د. مخلص الصيادي
ما حدث ويحدث في القدس المحتلة من مواجهات بين شباب بيت المقدس وقطعان اليمين الصهيوني المتطرف الذي ترعاه وتحميه قوات الاحتلال، يلخص جانبا من المأساة الحقيقية التي تمر بها القضية الفلسطينية، والذي يتابع تغطية كثير من الاعلام العربي لهذه الأحداث الدامي يدرك جوانب أخرى من هذه المأساة، ويدرك المدى الذي جرت إليه اتفاقات التطبيع الأخير الموقف العربي، والحياة العربية كلها.
مواجهات القدس الشريف تدور في شهر رمضان المبارك، وهو شهر صوم وعزة وتضامن ووحدة بين المسلمين، لكن للأسف لا نرى شيئا من هذه المعاني التي كانت ترافق رمضان دائما.
الإعلام العربي يغطي هذه الأحداث ببرودة وبخجل، وإعلام دول التطبيع يغطي يغطيها بفجر وتواطئ مع رواية الاحتلال.
في زمن وأوقات سابقة كان الحدث في القدس يلقى صداه عربيا وإسلاميا، وكانت الأمة رغم التناقض الدائم بين الحاكم والمحكوم فيها تتحد حوله، فيصبح وجه الأمة مصبوغا بلون القدس، وقلبها ينبض بنداء القدس، الآن وفي هذا الرمضان تحديدا لم يعد الأمر كذلك، بل يبدو أن هذا الكيان الغاصب حل في عقل وضمير الكثير من النظم العربية في المكان الذي كانت تحتله فلسطين وتحتله القدس، فصارت هذه النظم وكأنها الحامية للكيان الصهيوني والمدافعة عنه، وصارت صفة الإرهاب وعبارات الإدانة توجه لكل من يجاهد المحتل ويواجه عدوانيته، وهذه واحدة من أبشع وأفظع ما تمر به الأمة.
ومع مثل هذا التطور ليس مستغربا أن نكتشف وجود تعاون أمني مكثف بين هذه النظم والكيان الصهيوني لوأد حراك الشعب الفلسطيني في القدس وفي غير القدس، وأن نجد تواطأ مع الصهاينة في السيطرة على القدس المحتلة وامتلاك الأراضي الفلسطينية وتقديمها للاسرائيليين.
السكوت العربي على ما يحدث في القدس خطير جدا، وقد أفلحت أنظمة الاستبداد والقتل، وأنظمة الطائفية والفساد أيضا أن تصرف أعين الجمهور العربي عن القدس وفلسطين، لتجعلها شاخصة نحو السجون والمقابر حيث الأحبة، ومنشغلة بالبحث عن لقمة العيش، وعن أبسط احتياجات الحياة اليومية.
جميعهم أنظمة التطبيع وأنظمة القتل والاستبداد يريد أن يخرج فلسطين ، ومن ثم يخرج الأمة، وقيمها ودينها من دائرة اهتمام والتزام الشارع العربي.
ورغم كل النجاحات التي حققها النظام العربي على هذا الصعيد إلا أن شباب فلسطين، شباب القدس، شباب الضفة المحتلة، شباب غزة، أثبتوا أن الحياة والكرامة والعزة تنبع من القدس وفلسطين، وأنهم أهل لحمل هذه الأمانة، بالدم الزكي الذي يقدمونه في تصديهم لجرائم المحتل وقطعانه، وبالوعي والتنبه لكل وسائل التآمر والتلاعب بقضيتهم، وبالإصرار على دفع الثمن مهما غلا، ومهما عز، فالقدس أغلا وأعز.
إن هذا الشباب الفلسطيني، هذا الشعب الفلسطيني الذي آل على نفسه أن يغسل عار الذل عن الأمة كلها، ويتصدى للعدو الصهيوني ويدافع عن مقدسات الأمة بلحمه الحي، ويتدافع في قوافل الشهداء ، لا يجوز أن يبقى وحده، نحن مدعون، كل منا في موقعه، وكل منا وفق ما هو متاح له، أن نعلن بوضوح وحسم أن ” فلسطين أولا، وأن فلسطين دائما”، وأنها هي الجامع لهذه الأمة في وجهيها العربي والاسلامي، وأن نداء فلسطين يجب أن يحتل مكانه الطليعي في نضالنا القومي، ويكون هو الشعار الذي نثبت من خلاله صدق التزامنا القومي، وصدق التزامنا الديني والقيمي.
يجب أن يشعر ويتيقن الشاب الفلسطيني والأم الفلسطينية أنهم ليسوا لوحدهم في هذه المعركة، وأن شباب الأمة كلها تحتضنهم، بالمال والقلم والوعي والدعاء و الالتفاف حول قيم الجهاد والمقاومة.
يجب أن يستعيد الفكر والوعي العربي حقيقة أن الالتزام تجاه فلسطين هو من يحقق الأمن الوطني لكل بلد عربي، وهو من يحقق الأمن القومي للأمة كلها بمختلف تجليات هذا الأمن.
خذلان الشعب والجهاد الفلسطيني، هو ما يمكن الكيان الصهيوني من التغول على النظام العربي – الغارق في وهم أن التصالح مع العدو والخضوع له يحميه – ، وهو ما يمكن الكيان الصهيوني من محاصرة مصر وتهديد أمنها المائي، وهو ما يدعم ويعزز أنظمة الاستبداد والقهر والفساد في الدول العربية حتى تبقى قاهرة لشعوبها، معطله لإمكانياتهم ، وحارسة له، ومعزز لأمنه.
مهم إلى أقصى حد أن تبقى فلسطين متصدرة دائرة اهتماماتنا وعقلنا وبرامجنا وتحالفاتنا وهمومنا. أن تكون هي أولا، وهي دائما.
قبل تأكيد الوقوف مع القدس وشباب القدس في تصديهم للصهاينة وقطعانهم بكل ما نملك ونستطيع، وقبل الدعاء لهم بالثبات والنصر، مهم أن نؤكد لهؤلاء المجاهدين أنهم الضوء الوحيد الذي ما زال يسطع في حياتنا، فيمدنا بالأمل وبالثقة في المستقبل، وأنهم بما يقومون به يمسحون عن جبين الحياة العربية الراهنة كآبة الذل والهوان الذي غطى به النظام العربي وجودنا وحياتنا، وأنهم بذلك لهم الفضل على كل فرد منا، ولهم دين في رقبة كل عربي ومسلم.
التحية لشباب فلسطين للمجاهدين في بيت المقدس، وفي كل بقاع هذا الوطن المبارك ،
اللهم احفظ فلسطين والأقصى، وبارك بإمهات فلسطين وبشباب وشابات فلسطين، وبرجال فلسطين، واكتب لنا شهادة معهم وبينهم.