمجتمع، ولو بشكل نسبي، بعد حالة مصادرة واستئصال وعقم استمرت نصف قرن، لم تعرف خلالها الأجيال الجديدة أهمية جمال الأتاسي، وصفحات نضاله، ونضالات غيره من رجال سورية الوطنيين الكبار، ولم يطلعوا على مسيراتهم ونضالاتهم وتضحياتهم، والأمل كل الأمل أن تلتفت الأجيال القادمة لهؤلاء، وتعيد الاعتبار لهم في سورية الجديدة، وفي ظلال الحياة الديمقراطية والتعددية المأمولة، المشرعة على المستقبل الحضاري.
كما يصدر الكتاب اليوم متزامنا مع حدثين مهمين:
الأول الذكرى الواحدة والعشرون لوفاة جمال الأتاسي، تعبيرًا عن وفائنا له ولمسيرته الوطنية، وعن العهد على المضي قدمًا في المشروع الكبير الذي نذر نفسه له والذي نعتقد أنه مشروع المستقبل الوطني الديمقراطي والنهضة العربية.
الحدث الثاني هو مرور عشر سنوات على اندلاع الثورة السورية المباركة بكل نجاحاتها واخفاقاتها، وفي ذلك رسالة للشعب السوري الثائر ليتسلح بالفكر قبل البندقية، ولأن الوعي المعرفي ضرورة لابد منها في مشروع الانتقال بسورية إلى غد أفضل، ومشرق، كان وما زال هو المحرك الرئيس لخروج الملايين في العديد من شوارع مدن وعواصم البلدان العربية.
إننا في النهاية وعلى أي حال لسنا الا مجتهدين نصيب ونخطئ، فإذا أصبنا فلنا أجران، وإذا أخطأنا فلنا أجر واحد، ولكننا نؤكد تصميمنا على مواصلة استراتيجيتنا الثقافية والإعلامية، ومن ضمنها إصدار الكتب التي نراها تشكل قيمة مضافة، وضرورية، مما اشتغلنا، ونشتغل عليه في ملفات أنجزناها أو سننجزها مستقبلًا، وطموحنا الكبير لنشر ما يتعلق بقضايا الفكر والثقافة والانتماء والهوية، راجين المولى التوفيق والنجاح لما نصبو له، ولوطننا وأمتنا الرفعة والمجد.
المصدر: موقع ملتقى العروبيين