محمد أمين الشامي
بين دموع نهلة العثمان ودموعنا على نهايتها المأساوية، وابتسامات من يعتقل مِن المقدسيين المدافعين عن حي الشيخ جراح والأقصى، نقف نحن، المتابعين من وراء دموعنا، المتحسرين على عجزنا، على صراط اللايقين من جديد، تقودنا حيرة تائهة بين الابتسام والحزن.
وعلى تلك القنطرة، بين ذلك الجرح الجديد الذي لم يبرأ مادام المذنب لم ينل جزاءه بعد لسبب أو لآخر، وهذا الجرح القديم الذي لن يبرأ أبداً مادام هناك مغتصب محتل، تتنازعنا مشاعر متناقضة حد الصراع، وربما اليأس، فلا ينقذنا مما نحن فيه إلا ابتسامة واثقة زرعها اليقين على وجوههم، وتقاسمها شباب الأقصى فيما بينهم لتزهر كالنجوم في سمائنا المعتمة التي اعتادت انطفاء الآمال.
لم تعد نهلة بيننا. هذه هي الحقيقة الوحيدة الثابتة ضمن كل المتحولات التي تحاصر بميوعتها إرهاصات ونتائج المأساة التي استوقفتني فيها نقطتان. الأولى، تغاضي الناس التي تابعت وشهدت مأساة هذه الطفلة عن معاناتها دون أن يحركوا ساكناً تجاهها ولو بكلمة. والثانية، الحماية التي يوفرها للأب المجرم انتماؤه لفصيل محسوب على جهة ما على الأرض. ومن هاتين النقطتين تطل علينا حقيقة يمكن أن تعتبر ثابتة هي الأخرى، وهي أن السنوات العشرة من العذاب والألم والمعاناة، والخروج ضد الظالم والوقوف في وجه الطغاة، ما زالت مجرد كلمات نسطرها على صفحات المقالات لنفاخر ببطولات ورقية، أو نرصفها شعراً نتغنى به في المناسبات الثورية، أو نطلقها مخدراً من وراء الميكروفونات لنسكت بها الواقع الذي يشي بغير ما نأمل. فمع كل مأساة، نكتشف أننا ما زلنا عند المربع ما قبل الأول. مربع اللامبالاة، مربع “ما دخلني”، مربع “نمشي جنب الحيط”، وهو المربع الذي أسقط حق نهلة في حياة تليق بطفولتها خارج ذلك القفص المعدني الذي التهم براءتها، وأسقط الكثير من الأوهام التي كنا نظنها باتت ثوابت عندنا.
الحدث الوحيد الذي ينقلنا مجدداً إلى المربع الأول، مربع الثورة على الخوف وتكسير صنم الصمت، هو ما تبوح به فلسطين، ما تعلنه القدس، ما يرفعه الأقصى، وما يشهده حي الشيخ جراح الآن. لن أقف عند التخاذل العربي إذ لم يعد يحمل جديداً، ولن أتناول الصمت الدولي فهو ليس بمفاجأة، ولن أدين بأي عبارات ما يقوم به أحفاد الهاغانا (الدفاع) والأرجون (المنظمة العسكرية القومية) وشتيرن (ليحي أو محاربون من أجل إسرائيل) وغيرهم، ولن أشجب زعيماً أو أدين رئيساً أو أشتم أميراً، ولن أتساءل أين الجامعة أو المؤتمر أو مجلس الأمن أو الأمم المتحدة، بل سأقف عند تلك الابتسامة لأهتف لها وحدها وأحيي حملتها، فلقد هزمتهم.
هزمتهم هذه الابتسامة جميعاً وأذلت غرورهم. سأقف عندها وأملأ ناظري بها لأنها الوحيدة التي زعزعت الشك الذي تلبسني إزاء العدل على هذه الأرض، ولأنها الوحيدة التي أرجعت لي يقيني بانتصار كل القضايا المعلقة، الصغيرة منها والكبيرة.
نهلة ماتت بغض النظر عن الأثر الاجتماعي السلبي للطلاق ومفهوم العنف الأسري وحيونة الإنسان. والمقدسيون عاشوا بغض النظر عن براغماتية المواقف والاتصالات وحسن استغلال اللحظة وأنسنة السياسة.
نهلة ماتت دون أن تعرف أن العيد يعني ملابس جديدة وعيدية وأحضان تتلقفها وقبلات يطبعها على خديها الصغيرين عادة والد عطوف وأم رؤوم، لتعيش هناك في عالم آخر ينسيها عالمنا الظالم الذي قضت بين ظهرانيه ست سنين. ومعتقلو الشيخ جراح سيمضون العيد وراء قضبان العدو دون أن يستمتعوا به، لكنهم سيستمتعون بإغاظة السجان بكل تأكيد.
الفرق بين المشهدين أن نهلة ماتت دون أن تعرف الابتسام فأبكتنا حزناً، وهؤلاء عاشوا وعلمونا كيف يبتسم المنتصر فأبكونا فرحاً.
المصدر: اشراق
