يسألون عن الوطن والوطنية قل إنها حالة شعورية حياتية لا قدرة للفرد على توصيفها أو التعاطي معها بشكل يلامس حقيقتها مباشرة، إنها الفعل المادي والروحي للانتماء والبذل، إنها الإمحاء في الوجود الكبير والعابر للحدود والقارات، لكنه ليس متعدد الجنسيات ولا عابر لها، إنه العشق المتماهي مع الأنا الجمعي للأمة، إنه الانفلات في الكينونة اللا منتهية واللامتناهية وهو كذلك، ذلك المعطى الهيامي لأنسنة الفرد المتساوق مع كل ما يمكن أن يلامس العقل الجمعي والأنوي للإنسان المنتمي لهذا المكان. والوطن هو تلك الهالة الكبيرة التي تحدها حدود، لكن هذه الحدود ليست كحدود نعرفها أو كرسم جغرافي نراه عبر (غوغل ايرث). الوطن مالا يمكن امتلاكه والتحفظ عليه أو الإمساك به كأي شي آخر، وحب المرء لوطنه لا يجاريه حب بل لا يجب أن يجاريه بالتخارج مع الحب اللاهوتي والمقدس. ومن يعتقد أن حب المرأة خارج الوطن فهو مخطئ لأن المرأة في حين من الأحيان هي الوطن ذاته، وهي الحالة الوطنية المندرجة فيه ونحوه وجوانيته.
وإذا كان من محضر ذكر لهذا الغوص في الوطن والوطنية اليوم فلعله ما يعقد هنا وهناك من مؤتمرات ومنصات، تحاول اختصار الوطن السوري الكبير بمجرد بشر جاوزَ خط الفقر لديهم 90 بالمئة، بعد عسف وقمع هذا النظام المجرم، لذلك كان لابد من مساعدات ذات طابع إنساني فقط. وهو ما نتجت عنه مثلًا مخرجات مؤتمر بروكسل مؤخرًا الذي ما برح يعقد سنويًا، ويجري فيه التسابق لمد يد العون والمساعدة الإنسانية للشعب السوري، حتى بلغت هذا العام حسب منتجات المؤتمر ما يصل إلى 6.4 مليار دولار.
حيث قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في رسالته إلى المؤتمر: «أدعوكم لمساعدتنا في تلبية الاحتياجات المتزايدة وزيادة التزاماتكم المالية والإنسانية». وأضاف أن «الاقتصاد السوري تعرض للدمار وتعصف به الآن تداعيات (كوفيد – 19) التي زادت الأمور سوءً. فقدت نصف الأسر تقريبًا مصدر دخلها. ويعيش تسعة من كل عشرة سوريين في فقر». وكانت الأمم المتحدة حثت المانحين الدوليين على التعهد بتقديم ما يصل إلى 10 مليارات دولار لمساعدة السوريين المهجرين قسريًا جراء الحرب المعلنة ضدهم من قبل نظام لا يعرف الرحمة، وفي خضم جائحة «كوفيد – 19» المتجددة. وقالت إن الحاجة إلى الدعم الإنساني لم تكن بهذا الحجم من قبل. كما تجدر الإشارة إلى أن إيران وقبل إيقاف خطها الائتماني كانت تنفق ما لا يقل عن 6 مليارات دولار سنوياً لدعم نظام الأسد من أجل مساعدته في قتل الشعب السوري وتحقيق المشروع الإيراني الفارسي في المنطقة وخاصة في الجغرافيا السورية.
إذًا فالمسألة السورية اليوم تُختصر بمجرد مد يد العون للشعب السوري، من قبل المجتمع الدولي الذي يقف عاجزًا أو مواربًا عن إيجاد أي حل للسوريين ينهي مأساتهم المستمرة والمتواصلة، وهو قادر على ذلك فيما لو أراد، أو لو أنه امتلك الجدية الحقيقية في لجم الطاغية، ومن يقف إلى جانبه، ومن أجل إنهاء المسألة السورية بعد أكثر من عشر سنوات خلت من المقتلة السورية المتواصلة فصولاً.
الشعب السوري الذي خرج بثورته وهو عزيز النفس، يبتغي الحرية والكرامة، لم يكن يفكر في أي مساعدات إنسانية، بل هو لا يريدها، بقدر ما هو يريد إسقاط الطاغية، وإعادة الوطن السوري حرًا كريمًا، وبناء مجتمع ودولة المواطنة المفقودة في سورية منذ أن خُطف الوطن من قبل مجموعة من قطاع الطرق على رأسهم حافظ الأسد.
الوطن السوري والوطنية السورية اليوم هي الأهم بالنسبة للسوريين من كل مساعدات الدنيا، حتى لو كانوا في فاقة، ومن كل المعابر التي تتم المساومة عليها واللعب بها على حساب مأساة الشعب السوري، والوطن والوطنية التي تمثلها السوريون في كل خلجة من خلجاتهم ما انفكت هاجسهم وديدنهم، من أجل الوطن الذي يسوده الحق والعدل والمساواة، بلا آل الأسد وبدون كل أنواع وأدوات القهر من أي لون أو جنس.
الوطن السوري والوطنية السورية المنتمية إلى عروبتها، هي ملاذ المعذبين في الواقع السوري، حتى لو تخلت عنهم الكثير من أنظمة العرب، ومن بعض قواه التي كنا نظنها وطنية وعروبية، وتُركت سورية لقمة سائغة في يد الاحتلالين الروسي والإيراني وما لف لفهما. لكن خيار السوريين هو البقاء متمسكين ويعضون بالنواجذ على الوطنية السورية والعروبة حيث ينتمون إليهما، فالحضارة العربية الإسلامية، كانت ومازالت تاريخًا مشتركًا لكل السوريين، ولا يمكن تجاوزها أو التخلي عنها، أو القطيعة معها، والسوريون اليوم يحاولن امتلاك عقل جمعي وعقد اجتماعي يبتغيه كل السوريين، في حالة تجاوز جدية لكل المشاريع الأخرى ما قبل وطنية، أو التي تتنافى مع الهوية الوطنية السورية العربية للوطن السوري الخارج من رحم الأمة كل الأمة.
المصدر: موقع ملتقى العروبيين