إياد الجعفري
قد لا تكون صدفة محضة، أن تتزامن عودة العمّ الضال –رفعت الأسد- إلى “حضن وطن” ابن أخيه، مع استعادة النظام لاستراتيجيات فرض الطاعة التي اتبعها في النصف الثاني من عهد حكم حافظ الأسد. فـ رفعت الذي أدى إحدى طقوس الطاعة لـ بشار الأسد، عبر مشهد “انتخابه” بالسفارة السورية في باريس، قبل أيام، كان الرجل ذاته الذي مثّل إقصاؤه عن الحكم، بدايةً لعهدٍ جديدٍ في حكم شقيقه، قبل 36 عاماً.
ويُمثّل العام 1985، فارقاً نوعياً على هذا الصعيد، إذ كان حافظ الأسد قد اطمئن تماماً إلى التخلص من أي تهديد جدّي لنظام حكمه من جانب قوى المعارضة المحلية، وتحديداً الأخوان المسلمين، وفي الوقت نفسه، كان قد تخلص من تهديد مستجد لكرسي حكمه من جانب أخيه، رفعت الأسد، قبل ذلك بعامٍ واحدٍ فقط. لذا، شهد استفتاء العام 1985، تطوير استراتيجيات قديمة لفرض الطاعة، وإضافة أخرى جديدة إليها، بصورة لم يكن قد عرفها السوريون من قبل. حيث ظهر لأول مرة مصطلح “البيعة”. وشاعت مشاهد تقديمها بـ “الدم”. وتصاعدت ظاهرة تأليه الحاكم، والحض على إظهار الولاء والخضوع له، بأدوات الإكراه والتهديد، وصولاً إلى استفتاء العام 1992، الذي شهد عروضاً غير مسبوقة من التزلف، تحولت لاحقاً إلى سمة عامة لعلاقة السوريين بنظام حكمهم. فقد تعودوا على تقديم طقوس الطاعة، لتجنب المتاعب وحفظ أمنهم من أدوات النظام العقابية، بعد عقدٍ من الخيبة حيال أية آمال للتغيير في سوريا.
وبقيت غايات النظام من فرض التزلف في الطاعة على السوريين، غير مفهومة بشكل كافٍ، بالنسبة للكثير من الباحثين، الذين لجأووا لإسقاط نماذج مختلفة، من الأنظمة الشمولية، تارة الفاشية وتارة الشيوعية، من دون أن يفلحوا كثيراً في تقديم وصفٍ يلامس كل جوانب المشهدية الفريدة نسبياً، في سوريا. تلك التي يطلب فيها النظام من شعبه عروضاً بلاغية واستعراضية قد تكون مثيرة للسخرية في حين، ومخالفة للمنطق في أحيان أخرى، مع كم هائل من الإسفاف في الهالة الملقاة على الأسد الأب، كان النظام يعلم جيداً، أن السوريين في غالبيتهم العظمى، يسخرون منها بين جدران بيوتهم، بكمٍ هائلٍ من النكات السياسية، الزاخرة بأشكال المجاز المُعبّر.
ومن بين محاولات فك شفرة هذه الاستراتيجيات وغاياتها، كانت محاولة الباحثة الأمريكية ليزا وادين، في كتابها “السيطرة الغامضة – السياسة، الخطاب، والرموز في سورية المعاصرة”، تجربة غنية ومتفردة لجهة التركيز على جوانب من خصوصية المشهد السوري، مقارنة بمشاهد تاريخية مقارنة، قد لا تنطبق بشكل كافٍ عليه.
صدر كتاب وادين، عام 1999، وظهرت ترجمته للعربية في نهاية العقد الأول من القرن الحالي. ورغم أن وادين تتناول عهد الأسد الأب، إلا أن قارئ الكتاب لا يمكن إلا أن يتوقف ملياً عند استراتيجيات فرض الطاعة المستنسخة من ذلك العهد، والتي أعاد نظام الأسد الابن إحياءها في المسرحية الانتخابية الأخيرة.
وكي نفهم أكثر غايات النظام، علينا أن نسأل الأسئلة الصحيحة، لا الخاطئة. فأن نتساءل مثلاً، كم نسبة السوريين المقتنعين بخيار “الأسد”، من بين أولئك الذين “زحفوا” وفق وصف وزير خارجيته، لـ “انتخابه”، هو تساؤل في غير محله. فالنظام لا يعنيه أن يكون السوريون مقتنعين، ما يعنيه أن يكونوا مطيعين. بل هو فعلياً، لا يهمه المقتنعون أساساً به، بل ما يستهدفه هم أولئك الذين يعلم أنهم يظهرون غير ما يبطنون. فأولئك تحديداً، يريد منهم أن يظهروا أكبر قدر ممكن من الطاعة. فالطاعة الحقيقية هي طاعة الخاضع، وليست طاعة المقتنع. فالأخير، لا يطيع فعلياً، بل هو يتصرف من وحي قناعته، تلك التي تتبدل وفق المصالح أو الظروف. أما من يطيع، وهو مُكره، هو تحديداً النموذج الذي يريد النظام إعادة استنساخه وتعميمه في أوساط السوريين، بعد عقدٍ من الثورة عليه. فالطاعة الحقيقية تقوم على عدم التصديق. وكلما ترافقت مع تزلف وإسفاف، كلما أشارت أكثر إلى تمكن السلطة من فرض استمراريتها. هكذا يفكر نظام الأسد، الآن.
وبهذا الصدد، تروي ليزا وادين في كتابها، قصة يقول راويها إنها حدثت حقاً. وإن كان لا يمكن الجزم بحدوث هذه القصة بالفعل، إلا أنها تختزل الكثير من الرمزية القادرة على اختصار المشهد بسوريا عشية التسعينيات من القرن الماضي. وهو المشهد الذي يسعى النظام لنقل السوريين إليه، اليوم. تقول الرواية، إن مجنداً من أبناء المدن، رُمز له بـ “ميم”، كان قد اجتهد كي يحظى بالثقة داخل إحدى القطع العسكرية بالحرس الجمهوري، التي كان يخدم فيها، عام 1989. والحرس الجمهوري يومها، كان فرقة النخبة الموالية للنظام، المتخمة بالعناصر الموالين له بشدة. لكن المجند “ميم”، كان يُعامل –رغم محاولاته لاستجلاب الثقة- من زملائه وقادته، على أنه ليس جديراً بها، مما كان يثير الحنق في نفسه. وفي إحدى الليالي، زار قطعتهم العسكرية ضابط رفيع، ودخل إلى مهجع المجندين الذين انتصبوا باحترام له. فطلب الضابط منهم أن يرووا له أحلامهم بالليلة الفائتة. فتقدم المجند الأول، وقال له إنه رأى القائد – حافظ الأسد- في السماء وأنه وزملاؤه نصبوا سلالم من نار وصعدوا عليها كي يصلوا إليه. ومن ثم تقدم المجند الثاني، ليزاود عليه، وقال إنه رأى وجه القائد في السماء، وهو يعتصر الشمس بين يديه حتى تهاوت وسحقت، فحل الظلام على الأرض، لكن، في اللحظة التالية، سطع وجه القائد في السماء، وأرسل ضياءً ودفئاً على الأرض. وهكذا، توالى المجندون يروون أحلامهم المكذوبة والمبتذلة، والضابط يستمع إليها بارتياح وتشجيع كبير، إلى أن جاء دور المجند “ميم”، الذي تقدم إلى الضابط، وقال له: “لقد رأيت في منامي أمي عاهرة في غرفة نومك”. ولم يكد “ميم” ينهي رؤياه حتى انهال عليه زملاؤه بالضرب وكسّروا عظامه. ومن ثم تم تسريحه من الحرس الجمهوري.
تزخر تلك القصة، بالرمزية. فالضابط يمثّل القائد حافظ الأسد، والأم في خطاب النظام تقابل الأمة أو الوطن، مما يعني أن “ميم” أراد أن يقول إن وطنه مستباح من جانب حافظ الأسد. وهي رمزية فُهمت مباشرة من جانب زملائه وقادته، فتمت معاقبته، وتسريحه لاحقاً، تأكيداً على عدم الثقة به. لكن، بعيداً عن فعل التمرد الذي قام به “ميم”، يختصر عرض استجلاب الطاعة والتزلف من جانب الضابط، وتجاوب المجندين معه، المشهدية التي يريدها النظام تحديداً، في سوريا. فحينما يتزلف الناس في تمثيل الطاعة، ينعزلون عن بعضهم، نظراً لكم النفاق المستشري في أوساطهم، ويفقدون الثقة ببعضهم تماماً. وبذلك يفتت النظام أي احتمال لظهور حراك جماهيري ضده، ويفرض خطوطاً حمراء على السلوك والكلمة، ويُسخّف القيم السياسية الهامة، كالديمقراطية والانتخاب. تلك الاستراتيجية أثبتت فعاليتها قبل أكثر من عقدين، في ضمان استمرارية النظام وتوريث كرسي الحكم للجيل الثاني من العائلة. واليوم يحاول النظام استنساخها مجدداً.
وفيما تتوخى غالبية السوريين الخاضعين للنظام، السلامة وتجنب أي مخاطر أمنية، عبر الاستجابة لعروض الطاعة المطلوبة منهم، ويسعى بعضهم لاقتناص مواقع مسؤولية داخل مؤسسات النظام عبر التزلف والإسفاف في تقديم هذه العروض، يتسببون فعلياً في خلق حالة من الديمومة لنظام الحكم ذاته، الذي يحط من شأنهم، وينال حتى من رغيف عيشهم. ذلك أن فاعلية سلطة النظام بسوريا تتحقق في تحويل القوة القمعية إلى قوة انضباطية، أقل كلفة. وبذلك يصبح الأسد قوياً، لأن الناس يتعاملون معه على أنه قويّ.
المصدر: المدن