محمود الوهب
كثير من المهتمين بالشأن السوري العام يتساءلون عن عدم تشكيل أحزاب سياسية جديدة ووازنة تنهل من معطيات الواقع، ويكون لها فعلها المؤثر في الوسط الشعبي، وبذلك تكون قادرة على قيادة المدِّ الثوري الذي تعثر ولايزال. وتستعد في الوقت نفسه لملاقاة المرحلة المقبلة، والمساهمة في بنائها.
فالربيع العربي، وبغض النظر عن نجاحه أو تعثره فقد أنذر بانقلاب عميق في حياة شعوب منطقتنا، والحقيقة أن هذا الربيع قد تأخر عقدين من الزمن، إذ المفترض أن يأتي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بقليل، فمعظم دول الربيع العربي كانت سائرة في إطاره العام وبعضها نهج على نحو أو آخر، نهجه في الحكم، لكنها لم تفعل كما فعلت تلك الدول التي كانت قد اقتدت به كلياً، وكان بينها وبينه أحلاف، وعلاقات أكثر عمقاً وتأثراً به، إن لم نقل أكثر انقياداً له.
إذ سرعان ما تشكلت فيها أحزاب تجاوزت العشرات بل المئات في بعض بلدانها، ولكن ما إن مضت سنوات قليلة حتى استقرت الأمور على عدد محدد من الأحزاب وكثير من المنتديات، وقد توزعت تلك التشكيلات الأولى بحسب أغراضها ما بين سياسي واجتماعي وثقافي واقتصادي. بينما حصل العكس عندنا، إذ عدَّ الحكام العرب أنفسهم على صواب، وأن شعاراتهم وممارساتهم كانت أكثر جدوى مما كان موجوداً في الاتحاد السوفييتي، فلديهم حريات أوسع، واشتراكيات سمحة أبقت على أشكال من الملكية الخاصة، إضافة إلى أن حرية الأديان كانت مصونة. حتى إن حافظ الأسد عاتب خالد بكداش أواسط الثمانينيات، وكان الأخير عضو قيادة “الجبهة الوطنية التقدمية” حول موقفه من مسألة استثمار النفط بين إعطائه لشركات أميركية أو غربية (رأي حافظ الأسد) أو استثماره وطنياً بمساعدة الأصدقاء السوفييت رأي (خالد بكداش).
بالطبع إن حديث البعث والأحزاب المشابهة له كان للاستهلاك المحلي، وللإمعان في الاستبداد، وتبريره، وزيادة قبضته.
الحقيقة: إن أحزاباً عديدة تكونت بعد بدء الربيع العربي، داخل سوريا وخارجها، لكنها لم تكن ذات جدوى، فالأحزاب التي شُكِّلت داخل البلاد إنما شكلتها الأجهزة الأمنية على نحو مباشر، وثمة أحزاب أخرى شكلها من ترضى عنه الأجهزة.
أما الأحزاب التي وجدت في المغتربات، ولا أعتقد أن في أماكن النزوح أحزاباً، ربما يوجد أفراد تتبع لتلك المشكلة في أماكن اللجوء، لكنها كما منظمات المجتمع المدني لا تقوى على فعل شيء. ولعل منظمات المجتمع المدني ذات نفع أكثر في تقديمها خدمات اجتماعية مختلفة. فما ينفع حزب ليس على أرض بلاده، وبين أبناء شعبه ومجتمعه؟!
يمكن أحياناً أن يكون قائد الحزب أو بعض قادته خارج البلاد وتكون جماهيره في الداخل تمارس العمل الثوري بيد أن مثل هذه الحال غير متوفرة مع كل أسف، ولذلك يظل تأثير تلك الأحزاب محدوداً، وغالباً ما يكون قادتها أقرب إلى تعاطي أحاديث الثقافة والسياسة معاً.
إن جوهر الأسباب التي تتعلق بانتكاسات الربيع العربي وعثراته، رغم تباينات ما حدث بين هذه الدولة أو تلك هو مجيئه مثل انفجارات بدت مفاجئة أو بالعدوى لكن المتمعن يراها قد جاءت بسبب تراكمات طويلة الأمد يربو زمنها على ستة عقود رافقت حالات القمع فيها انهزامات مخزية هي أشبه بالفواجع، وبخاصة هزيمة 1967 التي أتت مثل صاعقة شحنها امتلاء الشباب العربي بالشعارات، وارتفاع صوت الإعلام في فضاء بلاده، حتى جعلته “قاب قوسين أو أدنى” من إلحاق الهزيمة الماحقة بإسرائيل، ومن استعادة الكرامة التي هدرتها نكبة حرب 1948 التي لم تكن حرباً في الحقيقة بل كانت “هوشة عرب” سرعان ما امتصتها إنكلترا وأكثر دول الغرب، وساهم فيها العرب ممن كانت لهم باع طويلة ولسان.
وإذا ما تعمقنا أكثر في عمق تلك المأساة، وإذا ما أنصفنا أنفسنا، نجد أن خسارة الحربين تعود أولاً إلى أن الطرف الخاسر فيهما يعاني التخلف الشامل، وقد ازدادت هوَّة التخلف مع ازدياد تقدم العدو ومن يدعمه، وبعد أن أخذ يستند إلى قرارات في الأمم المتحدة، تبطل شعار التحرير الذي كان، ففي ذلك الوقت مضى الحكام العرب يرفعون شعارات الثأر إذ “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” و”ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”. والقوة آنذاك لا تعني إلا الجيوش وقادتها، وهي في ممارستها التي كانت استعلاء على الشعب والسياسة معاً.
وهكذا التهمت الجيوش موازنات الدول ومتطلبات تنميتها، إضافة إلى التهامها الحياة السياسة بأحزابها السياسية التي كانت قائمة وفق قوانين، وكانت مطلوبة أكثر من أي شيء آخر في بلدانها، فهي وسيلة وعي أكثر من أي مؤسسة ثقافية أخرى، فحين تغيب الحياة السياسية يفرَّغ كل ذي معنى من محتواه.
ومن هنا تماماً، ربما استشعر بعض الناشطين غياب وجود الأحزاب التي كان يمكن لها أن تقود تلك الثورة، وتأخذ بيد الثوار، فتجنبهم العثرات وبالتالي تجنب البلاد بما تمتلكه من خبرة كثيرا من المآسي التي حصلت. والحقيقة إن غياب الأحزاب المرجوة، بل غياب معارضة سليمة ومعافاة متعلق بالاستبداد نفسه، وما كانت هناك أحزاب بل بقايا أحزاب وهياكل سواء كانت ضمن الجبهة أم خارجها، فالأولى محكومة بالتبعية، والثانية تتكفل فيها أجهزة الأمن والسجون. وربما، من هنا، سيظل هذا النظام يناطح مرتكباً أبشع الجرائم حتى آخر لحظة في حياته. ولا يمكن أن تتعافى سوريا والنظام موجود.
إن وجود أحزاب سياسية سليمة ومعافاة تقود البلاد نحو تنمية شاملة تتوافق مع لغة العصر وعلومها المعاصرة وتكنولوجيتها عالية التطور تعد أساس النهضة المرجوة، تتطلب أولاً وقبل كل شيء، عودة المهجرين والإفراج عن المعتقلين السياسيين كافة، وإعادة المخفيين قسراً.
فالأحزاب الفاعلة لن يوجدها اليوم إلا هؤلاء الشباب الذين عركتهم الثورة وأيامها المريرة ومكنتهم من خبرات وأطلعتهم على تجارب عالمية، وهم كثر نراهم في مجال الثقافة والإعلام ومنظمات المجتمع المدني، وبعضهم في السجون والمعتقلات. فهؤلاء هم من يرعبون النظام اليوم، ولا يبدو أنه عازم على فعل شيء من هذا القبيل إلا إذا جاء قسراً وهذا القسر يتكون الآن سواء في الداخل بفعل الأوضاع الاقتصادية السيئة وما يقابلها من حالات نهب وثراء تجاوزت أساليب رامي مخلوف في الفساد واستباحة الدولة والمجتمع، أم في الخارج الذي يبدو في نفاد صبر المجتمع الدولي الذي لا يتجلى في مواقف البلدان الأوروبية ومنظماتها المدنية التي تبرز وثائق جرائم النظام المختلفة، بل لدى الروس الذين يزعجهم ما أنفقوه، رغم كل ما أخذوه كما يضايقهم الاستمرار ضمن ضغوطات أوروبية ومضايقات إيرانية إضافة إلى موقف أغلبية الشعب السوري الذي لا يرى فيهم غير محتلين.
ولعلَّ تطبيق القرار 2254 سبيلاً مناسباً لخلاصهم بعد كل البدع التي أوجدوها، وكل الأبواب التي طرقوها، وما أخرجتهم من مستنقع ما زالوا يغوصون فيه..
المصدر: موقع تلفزيون سوريا