د- عبد الناصر سكرية
فتحت المشاركة العسكرية من قطاع غزة لإنتفاضة بيت المقدس آفاقًا ذات طابع مختلف إلى حد كبير عما سبقه..فهي فضلًا عن إظهار إمكانيات عسكرية وقتالية جديدة ومتطورة للمقاومة؛ أدخلت دولة العدو في مواجهات كانت تدعي أنها تجاوزتها بما صنعته لحماية ناسها من إجراءات أمنية وعسكرية كالقبة الحديدية الأميركية المتطورة وسلسلة الإغتيالات المتلاحقة لكوادر قيادية وعلمية كانت تراها تشكل خطرا على أمنها ..ثم بعد إجراءات المصالحة والتطبيع مع عدد من الدول العربية وهو ما اتخذته دولة الإسرائيلي دليلا على انتهاء الصراع والمخاطر الامنية من الجوار وراحت تتحضر للدخول في نادي الشرق الأوسط الجديد حيث لا هوية عربية بل مصالح واستثمارات وتعاون أمني بين دول المنطقة يلغي قرنا من الصراع..
تأتي العمليات العسكرية والقصف الغزاوي لتذهب بهذه الأوهام وتحيلها إلى تساؤلات عن مدى فعاليتها فضلا عن قدرتها على الإستمرار.
وهكذا كان شعور الخوف لدى المستوطنين -المستعمرين كافيا ليدفعهم للتفكير بالعودة من حيث أتوا..وهو الأمر الذي يعتبر مقتلا بالنسبة للكيان الغاصب ومستقبله في فلسطين..
في ميدان الخسائر البشرية والإقتصادية فإن خسائر شعب فلسطين لا شك أكبر..هذا صحيح لكنه ليس معيارا لتقييم النتائج النهائية لهذه المرحلة من المواجهة..مع العلم أن مقتل مستوطن واحد يعادل مقتل عشرة أو أكثر في الجانب العربي..حيث أن المعين البشري لدولة الكيان قد وصل إلى ذروته وبدأ بالنضوب..فقد هاجر إلى فلسطين المحتلة كل من تأثر بالتسويق الصهيوني تاركا بلاده ولكن محتفظا بجنسيته الأصلية فيما هو بمثابة إستعداد مسبق للرحيل في أي وقت..ولم تبق إمكانيات مهمة لتهجير المزيد وإستجلابهم الى فلسطيننا العربية..
وإذا كان البعض يرى أن الأعمال العسكرية صرفت الأنظار عن الانتفاضة الشعبية السلمية وربما أضرت بها لأنها سمحت لدولة الكيان بالإدعاء أنها تدافع عن نفسها في مواجهة اعتداءات الفلسطينيين الإرهابيين..إلا أن آخرين يرون أنها أضافت أبعادا جديدة للمواجهة وهي التي شجعت فلسطينيي الداخل وأرض ٤٨ على المشاركة الميدانية الملفتة والمستجدة..
ومما لا شك فيه أن المواجهات مجتمعة عسكرية ومدنية شجعت نخبا عالمية على إبداء رأي مؤيد لشعب فلسطين ومدين للعنصرية والعدوان الإسرائيلي..
فضلا عن مئات المظاهرات الحاشدة في معظم دول العالم لتأييد الشعب الفلسطيني الذي بدا يواجه عدوانا عسكريا إجراميا تدميريا من جيش الإحتلال..
كانت المشاركة العسكرية لحركة حماس هي الثقل الأساسي والأبرز في كل القصف الذي حصل على المدن المحتلة في الداخل..كما أن قيادة العمل العسكري كانت بيد حماس يعاونها الآخرون..كذلك حال التضحيات المقدمة والجهود المبذولة مقدما لتحديث وتطوير القدرات العسكرية للشعب الفلسطيني في غزة..وهو ما بدت نتائجه واضحة فيما حصل من قصف لتل أبيب وغيرها..
مع العلم أن الشهداء الغزاويين الذين كانوا ضحايا القصف الهمجي الصهيوني ، ليست أكثريتهم من أعضاء حماس .فمنهم كثيرون ينتمون لفتح ومنظات أخرى أو مجرد مدنيين وإن كان من بين الشهداء هذه المرة نخبة من الكوادر العلمية والطبية الفلسطينية وعلى رأسهم العالم الدكتور المهندس جمال الزبدة رحمه الله ..
وهكذا اختلط الدم الفلسطيني ليروي تراب فلسطين المتعطش للحرية والكرامة ؛ متجاوزا كل الإعتبارات الحزبية أو الفئوية أو المناطقية ..وهذا سوف تكون له معان في غاية الأهمية تتعلق بمستقبل القضية وقدرة قياداتها على تجسيد ذلك التلاحم سلوكا سياسيا حركيا مستمرا وتجييره لصالح القضية..
ويبقى أن المساهمة العسكرية الأبرز كانت لحركة حماس وزاد فيها تسليط الأضواء الإعلامية عليها دون غيرها..
وعلى أساس من هذه المساهمات الأبرز كانت المفاوضات لوقف إطلاق النار تبرم مع حركة حماس فكانت هي الأولى بأية وساطة من أجل ذلك..وهذا ما حصل..
غاية القول أن حماس التي تحملت عبء المشاركة بالعمل العسكري وانطلاقته من غزة نصرة ودعما للمقدسيين ومن تضافر معهم ؛ هي التي قادته ووجهته ودفعنا ثمنا غاليا لأجل إستمراره وتمكينه من تحقيق مكاسب على العدو..وبالتالي كانت هي الطرف الذي يفاوض ويقرر ثم يقطف المكافأة المعنوية لإنتهاء المعارك والصمود البطولي لغزة وقواته معها ..فأصبح هو الطرف الأجدر بتوجيه الأمور في الساحة بما أصبح لديه من رصيد شعبي ومعنوي كبير..
وهكذا وضعت الأحداث حماس في الواجهة الأولى وبات عليها من اليوم تحمل نتائجها وحسن إدارتها وما حملت من متغيرات وتوظيفها لصالح الشعب الفلسطيني ولصالح قضية فلسطين..
وإذا كان من البديهي الثابت المعروف أن كل القوى الداعمة لدولة الإحتلال والمؤيدة والحامية لها والمستفيدة منها سوف لن تهدأ لمحاولة اعتراض إدارة حماس لتلك المستجدات ومنعها من توظيفها لصالح القضية…والتاريخ القريب والبعيد يعلمنا كم من الإنتصارات العسكرية تحولت إلى خسائر أو هزائم لعدم مقدرة أصحابها على إدارتها جيدا وإستثمارها لصالح قضيتها..لا يعتمد هذا الإعتراض دائما على معسكر الأعداء أو لغة العداء بل كثير منه يأتي بلسان صديق أو شعار داعم او علم ناعم…
فالامر في معظمه صار متوقفا على نهج حماس وتعاطيها وإدارتها لمجريات الأحداث التاليات للمواجهات ..
كيف تفكر حماس ؟
ما هو برنامجها للمواجهة ؟؟
كيف ستتعامل مع الأطراف الفلسطينية الأخرى ؟
إلى أي مدى تملك إيران وغيرها من الدول تأثيرا على حماس وقدرة على تغيير سلوكياتها الثورية باتجاه سلوكيات تسووية كما هي الحال بين الدول ؟
هل تستطيع حماس الإحتفاظ بأصالة ثورية تجعلها لصيقة بالشعب ملتحمة معها ولا تقبل بأية تسوية لا يكون هو طرفها الاساسي ؟
هل تملك حماس استراتيجية واضحة للصمود والمواجهة والمقاومة ومعها برنامج عمل مرحلي محدد. ؟؟
أسئلة كثيرة ومصيرية وعلى ضوء تعامل حماس معها تتوقف مقدرة القضية على الإستفادة من إيجابيات ما حصل مؤخرا وما فيه من مكاسب..
١ – من المعروف أن لحركة حماس صداقاتها السياسية وعلاقاتها الحزبية وهذا حقها كحزب ..أما كصاحبة قضية أو بالأحرى وتحديدا الآن وصاعدا ؛ باعتبارها رمزا طليعيا للقضية الفلسطينية وعنوانا للتضحيات العظيمة التي قدمها الشعب الفلسطيني ؛ وجب عليها أن يكون ولاؤها للقضية فوق علاقاتها الحزبية أيا تكن…هذا يعني أن القضية هي المعيار الذي يقاس به الآخرون وأولهم وأهمهم حماس ذاتها..فالجميع يجب أن يكون في خدمة القضية وثوابتها وليس العكس..
٢- إن أبرز مكاسب ما حصل في المواجهات الأخيرة كان التلاحم الشعبي الفلسطيني كافة..وهذا هو جوهر المعركة وصلبها وعنوانها..
كيف يتحول التلاحم الذي تم إلى حقائق حركية تنظيمية تحميه وتبلوره أكثر وتترجمه فيما يخدم الصمود والبقاء والتشبث بالأرض..
لعل هذا أبرز تحد يواجه حماس في هذه المرحلة الجديدة ..فهل ستكون على مستوى المسؤولية والوعي والنضج الثوري فتتجاوز ذاتيتها لتنصهر في عمق الضمير الوطني الفلسطيني ؟؟
٣ – ترتيب البيت الفلسطيني وهو ما يعني استكمال العدة والمقومات لحماية الإنتصار والمكاسب وتطويرها..وأول ما يفرضه هذا هو توحيد العمل الوطني الفلسطيني انطلاقا من وفي إطار منظمة تحرير فلسطين ومؤسساتها المتنوعة التي بناها العمل الوطني الفلسطيني وصارت ملكا له وليس لأي طرف أو فصيل حزبي أيا كان…
فهل تستطيع حماس التماهي مع هذا المطلب الوطني الملح ؟؟
لعل هذا يقتضي تصحيح بعض الممارسات السلبية التي ظهرت في مسيرة حكم حماس لقطاع غزة حتى تكون الناس راغبة في الإنصهار في الأطر الوطنية المتشكلة دون تحفظ ..
٤ – فلسطين أرض عربية وشعبها عربي ومسؤولية تحريرها تقع على العرب وفي القلب منهم شعب فلسطين..ليست مسؤولية إيران أو تركيا أو أية دولة مسلمة أخرى..ولما كان الصراع مع الصهاينة وجوديا قوميا عربيا يتجاوز الإنتماءات الدينية ولا يلغي اي بعد للقضية لاعتبارات القداسة في القدس وبيت لحم لدى المسيحيين والمسلمين معا..
لذا مطلوب من حماس أن تصهر هويتها الإسلامية بالبعد الوطني – العربي الذي تنتمي إليه وتحتمي به رغبة أو كرها…أما إبقاء المواجهة في إطار ديني بحت فليس في مصلحة القضية..
٥ – لا يجوز تجيير أية مكاسب أو إيجابيات حصلت لغير شعب فلسطين وتضحياته وبطولاته وصموده..وكل من ساعد حماس او وقف مع الشعب الفلسطيني فينبغي ان يكون موقفه صادقا صافيا تأييدا للحق ونصرة للقضية العادلة…أما من يطلب ثمنا لمساعدته عبر مواقف سياسية ؛ أو يتخذها مبررا لفرض تسويات تخدمه هو وليس القضية ؛ فهو ليس صديقا حقيقيا بل يسعى لتوظيف قضيتنا لمصلحته هو ..وفي هذا خداع ومتاجرة لا ينبغي أن تنطلي على حركة ثوربة كحماس أو سواها..
٦ – الكل يعرف علاقات المودة بين حماس وإيران..والكل يعرف حقيقة المشروع الإيراني الشعوبي الحاقد على العرب الطامع في أرضهم والمتعاون مع أعدائهم للسيطرة على بلادهم وإلحاقها بإمبراطورية فارسية يسعى لتأسيسها ولطالما حلم بها..واذا كانت حماس ترى لزوم شكر ايران على مساعدات قدمتها لها فهذا شأنها ؛ أكثر من ذلك لا يحق لحماس أن تتهاون مع أي طرف لإستغلال فلسطين وقضيتها لخدمة أغراضه السياسية..والفرق واضح وعلى حماس أن تعيه وهي لا شك تعيه فينبغي ان تمارسه سلوكا عمليا واضحا ، ليس إكراما لشعب عربي هنا او هناك وإنما قبلا وفاء وإلتزاما بقدسية قضيته الوطنية..
وكل حديث عن تأييد النظام السوري للمقاومة الفلسطينية إنما يدخل في باب التزوير والخداع والمتاجرة الحقيقية بالشعب والقضية لصالح حفنة من أفراد مرتهنين لتسلط أجهزة ايران والنظام السوري في بعض أنحاء سورية ولبنان أيضا..وهذا ما لا ينبغي ان يستمر او ان تقبله قيادات حماس الحرة الشريفة فتبادر لتصحيحه ووضع حد له…إنه استخفاف بالعقول وبكل إنسان فلسطيني يعرف حقيقة النظام إياه وما ارتكبه من جرائم بحق الشعب والقضية..
إن قضية الشعب السوري هي ذاتها قضية فلسطين .فالمصير واحد مترابط..والقوى العالمية التي تحمي كيان العدو هي ذاتها التي تبقي النظام السوري واجهة لإحتلال سورية وتهجير أهلها وتدميرها..
٧ – بدأت تظهر تصريحات متعددة المصادر تتحدث عن أن التسوية السياسية هي الحل الوحيد على أساس دولتين..وإلى الأبد..
هل يعني هذا ان هناك تسوية سياسية حصلت لوقف اطلاق النار ؟.
إذا كانت هناك تسوية على حماس إعلانها للناس ..للشعب الذي ضحى وقدم..من حقه أن يعرف كل الحقائق..أما أن تتم تسوية من وراء ظهره فليس عملا ثوريا أو وطنيا مقبولا..ولا نظن ان حماس تستطيع تحمل مسؤولياته بغير أذى يصيبها ويصيب القضية معها..خصوصا وأن كل الدول المتدخلة لترتيب وقف إطلاق النار ليست صديقة للقضية ولا لشعبها..فما الذي حصل ولماذا ؟؟ ومن حق الشعب أن يعرف ويشارك ويقرر ما يتلاءم مع طموحاته..لا أن تفرض عليه تسويات لن تكون في صالحه..
٨ – وحده توحيد العمل الوطني بإيجابية تشاركية على أساس من برنامج عمل مرحلي محدد واستراتيجية عامة تتمسك بالثوابت ؛ كفيل بإنهاك السلطة وإسقاطها وتفريغها من أي محتوى سلبي قائم..وهنا أيضا تتمظهر براعة حماس وقدرتها على الإرتقاء فوق العصبية الحزبية والفئوية والمناطقية لإستيعاب الحالة الشعبية وضروراتها الوطنية التوحيدية الجامعة..
٩ – ولا شك أن حماس تدرك أن كثيرا من السم يدس في الكلام المعسول أو الدسم المغري أو في العسل المغشوش..
ولسوف تحاول كل الاطراف المؤيدة للعدو منع الشعب الفلسطيني من استثمار إنجازاته وتضحياته…
كما إلى إغواء حماس ذاتها بذاتها وصولا إلى تضخم غير مبرر يمهد لإنفجار أو ضعف أو إستفراد..
لن تستطيع حماس الصمود في مواجهة ضغوط معادية كثيرة ومتشعبة جدا الا إذا حافظت على إلتحامها العضوي بالشعب الفلسطيني وعلى شفافية تعاملها اليومي معه ورفض التنازل او المساومة على الثوابت الأساسية..
أما طريق التسويات عبر الدول فلن يكون في صالح القضية والشعب..
١٠ – إنها فرصة تاريخية لحركة حماس لتقود العمل الوطني الفلسطيني على اساس مشروعه الوطني التحرري وثوابته الوطنية كاملا دون مساومة أو تنازل..فتبتعد عن نهج الدول والسلطات والتسويات لتبقى حركة شعبية قادرة على ان تقول لا لأية إجراءات أو مواقف لا تخدم القضية..هنا فقط سيكون النصر حليف الشعب والقضية..
ولا شك ان الجميع يملك من الوعي بالتاريخ ما يجعله يدرك أن طريق التسويات التي تغري بالمكاسب الحزبية والمناصب الفئوية ليست طريق النصر مهما حملت من مغريات..
وحسب المعرفة بنهج النظام العالمي في التعامل مع قضايا الشعوب والشعب العربي خصوصا ؛ فإن إحتمالية لجوئه إلى إدماج حماس بالسلطة من بوابة منظمة التحرير لتصبح آنذاك سلطة مقبولة شعبيا بعد الذي حدث ؛ قد يكون نهجا تسعى إليه دول النظام العالمي وعلى راسها أميركا لإستيعاب الجميع وضمهم .. وإذا حصل هذا يخشى أن تكون ضربة جديدة للقضية والآمال المتجددة ..إن غزارة التضحيات التي قدمها الشعب سوف لن تهون على كل فلسطيني حر شريف..
كل أحرار العرب والعالم يتوجهون إلى حركة حماس وكلهم أمل وثقة بقدرتها على تجاوز الضغوط وتخطي العقبات والإغراءات لتبقى ملتحمة بالقوى الشعبية تستقوي بها وتقويها..وما فشلت ثورة أخلصت قيادتها وتقدمت صفوف الفداء والتضحية والأمانة.