محمد أمين الشامي
لم يعد غريبًا على المتابع للأصوات المنكرة التي تلعلع في منطقتنا العربية المسكونة بالفوضى، والمستكينة إلى انقلاب المفاهيم على الرغم من فداحة الخسارات، أن يكتشف تجلِّيات مفهوم القطيع في الفكر والسُّلوك والعته الجمعي فيها. كما لم يعد مستهجنًا ظهور طبقة المطالبين بتفاسير عصرية تنشد “تحديث” الهوية ونكران الإرث الثقافي، وتبشر بحتمية مسايرة الواقع وتجاهل الماضي، أو كما قال أحدهم يومًا: “لن نستغرب أن نرى محمدًا يلبس الشورت وينزل البحر لو كان يحيا في زماننا هذا”! بل صار من يستنكرها متخلِّفًّا، ومن ينتقد التَّهافت على هدم أساسات الهويَّة بمعول العالميّة الماديَّة رجعيًّا، وتحولَّت المطالبة بالتَّمسك بالثَّوابت الوجدانيَّة، والهويَّة الثقافية، والأصالة المميزة للشخصية، إلى دعوة لسكنى الكهوف التشدُّديَّة والمغارات الظَّلامية بحسب ادعائهم، وهو ما قد يرقى إلى مستوى الاتِّهام بإرهاب الفكر المؤدلج، تهمة العصر.
وقد لعب الابتلاء بجيل من القادة الأولين، الَّذين لعبوا دور “المطيَّة” حفاظًا على العروش، دورًا كبيرًا في استيلاد جيل من القادة الآخرين قبلوا بلعب دور “البردعة” إرضاء لمن حوَّل شعوبهم إلى قطعان يوجِّه أفكارها ويبتلع ثرواتها حسب ورغبته. ولعلَّ ما شهدته المنطقة ليدلَّل على صدق ما نشير إليه. فأنى نظر المرء يرى الانحطاط الأخلاقي معلمًا واضحًا والعهر السياسي وسمًا ظاهرًا، محميين بطبقة من إعلام مرتزق، ليطلع علينا بين الحين والآخر من يدعو إلى الانسلاخ عن التاريخ والتراث والتعلق بالنهج الغربي وحسب “إن ابتغينا النهضة والتقدم”، لتدخل المنطقة في مواجهة خطيرة التداعيات، وتتوه الشخصية والثقافة والإرث الحضاري في أزقة التجرد الخلفية، والكلُّ يبحث عن طوبى “الاستغراب”.
وأمام ردَّة الفكر هذه، لابد من التَّفتيش عن أسباب الرَّداءة وأركانها، فكان المثقَّف بأقنعته المتعدِّدة، ورجل الدين بولاءاته العكرة، المحميان ببندقية الارتزاق، الركن الرَّكين في هذا التَّحوُّل المشين، لتتم ولادة الأصنام من جديد بيسر.
وبتحديث ما طرحه مالك بن نبي في كتابه “شروط النهضة”، ونقصد “القابلية للاستعمار”، يمكن استبدال الاستعمار بالقابلية للردة الفكرية وللرداءة الخلقية ولخلع الهوية والتبرؤ من الموروث الحضاري، مقابل التيه المسمى “حرية” زورًا أو المدعو “تطورًا” بهتانًا. وبحسب ابن نبي ما قاله: “الحرية عبء ثقيل على الشعوب التي لم تحضرها نخبها لتحمل مسؤولية استقلالها”، فكيف إذا كانت النخب والشعب يرتعان في الخواء ذاته؟ والاستقلال هنا لم يعد يعني الخلاص من الاستعمار، بل من تركته الثقيلة من طبقة سياسية وحاشيتها الإعلامية، وقابلية “الاستحمار” التي تركها بصمة على الخواء الفكري.
والواقع يشي بفشل أصحاب الحكم بأشكاله السائدة، بملكات الطيش والتبعية والسذاجة التي يتمتعون بها. فهم فشلوا بداية في فهم الطرح الإلهي في السنن التي تتناول العلاقة بين الإنسان والكون والحياة، نتيجة جهلهم بطبيعة الدين وحقيقة دعوته ورسالته ورؤاه. كما فشلوا لاحقًا في فهم طبيعة التطور الحتمي التي يقوم عليها البناء الحضاري وجوهره كونهم قمعوا ملكة التغيير وعوامله القائمة على التفكير والتجريب والإبداع وصولًا إلى تجاهل التبدل المنشود. ولأنهم أعداء ما يجهلون، نجدهم يحاربون الدين بدعوى الأصولية، ويحاربون التغيير بدعوى الاستقرار، ويحاربون الإبداع بدعوى البدعة. كما باتوا يعملون على تنشئة جيل بلا هوية وبلا مستقبل وبلا فكر، جيل مُنع من فهم فكرة الحرية وغيرها من أفكار، وأُطلق له العنان لممارسة التحرر مع جهله للحدود والمعنى والبعد الثقافي لما ينتمي إليه من أصالة.
لقد هوت بنا “قابلية الاستحمار” إلى قاع الاستدمار، باستثناء ثلة من مثقفين حقيقيين حاصرتهم دولة مسخ قامت على تراب محرر مسلوب الثروة، وغيَّبت أفكارهم صحيفة قوانينها التي تركت الشعوب رهن الفوضى، وأبقت الدين مجرد خطبة جمعة تكتب في أقبية المخابرات، وجعلت المثقف والشيخ أطيافًا لزعيم وصفه ابن نبي بقوله: “عجبت لرجل ولد ليملأ الكلمات المتقاطعة في جريدة بائسة ويحل المطلوب في ألعابها ومسابقاتها كيف يصبح قائدًا لبلد رهنت مستقبلي ومستقبل عائلتي لأجل مستقبله”. ولتحديث الفكرة، لم يعد هذا الرجل/القائد يحمل صحيفة بل يمتلك بلاي ستيشن الآن.
ربما حان الوقت لتلك الثلة المحاصرة لأن تلعب الدور الأخطر لأفكارها في هذه اللحظة الفارقة، علَّها تستطيع إيقاظ النائم وتوعية الغافل وقيادة الضائع، للوصول إلى ترميم المجتمع المتآكل وإقامة الدولة المنشودة، وإلا، فالصنم، بتعبير ابن نبي، باقٍ ما بقيت الأفكار غائبة.
المصدر: اشراق