د. مخلص الصيادي
حتى الآن لامس عدد شهداء غزة المئة شهيد، ومئات الجرحى، ودمار شديد في المناطق المدنية في غزة المحاصرة، المعركة مستمرة، لكن غزة ليست وحدها، البداية كانت القدس الشريف، المسجد الأقصى، حي الشيخ جراح، ثم امتدت الاستجابة الوطنية إلى الداخل الفلسطيني، فلسطين ٤٨، إلى اللد وأخواتها، وجاءت صواريخ المقاومة التي وصلت القدس وتل أبيب والكثير من مواقع الكيان وتجمعاته السكنية، لتؤكد أن هذا العدو بات الآن يواجه وضعا جديدا، غير مسبوق، وأن طريق “القدس ـ غزة” بدأ يمتد بعيدا في الاتجاه الآخر إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام ١٩٤٨ لتستعيد خارطة النضال والجهاد الفلسطيني اتساقها وشموليتها، ولتسترجع الأرض الفلسطينية وحدتها.
وما نشاهده من تصعيد ليس مفاجئا لنا نحن الذين نتابع هذا الوضع من خارج فلسطين المحتلة، وبالتأكيد ليس مفاجئا للشعب الفلسطيني وقياداته على امتداد مساحة فلسطين، إذ ليس أمام قادة الكيان من سبيل لمواجهة هذه التطورات إلا التصعيد، والتصعيد، والتصعيد، وإلا مد أمد المعركة يوما بعد يوم. وفي ظنهم أن المقاومة وشعب المقاومة سيرفع الراية البيضاء، راية الذل والانكسار مع ارتفاع عدد الشهداء والدمار.
ومَثَل سلطات الاحتلال في هذا الأمر مَثَل سلطات الاستبداد والفساد والقتل في سوريا وغير سوريا، الذين دخلوا الرهان نفسه، واتخذوا الخيار نفسه، العنف بوجهيه: القتل والتدمير، لعل الشعب الثائر يتعب، ويستكثر الثمن فينحاز إلى الخنوع ويرفع الراية البيضاء.
والحق أن مثل هذه العقلية في التفكير لا تملك غير هذا الخيار.
فالأنظمة التي نشير إليها تعتقد – واعتقادها صحيح – أن أي توجه لحل يعترف ببعض حق الشعب المنتفض في أن يمسك زمام أمره ويحكم نفسه، دفعة واحدة أو على مراحل، إنما يعني بداية نهاية هذه النظم، التي ارتكبت من الجرائم، والآثام ضد كل شيء في هذا الوطن ما لا يصلح معه أي حل وسط حقيقي، مهما كانت بدايته بسيطة أو جزئية.
وقادة الكيان الصهيوني على قناعة مطلقة، بأن القصور في تدمير المقاومة المادية والروحية للشعب الفلسطيني، يعني في الختام، تسجيل انتصار هذا الشعب، وتسجيل تقدمه خطوات إضافية على طريق استرجاعه كامل حقه الوطني، وبالتالي دفع “الإسرائيليين” إلى اليأس من هذا “الوطن المزعوم”، ودفع حماة هذا الكيان إلى الياس من جدوى استمرار تقديم الدعم له، إن قادة هذا الكيان: القادة السياسيين والعسكريين وقادة الوعي والثقافة فيه، يرون بأم أعينهم كيف أن “الروح الإسرائيلية” باتت مهزومة أمام الروح الفلسطينية على مستوى أصحاب القرار والتأثير، وعلى مستوى الناس والعامة.
الفلسطينيون وعدد شهدائهم في كل لحظة يزداد والدمار ينتشر لكنهم يبدون أكثر تمسكا بروح المقاومة، وأكثر ثقة بأن هذا الوطن يستأهل المزيد من التضحيات، وبأن هؤلاء الشهداء ارتقوا نالوا إحدى الحسنيين، وبالتالي هم أكثر استبشارا وثقة بالمستقبل.
والإسرائيليون على العكس من ذلك تماما رغم آلة الحرب المرعبة التي يستخدمونها، إذ لم تستطع القبة الحديدية، ولا طائرات f16، ولا الطائرات المسيرة، ولا كل أسلحة الدمار التي في حوزتهم أن توفر الأمن لا للبشر ولا للحجر في الكيان الغاصب، وبدا كل إسرائيلي يتحسس جواز سفره الآخر في إعلان عن يأسه من جدوى هذا “الحلم المزعوم” الذي راوده واستجره إلى أرض يعتبر أهلها أن الشهادة دفاعا عن هذه الأرض هو المدخل للحياة الحقيقية.
ويزيد من وحشية هذا العدو في هذه المرحلة أن القيادة السياسية التي تمسك زمام الأمر في هذا الكيان ممثلة ببنيامين نتنياهو مأزومة سياسيا، يحاصرها الفشل السياسي والعجز عن تشكيل حكومة تنال ثقة الكنيست، وتحيط بها تهم الفساد من كل جانب، وهي تعتبر ـ واعتبارها صحيح ـ أن توقف هذه المعركة دون ” تحقيق نصر” يعني النهاية السياسية لها، ويعني أنها ستجر صاغرة إلى قفص المحاكمة.
كذلك فإن الإسرائيليين جميعهم يشاهدون بأم أعينهم كيف أن هذا الجهاد والصمود الفلسطيني في طريقه لأن يودي بموجة التطبيع مع عدد من النظم العربية التي قدمها بنيامين نتنياهو للداخل الإسرائيلي باعتبارها رمزا لنجاحات سياساته وتحالفاته، بل إنهم يرون بأم أعينهم كيف أن العالم وما يتوفر فيه من محاكم دولية ومنظمات مجتمع مدني ومنظمات حقوق الانسان، لم يعد يتحمل السكوت على جرائم الكيان، وصار لزاما عليه أن يتحرك لإعلانه رفض سياسات هذا النظام الغاصب وجرائمه ، وليؤكد أن أن هذا الكيان لا ينتمي إلى مفاهيم المجتمع الحضاري المعاصر، وكما صار تأييد الحق الفلسطيني سمة كل التحركات الدولية في مختلف أنحاء العالم، صار وصف سياسات الكيان بالعنصرية والفاشية وبارتكابه جرائم ضد الإنسانية متداول في مختلف المحافل الدولية على نحو غير مسبوق.
إن المجتمع ” الإسرائيلي” برمته يرى في تحرك فلسطينيي الداخل وفي تمسك الفلسطينيين متحدين بالقدس كلها زلزالا يفتت وحدته الداخلية، كذلك فإن هذا المجتمع يئن من وقع هذه الصواريخ الفلسطينية التي إذ قيست بما يملكه هذا المجتمع من أسلحة وأدوات دمار وقتل فإنها لا تعدو أن تكون شيئا بسيطا، بل وتافها أيضا، لكن قيمتها بما تحمل من إصرار فلسطيني، وبما توقع من وهن وتفكك في المجتمع الإسرائيلي وخوف عند الإسرائيلي الفرد الذي جاء إلى فلسطين وفي مخيلته أنه جاء إلى منبع العسل والحليب، الرفاه والأمن، الهيمنة والاستعلاء على كل من جاوره أو تعامل معه.
وفي كل هذا المشهد من الصراع حيث يخط الفلسطينيون طريق المستقبل بدمائهم وحياتهم، يبدو النظام العربي وفي المقدمة منه نظام السلطة الفلسطينية محبط وعاجز بسبب الحرج الذي وضعه فيه النضال الفلسطيني الراهن.
يكاد زمام الأمر يفلت من بين يدي هذا النظام، لأنه لا يملك ولا يريد أن يستجيب للتطلع الشعبي الأولي والبسيط المتمثل في إطلاق سراح الحركة الشعبية العربية المقيدة والمحبوسة في مختلف هذه الأقطار لتنطلق وتعبر عن موقفها الداعم لفلسطين، ولتعيد وصل ما قطعه هذه النظام من وشائج وعلاقات نضالية وحركية وروحية مع الشعب الفلسطيني.
وهو لا يملك ولا يريد أن يقطع تعاونه الأمني وعلاقاته الاقتصادية مع هذا العدو، وهو أقل واجب ممكن ومطلوب في هذه المرحلة .
وطبعا هو لا يملك ولا يستطيع أن يعود لرأي الناس في الموقف الواجب إزاء هذه التطورات، لكنه في خشية بالغة من أن يؤدي استمرار هذه المواجهات والمعارك من انفلات زمام سيطرته على وضعه الداخلي، ما قد يسفر عن مرحلة جديدة من الربيع العربي المخطوف.
يجب أن يكون لدينا يقين أن كل وقف لإطلاق النار في ظل الصورة الراهنة يمثل في جوهره نصرا للشعب الفلسطيني، لأنه سيكون دون تحقيق الهدف الإسرائيلي في تدمير المقاومة وتفتيت وأنهاء الحراك الشعبي الفلسطيني تحت الاحتلال.
ولعل مأزق الجهود الأمريكية ـ التي تدرك تماما أن الانتصار على مقاومة هذا الشعب أمر غير ممكن ـ يكمن في أنها تحاول أن تبحث عن ترتيبات لوقف القتال والتصعيد تحفظ للكيان الصهيوني ونظامه السياسي بعضا من ماء الوجه، وتمنع تفلت الوضع العربي بتأثير هذه التطورات، وتوقف تراكمات الإدانة الدولية المتصاعدة للعدوانية الإسرائيلية، وتعيد إطلاق عجلة “التفاوض” بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، باعتبار ذلك مخرجا، وحلا مؤقتا للوضع الراهن، حلا يعطي الأمريكيين فرصة إعادة تقدير الموقف في المنطقة كلها بما فيها ما يخص الملف النووي الإيراني، والملف السوري. ويسمح لها بالتفرغ لملفاتها الرئيسية الإقليمية والدولية دون قلق من تطورات وانفجارات مفاجئة في هذه المنطقة الحساسة جدا والمؤثرة جدا.