أدهم حنا
ليست الكتابة تعليقاً على ما قاله هيثم المالح عن الغائبة رزان زيتونة، بأمرٍ عسير، لكن الاستماع إلى المقابلة كلها يشير بُكلية ما، إلى شخصية رجلٍ تجاوز الثمانين، والحذر في تقييمه أو تقييم أقواله قبل إجراء عملية فحص نفسي لمجمل ما قاله. تجنباً لاتهامه بالبارانويا، تجدر الإشارة إلى أن هيثم المالح في المقابلة ذات الساعة الواحدة وأقل، قد قال (أنا..) حوالى ثلاثين مرة. هذا هذيان بلا شك، لكن الميل إلى اعتبار وصوله لجنون العظمة يبدو أكثر منطقية، بسبب سنّه، واستخدامه قصصاً وسرديات شديدة الخصوصية لقدراته وإنجازاته، وتمثيل نفسه بقوة اجتماعية وشخصية هائلة. ويدور هذا ضمن خبل الشيخوخة (وبنية هوس الكذب) بِلا شك.
هذا لا يعنينا انتقاماً لرزان، لكنها صورة شخصية صنعها بنفسه، بأقواله وتنفخه. هل يُمكن قياس بنية التضخم لدى محامٍ ومناضل حقوقي، وهو يُشير حسب قوله إلى أن الناس “هتفت باسمي في دمشق وحمص وغيرها”… واصفاً نفسه بألقابٍ هذيانية وبلاغية واستعارات منمقة، كأن يكون “عظمة كبيرة في حلق النظام”، و”الحجرة الثقيلة”؟
بنية هوس الكذب جراء الشيخوخة، تليق بهيثم المالح، فنحن لم نستمع للحقوقي العتيد في شبابه، لنعرف بنية الذات النفسية التي تصوغ نفسها وتتحدث عن أحوالها في وقتٍ مضى، لكن ما بدا منه يجعلنا نميل لا لمسامحته، بل لاكتشاف مريض نفسي سوري آخر، ما أن يملك بوحاً عمومياً حتى يكشف نفسه وآليات تفكيره ومحددات عُصابه. ولو شئنا مثلاً تجنب أي استدلال يجعلنا نقيّمه بالشيخوخة أو البارانويا، لاكتفينا بمعاينة الواقع الاجتماعي والسياسي لسوريا، مع جملة قوله وفعله التي يدعيها، فنشاهد بلاداً محروقة ولا يحمل شعبها أي قيمة روحية أو ثقافية سوى كونه ضحية دول كُبرى، وإرادات شبه استعمارية. فلا يملك هيثم المالح أي أساس موضوعي لمجمل مقولاته أو إنجازاته سوى هذيانات وجُمل غير دقيقة أو واضحة، وبمقدمات غير صحيحة وكاذبة. ما يميزه فقط، الهذيان المنظم، ويحاول سرد قصص تؤيد مقدماته عبر العلاقات الشخصية وذكر الأسماء محتفظاً بإهانتها بدلالة عليه، وطبعاً كل هذا ليُقنع هذيانه القوي.
لسنا أمام حالة متزنة بالمطلق، لكن شيئاً أكثر وضوحاً وإضحاكاً في الشخصية التي رأيناها عبر شاشة “تلفزيون سوريا”، هو فرط الحساسية التنبيهي الذي يعانيه المالح جراء ذكر أي شخصية سورية. فهو لم يظهر مهاجماً للنظام السوري، بقدر ما حاول تصغير الشخصيات التي قد يُمكن ذكرها من المعارضين أو الناشطين السوريين: علي العبد الله “ناشط عادي”، حسن عبد العظيم “اشتراكي بخطاب بائس” ولم يُشر بأي شكر له رغم مساندته له أثناء محاكمته… وصولاً إلى ضرب رزان زيتونة بخطاب عبّر فيه بشكل كاملٍ عن رؤيته للأنثى السورية والمرأة والحرية عموماً. فمنذ بداية المقابلة لم يُخف المالح علاقته بأركان السلطة، وسهولة تواصله معهم. الهيثم لن يقنع أحداً بأنه ندٌّ لهم، لكنه لا يقبل أن يكون أقل وجوداً وتشخصناً من دون إفهامنا بأنه راعٍ، وأستاذ، وحقوقي، ومعارض، وشبه نبي. الأسطورة التي يحيك فيها قصصه تجعله أقرب للراعي الشرقي الذكوري، فارضاً علينا قصصه واستدماجه تاريخ سوريا بنفسه كما يفعل بشار الأسد تماماً. ولأنه أشبه براعٍ هذياني، كان عليه التماذج تماماً بوضع نظام رفضي، مُحدداً ثقافة محددة لرؤية سوريا ومجتمعها، ومعاقباً من يخالفه فيها قدحاً في اللغة واستخفافاً فيها.
فبينما يستعيض بالتراث الشعري لوصف نفسه، تتغير ملامحه وتتكئ شفتاه على عنة صوته ويحرك يديه حركة استخفاف بوصف الآخرين. كان غياب رزان زيتونة شديد التأثير فيه كشخصية هذيانية أنوية بحتة، لا يتحدث عنها أحد، ولا يعني أحداً وجودها. فتح باباً للسرد عنها، محاولاً جعل نشاطها عادياً وبسيطاً لفتاةٍ في الثانية والعشرين من العمر تقاتل أشرس الأنظمة الاستبدادية بكفاءة وتضحية. والسؤال الذي نستحق أن نطرحه على المالح وغيره: أهكذا كُنتم تُعاملون نخبة الشباب العاملين في الحقل الإنساني والسياسي والحقوقي في سوريا؟ فلم يُثمّن المالح عمل زيتونة، ولم يجعل له أي قيمة، متحدثاً عنه بسرعة ومن دون أي كفاءة حتى في السرد. وصولاً إلى افتعال سرد شخصي بينه وبينها، وتعظيم خلاف لا يبدو للوهلة الأولى أنه يملك أي أهمية، لكن فصوله التي خرجت عبر وسائل التواصل لا تميل أبداً إلى تصديق رواية المالح، ليس لأن الزيتونة أنثى ونميل للوقوف إلى جانبها، لكن، على طريقة باختين في لم شمل النصوص والآراء والسرد الشخصي لفهم نظرية الشخص، ولفهم تحول الشخصية في الشظايا التي يمكن جمعها من التفاصيل، فلا نميل إلى تصديق المالح بقدر ما نصدق ما يُحكى عنه بأنه عرض عليها زواجاً، وبأن رفضها حقق لشخصية الراعي الذكري التي فيه تشظياً أكثر عُنفاً، فهو لم يبادر لتحطيمها لفظياً، بل حقق مسروداً تبسيطياً، يتناسب مع تحقق شخصيته هو، لا قيمة نضالها هي.
وفي مواجهة هروبه من النظام الذي راعه وتخوف قتله، حسب زعمه، لأنه “عظمة كبيرة”، فإن الزيتونة الأكثر جرأة وقوة ومعنى منه في غيابها، هاجمها كراعٍ مستبد وفي الوقت ذاته بوصفها ابنة، حينما سأل عتاة “جيش الإسلام” عنها والذين أيضاً يجتمع معهم ضمن النظام التكيفي لصنع نفسه كراعٍ مستبد، مع التذكير بأنها ابنته، ما يجعلها مثلاً ضمن دائرة رعاياه الذين يحتاجهم ليفرض علينا سلطته وأثره وقوة شخصيته في العلاقات. في النظام التكيفي لشخصيته ذات النظام الرفضي المُختار، لم يقل لنا المالح إنجازاته مع “اختيار” أو”العلوش”، فلماذا رزان ابنته هنا؟ هل تحدّث لهم عن معتقلين آخرين أو ضحايا آخرين قتلهم “جيش الإسلام” وأخفاهم؟ هل رزان زيتونة مواطنة من طبقة أخرى من طبقات السوريين الذي على المالح السؤال عنهم؟ هل معرفته برزان تجعلها ابنته التي يخاف الراعي فقدها لأنه عرفها؟ أم دورها السياسي والفكرة التي تحققها وتناضل من أجلها ما جعله يسأل عنها؟… التوكيد على الأبوة ساذج، وهو يعرف في حد ذاته أن أقام تصعيداً نفسياً فهي بالكاد تهمه إلا من باب أنه قد سأل عنها وحاول تخليصها، ليضيف هذا لإنجازات وهمية يجعلها الراعي مجداً وعظمة. بالكاد يسرد المالح قصصاً تنتهي بمجمل إحباطات، إلا أن نظامه الهذياني الخاص يستعيد توازنه بنقد رزان زيتونة على ثيابها، أو مجمل تطلعاتها التي تبدو حرة. التكيفية المريضة تستعيد توازن الاتهام والرفض والعقاب، ولو لم يكن هذا العقاب قد جاء على يديه، بل على أيدي رعاة يشبهونه يشاهدوننا خرافاً وقطعاناً ناعمة تتبع قيوداً ويأتيهم العقاب. إنه راعٍ قاسٍ وبلا عاطفة وجاحد، هذا لن يؤذيه أبداً، طالما أنه يُعبّر عن نفسه تماماً كما يُحب.
أليست جائزة لنا أن نشاهد المالح هكذا؟ طبعاً، هذا جيد لكي نعرف الكثير عما دار في خلد ثقافتنا السياسة وطبيعة شخصياتها.
الاحتجاج النسوي جيد وحُر وحقيقي في وجه المالح ونقده لحرية الآخرين والمرأة عموماً. لكن ما يبدو أقسى علينا، أن يكون المالح جاحداً إلى هذا الحد، ومريضاً وقاسياً. في المقابلة ذاتها، عرفنا أيضاً أن المالح، حينما يملك ابنة من الحياة يكون رجاء الأهل طويلاً. يؤكد على الرجاء الآتي نحوه لقبوله تلميذاً. هذا الرجاء البدئي، ذو الطابع الديني، يُشير إلى شخصيته تماماً، هذا ليس رجاء لنبي بالطبع، لكن عليه أن يظهر هكذا.
توكيد الرجاء نحوه مثير للضحك والسخرية في آن معاً، ومهين لذوي رزان الذين وثقوا فيها ولم يترجوه بالطبع. وقد نسى أنه يتحدث عن أهل مفجوعين بابنتهم، فكانوا يستحقون رجاء المسامحة والمحبة والحنو لأوضاعهم، مثل آلاف الأمهات والآباء، بدلاً من وضعهم في موقع الرجاء لأي أحد.
الراعي المستبد الأسدي لا يختلف في أي شيء عن هيثم المالح، الفارق الوحيد أن الأسد يملك دلائل توكد شخصية الراعي التي فيه، أما المالح فيهذي هذا كله من دون أي واقعٍ يجعله يملك نظاماً رفضياً وحاسماً.
المصدر: المدن