على وقع انتفاضة شعبنا العربي الفلسطيني، تحل اليوم 15 أيار/ مايو، ذكرى الـ73 للنكبة الفلسطينية والعربية وإعلان الاحتلال الإسرائيلي لقيام دولته المزعومة على الأراضي الفلسطينية في 1948، هذا الإعلان الذي آثار غضب العرب القابعين تحت الاحتلالات والاستعمار الأوربي، فأرسلت بجيوشها للدفاع عن حق الشعب الفلسطيني في أرضه تحت قيادة عميل الاستعمار البريطاني “كلوب باشا”.
لم يكن تاريخ الخامس عشر من أيار/ مايو 1948، سوى ترجمة لسنوات طويلة سبقته، من التخطيط “الصهيوني” والبريطاني، لطرد الفلسطينيين من أرضهم، وإقامة ما سمي الدولة اليهودية عليها كنواة ووكر للإرهاب الدولي برعاية الاستعمار البريطاني بدايةً وبرعاية الإمبريالية الأمريكية بعدها، ولا زالت تلك الرعاية الأمريكية للإرهاب الصهيوني، فنكبة فلسطين والفلسطينيين والعرب جميعاً، لم تبدأ في ذلك الحين فقط، ولم يكن ذلك التاريخ إلا اليوم الأكثر دموية لتهجير الفلسطينيين من أرضهم، وتوزّعهم على مخيمات اللجوء حول العالم، وبداية «القضية الفلسطينية».
فقد تعرض الفلسطينيون على مدار سنوات طويلة سبقت يوم “النكبة”، للاضطهاد والتعذيب والتهجير ونهب أراضيهم عبر الهجرة اليهودية إلى أرضهم، بتخطيط من الصهيونية العالمية، وبمساعدة بريطانيا، التي كانت تسعى لإقامة دولة يهودية على أرض فلسطين.
إن فلسطين الآن تشتعل، وأبناء القدس وعكا وحيفا ويافا واللد والرملة والناصرة وأم الفحم وغزة وبئر السبع والضفة الغربية يتكاتفون في مواجهة الاحتلال شعباً واحداً، فشلت كل مشاريع الصهينة والتآمر والتفريط في تجزئة هويته الوطنية، ومن يفرض أجندته الآن في فلسطين هم جيل الفتية والشباب وهم أسياد القرار، وقد فرضوا أنفسهم بشجاعتهم وتضحياتهم، ولم ينتظروا انتخابات السلطة الفلسطينية ولا بدائل المثقفين ولا إذناً من أحد، وعندما نسمع شباب غزة المعارضين لحماس قبل المحازبين لها، أنهم مع تلبية نداء أهلهم بالقدس بكل وسائل الردع المتوفرة من الحجر للصاروخ، فإننا نحترم بكل تقدير خيارات أهلنا على أرض المواجهة، وهو ليس وقت التنظير عليهم من بعيد، وإنما وقت توحيد الكلمة على دحر هذا العدو الغاشم والحاقد، والمسكوت عن كل جرائمه ومجازره من العالم أجمع، ونحن نعلم أن نتنياهو عنصري، والعنصريين كجميع المتطرفين والإرهابيين لا يكترثون بحياة ولا كرامة ضحاياهم، لكننا في نفس الوقت نؤكد أن حماس والجهاد الإسلامي كما نصرالله وملالي إيران سيُفشلون أي محاولة فلسطينية جدية للتقدم باتجاه انتصار قضيتهم العادلة من خلال استغلالها لتحقيق أهدافهم الشريرة التي تتكامل مع الإرهاب الصهيوني، وكله بإشراف ورعاية الإدارة الأمريكية ولأغراضٍ انتهازية تتعلق بترتيب المنطقة تحت يافطة الاتفاق النووي الجديد.
ومع أن شعبنا السوري ووطننا ينزفان منذ عشرة سنوات بسبب إيران وأتباعها في المنطقة، فإننا جميعاً مع حق الشعب الفلسطيني في محاولة تحصيل حقوقه ورفع الظلم الذي أصابه، وضد حماس والجهاد الإسلامي ونصرالله وخامنئي منفذي الأجندة الإيرانية، ولن نذهب بعيداً عندما ندعي أن من الوظائف الأساسية لنظام الجريمة والاستبداد الأسدي هي جعل الوجود الإسرائيلي في الفضاء والجسد العربي مقبولاً.
وسنبقى شديدي الاعتزاز بشعوبنا العربية عامةً وبشعبنا السوري خاصةً، إذ تشدهم على مدار الساعة قضية انتفاضة إخوته في فلسطين والقدس وفي حي الشيخ جراح منذ بداية رمضان والتي شملت جميع مناطق 1948، ورغم آلامهم العميقة والكبيرة، فإن ذلك يؤشر على عمق المستقرات الوطنية والقومية في وجدان شعوبنا العربية جميعاً، رغم واقع الانكسارات الراهنة، لأننا نعيش وقائع التراكمات الإيجابية لصالح اتجاه التحرر والتقدم العربي، وإنها وقائع يُبنى عليها ومتجاوزة لمجرد التفاؤل.
ومع أن العلاقة بين نظامي الجريمة في سورية وإيران أكثر تعقيداً بكثير مما يُعتقد، إذ لم تدخل إيران إلى سورية ولم تستثمر فيها مليارات الدولارات ولم تُجرِ تغييراً ديموغرافياً من أجل الخروج بسهولة، وتعّتبر أنَّ إخراجها يحتاج حرباً أو سقوطاً للنظام في طهران، على الرغم من ذلك، فلا مفرّ من البحث عن وسائل لإنقاذ سورية فضلاً عن إنقاذ شعبنا الفلسطيني؛ فأي سورية مطلوب إنقاذها؟ وما هي الصيغة التي ستستقر عليها سورية مستقبلاً على ضوء سياسات التخريب والتدمير التي قام بها نظام الطغمة الأسدي المجرم على مدى 50 عاماً بكل المنطقة في حين أنه لازال يُكمل دوره المرسوم صهيونياً المشابه للدور الصهيوني في فلسطين المحتلة؟
لقد كان أمراً طبيعياً تطور قضية حي الشيخ جراح في القدس المحتلة من مجرد دليل جديد على الطابع الاستعماري والاستيطاني الذي قامت عليه ركائز الكيان الصهيوني قبل نكبة 1948 وبعدها، وصولاً لتسعير القضية مجدداً أمام المحكمة الصهيونية، فإن المأزق سرعان ما تجسد في تخبط سلطات الاحتلال بين ارتكاب العدوان تلو العدوان ضد باحات المسجد الأقصى، والتماس تأجيل النظر في القضية أمام المحكمة، ومنع غلاة المستوطنين من إحياء الاحتفالات بما يُسمى «يوم القدس» قبل الاضطرار إلى السماح لأعداد منهم بالاحتفال تحت رعاية شرطة الاحتلال وبذريعة حماية أعضاء الكنيست المتطرفين الذين توافدوا على المدينة القديمة لهذا الغرض.
ومن الواضح أن انتفاضة الأقصى الجديدة هذه، وليس هبة حي الشيخ جراح وحدها، وضعت الصهاينة وغالبية قياداتهم السياسية والأمنية والعسكرية أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما الاستمرار في الرضوخ لضغوطات الاستيطان، أو الانزلاق أكثر فأكثر نحو مواجهة الانتفاضة الفلسطينية في غمرة حرج متزايد أمام ضغوطات أصدقاء الكيان الصهيوني وحلفاءه في أمريكا وأوربا، والغرب عموماً، والذين لم يعد في وسعهم تغطية همجية الاحتلال، كما أن الهمجية ذاتها قد أحرجت أصدقاء الاحتلال الجدد من أنظمة عربية تهافتت على التطبيع مع كيان لا يواصل احتلال الأرض وضمها وإقامة المستوطنات عليها وانتهاك القانون الدولي كل يومٍ فحسب، بل يطرد السكان الأصليين من بيوتهم وأملاكهم أو يهدمها على رؤوسهم، مُسّقِطاً ورقة التوت ذاتها التي تذرّع بها المطبعون في لهاثهم إلى تبرئة الاحتلال وتجميل وجوهه القبيحة النكراء، وأن وسائل إعلام تلك الأنظمة قد بذلت كل جهد للهرب إلى الأمام في قضية الشيخ جراح وانتفاضة القدس المتجددة، وذلك الهروب كان ورطة في حد ذاته أيضاً، فإذا كانت المقاومة ضرورة وطنية فلسطينية وعربية في مواجهة الاحتلال الصهيوني بكل المراحل في إطار الصراع العربي الصهيوني فهي مطلوبة على الأقل بهذه المرحلة تحديداً لترسيخ الوجود الفلسطيني وثقافة المقاومة السلمية في الشارعين العربي والفلسطيني بمواجهة مسيرة التطبيع مع الكيان الصهيوني، لكن للمقاومة بكل مرحلة من مراحل الصراع أساليبها وأشكالها وأدواتها، بما يتناسب مع الظروف والمستجدات عربياً وإقليمياً ودولياً.
وفي هذه المرحلة من مراحل الصراع، فإن قوة انتفاضة الأقصى تكمن في سلميتها، فالعسكرة هي المقتل الحقيقي للانتفاضة ولأي انتفاضة سلمية، وهو ما يريده الكيان الصهيوني تماماً، ومهما كان عدد ضحايا المقاومة السلمية فإن حجم ضحايا العسكرة يفوق بأضعاف مضاعفة دون أية نتيجة، بل النتيجة لن تكون إلا لصالح الكيان الصهيوني، وما أراده الكيان الصهيوني نفذته حماس من خلال صواريخها، والمبالغة في حجمها مقارنة بترسانة الاحتلال العسكرية الضخمة، هي محاولة للتأثير على التعاطف الدولي الكبير مع ثورة المقدسيين ورفضهم لسياسات التهجير القسري من ديارهم، فالمؤكد أن حركة حماس لم تنجح إلا بشَّق الشارع الفلسطيني وحركة المقاومة، ومن المؤكد أيضاً وهو الأهم أن حركة حماس منذ نشأتها كانت مطلباً صهيونياً بالدرجة الأولى، وهذا ما أكده «روبرت دريفوس» في كتابه لعبة الشيطان: “أنشأت إسرائيل جماعة حماس كما يقول تشارلز فريمان الدبلوماسي الأمريكي المخضرم والسفير السابق، ويضيف إن حماس كانت مشروعاً من صنع الشين بيت أو «المخابرات الإسرائيلية» الداخلية التي شعرت بأنه يمكن استغلالها ضد منظمة التحرير الفلسطينية”، ويتابع ’دريفوس‘ “بدأت إسرائيل تلاحظ أن أحمد ياسين والإخوان المسلمين حلفاء جيدين ضد حركة التحرر الوطني الفلسطينية، وفي عام 1967 بدأت جماعة الإخوان المسلمين تكوّن بنيتها التحتية والسلطات الإسرائيلية تغض الطرف تماماً، وانتشرت الجمعيات الخيرية وأصبحت الأوقاف الإسلامية أكثر ثراءً، وتسيطر على 10% من العقارات في غزة وعشرات المشاريع وآلاف الأفدنة من الأراضي الزراعية، فتم أسلمة العقل الفلسطيني بعد عام 1967، كما هي الحال في مصر والسودان ودول عربية أخرى، وكان الدعم الرسمي للإسلاميين من قبل إسرائيل قد بدأ عام 1977، عندما فاز حزب حيروت الذي كان يرأسه بيغن وكتلة الليكود على حزب العمل في الانتخابات في مفاجأة مذهلة، وفي عام 1978 منحت حكومة بيغن الجمعية الإسلامية التي أنشأها أحمد ياسين الاعتراف الرسمي، وكان هذا نوعاً من الضغط الشديد على منظمة التحرير الفلسطينية”.
ويكفي أن حماس اليوم أداة طيعة بأيدي الولي الفارسي في طهران وهي تتاجر بالإسلام والدين وبأقدس قضايا الأمة العربية خداعاً وتضليلاً من أجل مشروعها القومي على حساب القضية القومية الأولى للأمة العربية، ومشروع حماس يتقاطع معها دون أي حساب لقضية فلسطين التي ليست قضية حماس أساساً، وهذا ما قاله صراحة محمود الزهار “فلسطين بالنسبة إلنا زي اللي جايب سواك ينظف أسنانه، مشروعنا أكبر من فلسطين، فلسطين مش مبينة عالخريطة”.
ونعتقد لدرجة اليقين، أن إسرائيل لو أرادت سحق حماس في غزة، فهي ليست عاجزة، كما سحقت المقاومة الفلسطينية وأخرجتها من لبنان في 1982، لتُنشأ كيانات مقاومة خلبية، لكن لحماس وجهادها الإيراني بهذه المرحلة من مراحل الصراع دور وظيفي مطلوب صهيونياً ودولياً حتى إشعارٍ آخر، كأي نظام عربي آخر وخاصة نظام الجريمة الأسدي في سورية.
فلندقق جيداً وبعيون واسعة وبعقل سياسي منفتح، في الفجوة الصغيرة والدقيقة، التي تفصل ما بين حماس والجهاد من جهة وانتفاضة الشعب الفلسطيني من جهة ثانية، هذه الانتفاضة التي كادت أن تودي بالكيان الصهيوني أو تجعله قابلاً للخضوع، الأمر ذاته يسري على مجمل المرجل السياسي في المنطقة العربية، فهناك فجٌ صغير يفصل بين الإسلام السياسي وبين الشارع الشعبي، أحدثته المأساة السورية خلال زلزلة عشر سنواتٍ خلت.
المصدر: موقع الحرية اولاً