أماني الطويل
من غير المرجح أن يؤدي انتصار الحكومة المتوقع إلى رأب الصدع السياسي والعرقي الآخذ في الاتساع بالبلاد. فقد أسهم تأجيل الانتخابات الإثيوبية لمدة تزيد على عام في تعقد المشهد السياسي الإثيوبي إلى حد اندلاع الحرب على إقليم تيغراي بما أنتجته من تداعيات سلبية على الدولة، والنظام السياسي، وحالياً تنعقد هذه الانتخابات، ولكن بمعزل عن 18 في المئة من حجم الكتلة الانتخابية في ثلاثة أقاليم رئيسة، من المساهمة من اختيار طبيعة المستقبل السياسي لإثيوبيا ومن هم اللاعبون السياسيون في المشهد الداخلي، وهي الحالة التي تطرح أسئلة في شأن مدى مساهمة مخرجات العملية الانتخابية الإثيوبية الراهنة في تحقيق استقرار يستطيع معه آبي أحمد في حالة فوزه أن يستكمل بناء حزبه (الازدهار)، وينهي إلى الأبد صيغة الإثنية الفيدرالية والجبهة الشعبية الثورية الإثيوبية، التي نجحت في تحقيق استقرار سياسي للبلاد على مدى ربع قرن من الزمان.
بطبيعة الحال، وكعادة العالم الثالث، لم يكن تأجيل الانتخابات بسبب كوفيد-19، كما قال آبي أحمد، ولكنها كانت فرصته الوحيدة لإعادة هندسة البيئة الانتخابية ليستطيع أن يقصي نخب تيغراي من ناحية، وينهي النظام السياسي السابق عليه من ناحية أخرى، حيث جاء بفلسفة جديدة للحكم، تعرف محلياً بـ”Medemer” (وتعني باللغة الأمهرية: معاً، أو التآزر)، وتسعى لتقديم أطروحة مغايرة تماماً للقطيعة مع نظام الفيدرالية الإثنية؛ إذ يجادل آبي أحمد بأن القومية الإثنية يمكن أن تمضي يداً بيد مع ما يدعوه بـ”القومية المدنية”، التي تركز على الحقوق الفردية”، ويأمل أيضاً في الحصول على تفويض انتخابي جديد يمنحه السلطة اللازمة لمتابعة أجندته، التي تتضمن صياغة دستور جديد.
أول اختبار لحزب الازدهار
وتمثل هذه الانتخابات، وهي السادسة في العقود الثلاثة الماضية، أول اختبار حقيقي لحزب الازدهار، بقيادة رئيس الوزراء آبي أحمد، منذ تشكيله في عام 2019 على أنقاض التحالف السياسي المهيمن سابقاً في إثيوبيا، حيث تتزايد الشكوك الإقليمية والدولية في شأن القدرة على تغيير أسس النظام السياسي الإثيوبي بالكامل والمضي قدماً نحو تشكيل مشهد جديد وبفواعل سياسية مستحدثة.
ولعل أهم أسباب هذه الشكوك، أن الفواعل الوازنة في المشهد السياسي الإثيوبي، هم في الواقع خارج الحلبة، وبعضهم مسلحون ومسيطرون على أراضٍ خارج هيمنة الدولة، حيث تقاطع أحزاب المعارضة الإثيوبية الرئيسة هذه الانتخابات، كما تشكل مخرجات الحرب على تيغراي ونتائجها مشهداً سياسياً وإنسانياً مرعباً، ذلك أن هذه الحرب تسببت في نزوح1.7 مليون إثيوبي، كما أن هناك نحو 5 ملايين يحتاجون إلى مساعدات غذائية عاجلة، فضلاً عن ظهور أدلة على ممارسة فظائع يندي لها الجبين، حيث تشكل انتهاكات واضحة لحقوق الإنسان، وترسم مشهدا إنسانياً مؤلماً، وفي غاية البؤس. هذا المشهد دفع الأمم المتحدة وآخرين إلى التحذير من مجاعة وشيكة في البلاد.
على المستوى السياسي تم إقصاء كل من أقاليم تيغراي وبني شنقول جومز وأوروميا الغربية والعديد من المناطق الأخرى من المشهد الانتخابي. كما تم تأجيل الاقتراع في منطقتي الصومال وهرار حتى سبتمبر (أيلول) بسبب مخالفات ومشكلات في طباعة أوراق الاقتراع. وإجمالاً، لم يتم تضمين 102 مقعد برلماني من أصل 547، في الجولة الأولى من التصويت؛ حيث يتم اختيار البرلمان، بالإضافة إلى مجالس ولايات إقليمية، التي يتنافس فيها 46 حزباً سياسياً وأكثر من 37 مليون ناخب مسجلين للتصويت. ووفقاً للدستور فإن تشكيل الحكومة المقبلة يعني الفوز بنسبة 50 في المئة، بالإضافة إلى واحد من الإجمالي الوطني.
بناء قدرات العملية الانتخابية
في هذا السياق، أكد المجلس الانتخابي الوطني لإثيوبيا أنه كان يحاول بناء القدرات المؤسسية للعملية الانتخابية، حيث قام بتعيين نحو ربع مليون موظف يعملون في ظروف صعبة، كما قام الجيش الإثيوبي بنقل وتسليم الأوراق الانتخابية، ولكن بمستويات مشهودة من القصور، حيث إن قدراته الأساسية واقعياً هي في إقليم تيغراي، يضاف إلى ذلك كله أن الانتخابات تجرى في بداية ونهاية موسم الأمطار، مما قد يؤثر في البنية التحتية للنقل والاتصالات، ويؤدي إلى مزيد من التأخير في عمليات الفرز وإعلان النتائج.
في هذا السياق، من غير المرجح أن يؤدي انتصار الحكومة المتوقع طبقاً لهندسة آبي أحمد للبيئة الانتخابية إلى رأب الصدع السياسي الآخذ في الاتساع بإثيوبيا، أو حل المشكلات الهيكلية والمنافسة الأيديولوجية التي ظهرت على السطح خلال قيادة آبي أحمد، ويمكن القول إن أهم التحديات التي يواجهها آبي أحمد حالياً هي إقليم أوروميا، وكتلة القوميون الأورومو فيها، الذين تصاعد رفضهم لصيغ أحمد السياسية، التي أعلنها في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، بحل الائتلاف الحاكم سابقاً (الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا)، حيث فهمت تلك الخطوة على أنها معاكسة تماماً لطموحات قوميات وشعوب البلاد، وأن آبي أحمد يهدف منها إلى العودة للنظام الوحدوي، وأنه سيعيد إخضاع هذه القوميات، مرة أخرى، تحت هيمنة “الأمهرا” وإمبراطوريتهم، كما تم تصاعد التوتر مع عملية اغتيال الفنان هندسيا، أيقونة ثورة شباب الأورومو (القيرو-Qeerroo)، واعتقال رموز المعارضة البارزين (جوهر محمد) وتقديمهم للمحاكمات.
انتقادات قومية الأورومو
وأبدى القوميون الأورومو انتقاداً واضحاً للميل المتزايد لرئيس الوزراء (آبي أحمد) نحو الأجندة الكبرى المميزة للمشروع السياسي للأمهرا، وتحديداً رفض نظام الفيدرالية الإثنية كلياً. وهذا التيار يضم عدة مكونات تراكم خطابها على مدار التاريخ الحديث منذ نشوء الحركة السياسية هذا الشعب، ولكن ما يميز هذا التيار وحدة الخطاب مع اختلاف كياناتهم التنظيمية؛ إذ إن السرديات الحديثة للقوميين الأورومو مناهضة بشكل جذري لكافة أشكال الهيمنة الأمهرية. وتم اعتبار نظام آبي أحمد امتداداً للحكومات المركزية التي اتسمت بالقمع والإخضاع الممنهج لشعب الأورومو خصوصاً، مع تحالفه الوثيق وفي فترة مبكرة مع دوائر من الأمهرا، وهو ما أسفر عن عدم الاعتراف الحقيقي بأحمد لدى قطاعات واسعة وسط الأورومو كممثل سياسي موثوق يمكن أن يحقق طموحات شعب الأورومو؛ على الرغم من أنه قد انحدر سياسياً من “منظمة شعب الأورومو الديمقراطية”، التي أسستها جبهة تحرير تيغراي بعد وصولها السلطة 1991، من أسرى الحرب السابقين (تحولت إلى حزب الأورومو الديمقراطي، الذي اندمج لاحقاً في حزب الازدهار الحاكم حالياً).
وقد أقدم القوميون الأورومو على خطوة خطيرة، بإعلانهم بقيادة القس بيلاي مكونن، في مطلع سبتمبر (أيلول) 2019، تأسيس ما أطلقوا عليه “كنيسة أوروميا الأرثوذكسية، وهي خطوة اعتبرت مساساً بأحد أهم ثوابت الحياة الاجتماعية والسياسية؛ حيث تعتبر كنيسة التوحيد الأرثوذكسية ذات نفوذ كبير على الحياة العامة بالبلاد، وهي منتسبة تاريخيا للأمهرا.
في هذا السياق، تبلورت عدم ثقة الأورومو في آبي أحمد، ويشكلون 40 في المئة من السكان تقريباً، خصوصاً مع تخلصه من كل منافسيه الأوروميين، مثل جوهر محمد، وبيكلا قربا، ولما مقيرسا، كما أنه تردد في تحقيق المطالب التي يعتبرها الأورومو خطوطاً حمراء ومقياساً للولاء لمشروعهم القومي، وتحديداً مسألة اللغة الأورومية وحسم التبعية للعاصمة (أديس أبابا) بشكل جذري خلال الفترة الانتقالية الممتدة اعتباراً من 2018، وطبقاً لذلك تم تصنيف نظام أحمد بأنه “نظام النفتجنا الجديد”، أي إنه يمثل استمراراً للهيمنة التاريخية لنخب الأمهرا.
مواقف قومية الأمهرا
وربما يكون هذا التقييم الأورومي السلبي لآبي أحمد وراء مقاطعة 15 مليون ناخب والأحزاب الأورومية الكبرى للانتخابات، في المقابل فإن القوميين الأمهرا برزوا في المشهد السياسي الإثيوبي، وهم الذين ينطلقون من افتراض بأن مفهوم الأمهرا ليس عرقياً، وينتقدون نظام الفيدرالية الإثنية القائم حالياً، ويمثلهم تياران يمثلان النزعة القومية وسط الأمهرا، وهما:
حركة الأمهرا الوطنية (ناما): التي تأسست في يوليو (تموز) 2018، وتدعو للدفاع عن شعب الأمهرا في وجه الاضطهاد والقمع الذي ظل يتعرض له، كما أنها تسعى جاهدة للارتقاء لتطلعات القومية الأمهرية.
حزب بالاداراس للديمقراطية الحقيقية: ويعرف عند تأسيسه بـ”مجلس بالداراس”، وهو كيان للدفاع عن حقوق سكان العاصمة ومناهضة مزاعم القوميين الأورومو بتبعية العاصمة (أديس أبابا) إلى إقليم أوروميا، حيث يمكن ملاحظة أن النزعة القومية لدى الأمهرا حالياً باتت تحمل وجهين بوضوح؛ فهي تدافع عن أجندة وحدوية وطنية، وفي الوقت نفسه تدافع عن شعب الأمهرا بالمفهوم العرقي الضيق.
إجمالي هذا المشهد هو صراعي بامتياز بين أكبر قوميتين بإثيوبيا ضد بعضهما البعض، حيث تمارس عمليات قتل ممنهجة في إطاره، لم يكن آخرها اغتيال حاكم إقليم أمهرا سيري ميكونين قبل عامين ووزير دفاعه.
وطبعاً، لن نشكك في فوز حزب الازدهار بقيادة آبي أحمد بعد أن تمت هندسة البيئة الانتخابية لصالحه، ولكن السؤال الحقيقي بأي هامش سيفوز؟ وما مدى الاستياء الناتج عن هذا الفوز؟ وهل يمكن أن تنتج هذه الحالة القدرة على إجراء حوار سياسي داخلي كما تدعو واشنطن؟
المصدر: اندبندنت عربية