عقل العويط
حاولتُ أنْ أهرب من جبّور الدويهي ومن فارس ساسين، في الأيّام الثلاثة الأخيرة، فلم أستطع. أعترف بخجلٍ وبانسحاق، أنّي لم أحضر لهما مأتمًا، وأنّي عجزتُ عجزًا ماحقًا عن الاتصال بأحدٍ من عائلتيهما للتعزية. وإذ ظننتُني بذلك أنأى ليهدأ روعي، إذا بي ازداد قربًا وتورّطًا.
مسألة الموت ليست فقط عاطفيّة (وعائليّة). إنّها أيضًا وفي الآن نفسه، مسألة المأزق الأخطر والأصعب والأدهى الذي يتحدّى حياتنا، ويستلّ منّا الجوهر، ويُميتنا، ونعجز عن النيل منه، أو – في الأقلّ – الالتفاف عليه، و”تدوير” زواياه.
الوجودُ الطيّبُ الشذى نفسُهُ هو الذي يموت، لا عناصرُهُ فحسب، ولا مكوّناتُهُ، ولا فقط أشخاصُهُ النابهون المتألّقون. يجب أنْ أدقّ النفير، بأعلى ما يمكن أنْ يكون عليه نداء هذا النفير، لافتًا إلى – احتضار – هذا الوجود النوعيّ الأنيق اللائق المهيب الكثيف المعنى، احتضارًا يوميًّا، كارثيًّا ومأسويًّا (بالتهجير، بالموت و/أو بسواهما)، في مقابل “ازدهار” وجودٍ انحطاطيٍّ رخيص، بعناصره، ومكوّناته، وأشخاصه الذين حطّموا أرقام الانحطاط القياسيّة، ليس هنا فحسب، بل بالتنافس مع العالم كلّه، الواقعيّ والافتراضيّ على السواء.
أرقامنا في الوجود الانحطاطيّ هي الأعلى و”الأرقى” قاطبةً.
يمثّل هذا الوجودَ السافلَ أفضلَ تمثيل، هؤلاء الذين دمّروا مبدأ الحياة الهنيّة اللذيذة، واستولوا على الوجود برمّته، روحًا، وجسمًا، ومكانًا، وعيشًا مادّيًّا ومعنويًّا. إنّهم هؤلاء الذين يختصرون الحياة السياسيّة بطبقتهم (الجهنّميّة)، وهم أنفسهم الذين اغتالوا الأحرار والمثقّفين، وفجّروا بيروت ومرفأها، وهجّروا الناس من بيوتهم، ويأّسوهم. وهم أنفسهم الذين يديرون الحكم في لبنان، والشأن العامّ، ويسرقون الفقراء والأوادم، ويركّعونهم، ويهينونهم، ويجوّعونهم، ويشوّهون ذكرى شهدائهم وموتاهم، ويتناوبون على السلطة (مداورةً)، بوجوهٍ وأقفيةٍ وأقنعةٍ، “تمتاز” بكونها توائم ومرايا غير متنافرة.
الوجودُ النوعيّ يحشرج وينقرض، أمّا الوجودُ الانحطاطيّ فينمو ويتألّق ويزدهر.
هل فهمتم عن أيّ موتٍ، وعن أيّ مسألةٍ أتحدّث؟
الموت، موت الأشخاص (وخصوصًا الأحباب والمتألّقين)، لا مفرّ من هذا الموت، أفي أوانه أم قبل الأوان. لكنّه يصبح غير قابلٍ للاحتمال عندما “يدقّ” بمبدأ الحياة والوجود، عن سابق تصوّرٍ وتصميم، وعلى أيدي المسؤولين عن حماية الحياة وصون الوجود.
هذه هي المفارقة الوطنيّة المفجعة التي تتجسّد – الآن – في أشدّ مظاهرها وقاحةً:
– الحياة الكريمة، الفرديّة والوطنيّة، تحت الدرجة صفر، وانحطاط الحكم “يتسلّق” الدرجة مئة من الانحطاط، ويعلو عليها.
– رئيسٌ للجمهوريّة يوجّه الدعوة إلى إجراء استشاراتٍ نيابيّةٍ ملزمة، بحسب الدستور، لاختيار رئيسٍ للحكومة، في “روتينٍ” شرعيٍّ وقانونيٍّ يعتبر هذه الخطوةَ كمثل سابقاتها في أزمنة الرخاء والغبطة.
– نوّابٌ (للأمّة) لا يتورّعون عن ازدراء الحداد الوطنيّ العامّ، وتحدّي الوجدان الجماعيّ الجريح، بتسمية رئيسٍ للحكومة، حيث تحتقر هذه التسمية توقَ المواطنين إلى اعتماد خياراتٍ إنقاذيّة من خارج الطبقة الحاكمة، تتولّى مهمّة انتشال لبنان واللبنانيّين من قعر القعر.
– رئيسٌ مكلّف لا يتردّد لحظةً في تلقّف التكليف، وكأنّه “أهلٌ” للمهمّة الانقاذيّة. وسيباشر هذا الهمّام الاستشارات التقليديّة، وقد يؤلّف على وجه السرعة، وقد يتأخّر في التأليف. وقد لا يؤلّف البتّة.
أكرّر: المسألة ليست هنا، بل في كون ما يجري ليس لوقف الانهيار، بل في كونه تسهيلًا دستوريًّا وشرعيًّا لـ”مهمّة” إصدار مراسيم قتل الوجود برمّته – أقصد الوجود اللبنانيّ – بأيدي المسؤولين اللبنانيّين.
قلت في البداية إنّي حاولتُ أنْ أهرب من جبّور ومن فارس، لكنّي أراني أختم مستلًّا من كتب الدويهي عبارةً (لكن شعورًا أعمق انتابنا ولو أننا لم نبح به بأن الدنيا تتغيًر وبأننا لن نتمكن من مقاومتها)، أدرجها لا كيقين، بل كعلامة استفهام احتماليّة: أهي الدنيا تتغيّر ولن نتمكن من مقاومتها؟
وسأجيب: هي تتغيّر، لكنّ مسؤوليّتنا مقاومتها، بل مسؤوليّتنا أنْ نتمكّن من مقاومتها. وأنْ ننجح. هذه مسؤوليّتنا.
المصدر: النهار