حازم نهار
لا يعرف المرء كيف يعرِّف بحبيب عيسى في هذا الزمن. ربما نقول إنه مناضل من الزمن الجميل، وربما نشير إلى كونه مثقفًا وسياسيًا لا يحتمل قلبه العيش في دهاليز سياسات النفاق والتلوّن والمصالح الشخصية. إنه أبعد ما يكون عن السير في طريق التجارة بالأوطان والبشر والقضايا، وأصرّ دائمًا، وفي أحلك وأعقد الأوقات، على الإخلاص للقضية الجوهرية؛ حرية وكرامة المواطن والشعب والوطن. لكن هذا كله لا يفيه إلا بعض حقه.
كان حبيب عيسى حاضرًا، ومشاركًا، في معظم المحطات السياسية التي مرت على سورية في العقود الأخيرة، فهو محامٍ ومناضل سياسي ضد الاستبداد، وعضو الهيئة التأسيسية لجمعية حقوق الإنسان في سورية التي أُنشئت في تموز/ يوليو 2001، وكان أيضًا الناطق الإعلامي باسم منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي في عام 2001.
اعتقل حبيب عيسى في 11 أيلول/ سبتمبر 2001 خلال موجة اعتقالات طاولت عشرة معارضين، من بينهم الأستاذ رياض الترك، والدكتور عارف دليلة، وقد حكمت محكمة أمن الدولة عليه بالسجن خمس سنوات بتهمة “الاعتداء على الدستور” و”القيام بخطب وكتابات لإثارة عصيان مسلح” و”إشاعة أنباء كاذبة توهن نفسية الأمة”، و”إثارة النعرات الطائفية”، و”إذاعة أنباء كاذبة في الداخل”، كما جُرِّد من حقوقه المدنية، لكنه بعد خروجه من السجن شارك في إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي. اللافت دعوته الدائمة إلى الحوار سبيلًا إلى حلّ المشكلات السياسية، ففي 19 كانون الثاني/ يناير 2006 كتب حبيب عيسى “على أعتاب الزنزانة داخلًا كنت أدعو إلى الحوار.. وعلى أعتاب الزنزانة مغادرًا ما زلت أدعو إلى الحوار”، لكن جلاديه لا يسمعون، وأصرّوا على السير بالبلد إلى الكارثة في كل المحطات.
حذر حبيب عيسى من كارثية ذهاب النظام السوري في طريق الاعتقالات والقتل خلال السنة الأولى من الثورة، فكتب في 20 آب/ أغسطس 2011: “الآن، وبعد أن أشعل البوعزيزي شعلة ربيع العرب من جديد في أرض قرطاج، أكرر ما قلته، أن السجون لم تعد مجدية، ومن باب أولى، أن القتل لن يؤدي إلا إلى القتل، المواطن الآن لا يريد أن يقف بين خيارين، إما قاتلًا أو قتيلًا، ولكنه يحلم بالحياة له وللآخر، بالحرية له وللآخر، فهل هذا كثير علينا أيها السادة؟!”.
حبيب عيسى صاحب ظل أخضر في الحضور، يثير الاطمئنان والسكينة في أرواح من هم حوله، لا يستطيع إلا أن يكون جانبه الإنساني حاضرًا في كل وقت، يتأثر بشدة بمشكلات من حوله، واعتاد مواجهة آلامه بالصمت. كتب في 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، في زاويته المعتادة “على بساط الثلاثاء”، مشيرًا إلى حالة الصمت التي استبدّت به إزاء آلامه ومرارته “أعترف ابتداءً أن القلق يستبدّ بي إلى درجة الاضطراب، وقد كنت طيلة العقود التي استهلكت ما مضى من عمري، أواجه مثل تلك الحالة بالصمت إلى أن أستعيد السكينة، ذلك أن الحديث يصدر عن ذات مضطربة لا بدّ أن يناله شيء من الاضطراب، كما أن الصمت عندما ترتفع أصوات الضجيج أجدى من كلمات لا يستمع إليها أحد”.
لكنه وجد نفسه في حاجة إلى التمرد على صمته، بعد انطلاق ثورات الربيع العربي، وملاحظته لخلافات المعارضة السورية والطرق التي سلكتها. فعندما انطلقت الثورة السورية صدمه تعثر خطوات المعارضة وعجزها عن التوحد والاصطفاف خلف الثورة، وكان رفضه لهذا الاستقطاب غير المبرر، الذي أملته عند البعض نزوعات حزبية أو شخصية أو ربما انتهازية، حازمًا وواضحًا، فقد أشار إلى ذلك في المقالة ذاتها، في 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، معترفًا بأن الصمت “لم يعد خيارًا، فالعمر يمضي إلى خواتيمه، وبالتالي لم يعد أمامك أيها العجوز إلا أن تقول كلمتك، وتمضي، هكذا، وبهذه الكلمات بالذات كنت قد قطعت الصمت منذ بضعة أشهر، لكن الإحباط كان قد أعادني إليه، الآن أحاول التمرد على الصمت مرة أخرى، فقد كنت قد بررت صمتي في الماضي بقولي إن لا صوت يعلو على صوت الثوار، بعد أن فشلت في إنتاج صوت يواكب مسيرتهم، لكن الأصوات التي علت مؤخرًا، وكان المؤمل أن تكون صدى لأرواح شهداء الثورة، تحولت إلى ضجيج يقلق الشهداء والأحياء من الثوار على حد سواء، فارتفعت أصوات الثوار ولافتاتهم: ليس باسمنا أيها السادة!”. وتابع مثبِّتًا رأيه وتوجهه، ومؤكدًا طبيعة الدور المنوط بالمعارضين والمناضلين القدامى “نحن إذن ننطلق من قيم الثورة، ونحاول الكتابة على هوامش دفاترها، أما متن النص فيكتبه الثوار بدمائهم الزكية”.
وكتب في 11 تشرين الأول/ أكتوبر 2014، في صحيفة “السفير”، معبرًا عن حاجته الفعلية إلى الصراخ في وجه الآلام التي تجتاحه بسبب ما يحدث في بلده: “لعل أشد اللحظات قسوة على النفس البشرية هي تلك التي يتعرض فيها الإنسان للحصار والإيذاء إلى درجة الاختناق، ومع ذلك لا يجرؤ حتى على الصراخ. عندها تتفاقم آلامه إلى درجة يفقد معها القدرة على تحديد مصادرها، ماديًا كان أو معنويًا، حيث تضاف حالة القهر إلى حالة الحصار والآلام ما يؤدي غالبًا إلى حدّ الموت كبتًا”.
حبيب عيسى صاحب رؤية عروبية إنسانية بعيدة عن الشوفينية والتعصب والانغلاق، وجه نقدًا كبيرًا للأيديولوجيات والقوى القومية العربية، في مرحلة مبكرة، فقد كتب في 1 كانون الأول/ ديسمبر 1988 ناقدًا (الناصريات) السائدة: “لقد حاولت أغلب، تلك (الناصريات) أن تكسب حبّ، وولاء جماهير عبد الناصر، من جهة، وأن تحقق المكاسب، والسلامة على حساب مبادئ جمال عبد الناصر، من جهة أخرى، والمسألة لا تكلفها في النهاية، إلا صورة، بإطار فاخر، لجمال عبد الناصر، وقليل من الورع، والخشوع، عند الحديث عنه، وهذا بنظرها، يكفي لأن تفعل بعد ذلك ما يحلو لها، ثم، يغدو، هذا الذي يحلو لها، هو (الناصرية)، وما عداها (كفر) بها!”. وفي المقالة نفسها نقد أداء وممارسات القوى السياسية قائلًا: “أكاد، لا أجد، على الخريطة السياسية العربية، حزبًا، أو حركة، أو تجمعًا، أو مجموعة، لا تفتك فيها جرثومة التفتيت، والارتداد، إلى الأصغر..، فالأصغر..، وصولًا إلى الفردية”.
رحل حبيب عيسى عن عالمنا في 18 نيسان/ أبريل 2021. نحتاج، نحن الذين ما زلنا في قيد الحياة، إلى استلهام المناضلين الراحلين، نعيد قراءتهم، نتعرف إلى إنجازاتهم وأخطائهم في آن معًا، لكن من حقهم علينا في الأحوال جميعها أن نكرِّمهم، ففي هذا بعض الوفاء. أشار أبو عصمت إلى ما يشبه هذا عندما كتب “عتبات الزنزانة” في 19 كانون الثاني/ يناير 2006: “إن أقسى اللحظات مرارة تمر بالسجين السياسي، هي تلك التي يشعر بها أن الشعب الذي يضحي من أجله لا يوليه الاهتمام اللازم، لا يحتضن أحلامه، لا يحاصر سجانه.. ويلٌ لشعب لا يكرِّم مناضليه، وينصر فرسانه الذين يدفعون حريتهم ثمنًا لحريته”.
نعم لقد رحل حبيب عيسى، لكنه باقٍ، مثل كثير من الراحلين، في ذاكرة السوريين ووجدانهم. رحل صاحب الظل الأخضر.
لست نبيًا يا أبا عصمت.. ولكن ظلك أخضر… هكذا قال محمود درويش عن عبد الناصر عندما رحل..
لست نبيًا،
ولكن ظلك أخضر
وحين تموت
نحاول ألا نموت معك
ففوق ضريحك ينبت قمح جديد
وينزل ماء جديد
وأنت ترانا.. نسير.. نسير.. نسير
وداعًا أيها النبيل! وداعًا حبيب عيسى!