د- عبد الناصر سكرية
يمكننا القول بموضوعية تامة ان لبنان الدولة والكيان قد انتهى..لم ينته بفعل الزمن وإنما بفعل إرادة دولية بإنهائه..كثيرة هي الاسباب التي تؤدي إلى إنهيار الدول..وعلى رأسها ألأمراض الداخلية..فهل يعاني لبنان من أمراض خطيرة تؤدي إلى الوفاة ؟؟
كأي مجتمع آخر يعيش لبنان أزمات حياتية كثيرة..ومشكلات اجتماعية وتعددا طائفيا ومذهبيا..وأحزابا متنوعة المشارب..وشهد حروبا كثيرة ..بعضها كان أشد قسوة مما هو فيه اليوم…ومع ذلك لم يتوفى..بل إستعاد همته وعافيته – ولو جزئيا – فعادت اليه الحياة ..
لماذا يموت اليوم رغم أن ازماته الحاضرة ليست من النوع المستعصي على الحل ؟؟
بالعودة الى ما بعد انتهاء الحرب الأخيرة واتفاق الطائف الذي وضع دستورا جديدا ليكون غطاء لمرحلة جديدة من حياة لبنان تشهد إصلاحات تنزع فتائل إنفجارات مقبلة او حروب محتملة فيما لو لم يستقر وضع لبنان الداخلي..فقد كانت أخطر خطوة تم تنفيذها هي تسليم السلطة الى القوى السياسية والعسكرية ذاتها التي صنعت الحرب أو بالأحرى كانت أدواتها التنفيذية..ثم أضيف إليها مال سياسي غزيز ليكون تكريسا لها وتثبيتا لتسلطها على لبنان في السلم كما كانت في الحرب..ثم إضيف إليها لاحقا حزب الله ذراع إيران السياسية والعسكرية في لبنان ثم في المنطقة..
كيف تم هذا ومن الذي أضاف ومن الذي أعاد تسليم البلاد لاطراف السلطة الطائفية ؟؟
كان إتفاق الطائف برعاية عربية رسمية ظاهرة ورعاية أمريكية ضمنا..وقد أوكل الراعي الأمريكي إلى النظام السوري مهمة الإشراف على تطبيق الإتفاق الجديد الذي كان يفترض منه إنهاء الحرب وأدواتها وعواملها الداخلية..ولقد إستفاد النظام السوري من الغطاء الرسمي العربي الذي كان على علاقة طيبة به داعما له ..لا بل ان الغطاء العربي سهل للنظام السوري تمرير مشاريعه ومهماته في لبنان..وقد كان المال الرسمي العربي أحد اوجه الدعم والتغطية والتعمية على تسلط النظام السوري على لبنان..
وكان هذا الثلاثي : الأمريكي والرسمي الإقليمي والسوري كفيلا بتكريس سلطة المحاصصة الطائفية المذهبية وتغطية كل أنواع الموبقات والفساد التي إرتكبتها..كما لعدم تطبيق أهم بنود إتفاق الطائف الإصلاحية..ليس هذا فقط بل شكل غطاء لاحقا لإلحاق حزب الله وقوته العسكرية في تلك السلطة فصار شريكا اساسيا أعطيت له حصة واضحة في كل المؤسسات الرسمية وأولها السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية..
ومع إنسحاب الرعاية الرسمية الإقليمية ( العربية ) وإنشغال الدول العربية بمشكلاتها المحلية ؛ برزت الى الواجهة أكثر الرعاية الغربية للسلطة الطائفية ولحزب الله بعد ان ظهرت للعلن كتلة ما يسمى الثنائي الشيعي اي التحالف العضوي المصيري الإستراتيجي الذي يتغطى بلحاف العصبية المذهبية زائدا إليها المصالح السلطوية والعملانية .. ومع نجاح المهمات الموكولة إلى حزب الله في سورية ؛ تصاعدت اكثر الرعاية الغربية العامة لسطلة الثنائي الشيعي بشكل صار معه صاحب السلطة والقرار لدرجة أن نبيه بري أعلن بوضوح أنه يتابع مفاوضات غير معلنة مع دولة ” الإسرائيلي ” لترسيم الحدود ..بما يعني انها كانت بالتوافق مع شريكه الاستراتيجي اي حزب الله..
ترافق الاعلان عن تلك المفاوضات مع تسارع الانهيار الرسمي اللبناني وإنطلاق إنتفاضة ١٧ تشرين الشبابية .وهي التي قمعها وضربها الثنائي الشيعي صاحب النفوذ الاقوى في السلطة..
لم يصدر أي إعتراض او استنكار غربي للتعدي على المتظاهرين المدنيين..
ثم ظهرت فضيحة الودائع في البنوك التي أخفيت فجأة مما يشكل ضربة قاسية جدا لكل مصداقية النظام الرأسمالي الليبرالي الذي يرعى البنوك ويربطها بشبكاته وتقنياته بحيث لا تتم أية عملية بنكية إلا بعد المرور على المراكز المالية العالمية في نيويورك..ومع ذلك لم يتحرك ذاك النظام الربوي الرأسمالي أقله دفاعا عن سمعته ومصداقيته…وإستمرت الرعاية الغربية ( الأميركية أولا ثم الأوروبية ) لأطراف السلطة جميعا ..ثم تدهورت الاحوال المعيشية بشكل خطير جدا والنظام الدولي يتفرج..لا عفوا لا يتفرج بل يدفعه لمزيد من التدهور بمزيد من الإعتماد على أطراف السلطة المحلية المنفذة..
وبالإستناد إلى أدبيات النظام الدولي ومؤسساته المتنوعة هناك اسباب كثيرة تستوجب التدخل لوضع حد للفساد على الاقل ولتلاعب بالقوانين المصرفية التي وضعها النظام المصرفي الرأسمالي العالمي..ومع ذلك لم يحصل شيء من هذا..وعلى العكس من كل ذلك يتبنى الموقف الأمريكي الفعلي حماية أطراف السلطة المنحلة الفاسدة والتمسك بها لتمرير كل تحضيرات ميدانية مطلوبة للمرحلة التالية للانهيار وهي التفكك الإجتماعي التام وإنهاك الناس وتهجير أكبر عدد ممكن منهم خارج المنطقة تماما..وحينما يصل المجتمع الى هذه المرحلة من الانهاك والتفكك والخضوع لضراوة قهر المعيشة فإن البدائل المتصهينة أو المتحالفة معها سرا وعلنا ؛ جاهزة للانقضاض على البلاد برمتها..
إن إرتياح أطراف السلطة المسؤولة عن الخراب والانهيار وكأن الوضع لا يعنيهم ولا يمسهم ؛ لم يكن ليتم لولا الحماية الدولية التامة لهم جميعا..نعم جميعا واولهم الثنائي والعهد الثنائي أيضا..
وما يسمى ازمة تأليف الحكومة سوى صورة مبسطة عن تلك الرعاية..
والحقيقة ان لا سعد الحريري ولا الرئيس ولا الصهر ولا النبيه ولا ابو الحسن ولا السامري هم من يقررون ويبتون ويقبلون ويرفضون..إنهم جميعا مأجورون لنظام دولي – إقليمي أعلى وأكبر منهم جميعا..وليسوا أكثر من أدوات تنفيذية ..لا مجلس النواب يسمي ولا المشاورات ولا أحد منهم يملك سلطة القرار او البت والمنع..موظفون مأجورون ينفذون مهماتهم بنجاح فيبقون في مناصبهم…
وبالإنسياق مع ما يجري في بلاد الشام وعموم المنطقة العربية ؛ فإن المشروع الأمريكي – الصهيوني يتقدم بفعالية متجها نحو تقسيم وتقاسم البلاد كلها دون استثناء..ولن يكون لبنان الضعيف في منأى عن ذلك ..
ما يجري في العراق وسورية واليمن وفلسطين يشير بوضوح إلى وكالة غربية معطاة لإيران وأدواتها وميليشياتها المحلية للتمدد وألإمعان في إختراق المجتمع وتخريب بنيته السكانية التاريخية..المستهدفون أولا السنة وثانيا المسيحيون..نعم المسيحيون العرب في كل بلاد المشرق ودول الطوق المحيطة بفلسطين المحتلة..ولن تستطيع أية قوة أخرى تحقيق ذلك ؛ غير إيران الملالي بمشروعها الشعوبي المذهبي الطامع الحاقد على العرب والعروبة والاسلام العربي وألمسيحية العربية…
إن القوى الدولية التي تحمي النظام السوري رغم كل ما دمره في سورية وقتله من شعبها ؛ هي ذاتها التي تحمي سلطة المحاصصة الطائفية في لبنان رغم كل فضائحها وفسادها وخياناتها لكل شيء في لبنان ورغم الإستياء الشديد والغضب العارم الذي بات يجمع معظم اللبنانيين..
فما العمل وهل هناك حل ما ؟؟
١ – إن أقرب حل ممكن ومثمر يضع حدا للانهيار ويعيد دورة الحياة الى البداية مجددا ؛ هو تدخل الجيش اللبناني وتشكيل حكومة مدنية – عسكرية بإشرافه تعلن حالة الطوارىء وتبدأ عملها ببرنامج عملي مرحلي مستعينة باختصاصيين نزيهين وما أكثرهم في لبنان .. تنقذ ما تبقى من الوطن والمؤسسات وما تبقى من الشعب أيضا…فالشعب أيضا في طريقه إلى الإختفاء..
وما يبدو حتى الآن أن الولايات المتحدة هي التي تمنع الجيش من أي تحرك إيجابي فيما تقدم إلى واجهات النفوذ والفعالية قيادات أمنية أخرى وتضعها في خدمة الثنائي والثنائي… علما أنه – أي الجيش – من أكثر المتضررين من الإنهيار الحاصل فيما راح البعض يتساءل إلى أي مدى يستطيع عناصر وأفراد الجيش الصمود فيما رواتبهم راحت تلامس العدم..
٢ – ثورة شعبية : تستطيع أن تحقق وتمنع وتفرض لكن الواقع الراهن لا يشير الى إحتمالية إشتعالها بفعالية خصوصا مع تراجع دور الأحزاب ” الوطنية ” إلى ما يشبه التواطؤ أو إنعدام الوزن..
وللاسف فإن التكتلات الشبابية الكثيرة لم تستطع تجاوز ذاتياتها للإلتحام في جبهة وطنية مطلبية واحدة..خاصة في غياب شخصيات قيادية رمزية يمكن لها أن تجمع حولها – أو حول برنامجها – المنتفضين ..
٣ – تدخل عربي : يبدو إحتمالا غير قائم لإنشغال الجميع بمشاكلهم الخاصة..أما مصر الأخ العربي الأكبر فهي في حالة تماه تامة مع الرعاية الدولية لكل أمر..يبدو النظام الرسمي العربي وقد تخلى عن لبنان عموما وربما يكون قد تخلى عن ذاته أصلا..
٤ – الوضع الشعبي الداخلي :
الشيعة المتحررون من سطوة المشروع الإيراني محاصرون مستهدفون مهددون.
السنة مشتتون تتمحور حركة الفاعلين فيهم في إطار الخط المذهبي المرسوم لأطراف السلطة بقيادة ” المستقبل ” الذي لم يستطع التحول إلى حزب ولن يستطيع مكتفيا بتهييج ردات فعل مذهبية كريهة عقيمة وضالة..وجميع الأسماء التي مرت على رئاسة مجلس الوزراء هم ممن ينتمون للنفوذ الأجنبي ويأتمرون بأوامره وتوجيهاته…جميعهم شركاء في الفساد والتبعية وقهر الناس..
الدروز : يحاولون البقاء في منأى عن العاصفة فيما لا شيء يضمن لهم حماية سوى الخيار الوطني الموحد..
المسيحيون : من يمشي في ركاب العهد يتوهم أنه شريك فاعل في السلطة أو حاكم فعلي لها ..فيما الواقع غير ذلك..فالتيار يسكت أبرز فعالياته الحزبية والسياسية بالمنافع والمصالح والمكاسب الآنية دون أي مشروع وطني أو حتى مشروع متكامل لحماية الوجود المسيحي المهدد فعلا..المشكلة أنه يلجأ للحماية عند من يهدد وجوده فعليا ويتخذه ستارا لتمرير أهدافه الخبيثة المدمرة..
القوات اللبنانية وهي جزء أساسي في نظام المحاصصة الطائفي التابع للنفوذ الدولي والملتزم بأوامره ؛ لن تستطيع تأسيس رد وطني أو حتى يحمي المسيحيين..إن نهجها وخطابها الراهن من شأنه أن يكون متجاوبا مع الخطر الذي يهدد لبنان أو يمثل أصداء له تتناغم مع طروحاته لتشكل اليد الأخرى التي تصفق مقدمة لتوترات عسكرية محلية تدخل لبنان في أتون صراعات مسلحة لا تنتهي ..ربما على غرار ما يجري في العراق وسورية وربما اليمن..
أما والوضع كذلك فإننا نرى أن مخاطبة الفعالية الدينية المسيحية وعلى رأسها الفاتيكان لحماية لبنان كبيت للمسيحيين في الشرق العربي كله..ومن ثم لحماية الوجود المسيحي في لبنان منطلقا لحمايته في كل المنطقة ؛ هي الخيار شبه الوحيد الذي يمكن تفعيله لإنقاذ ما تبقى من حياة على أرض لبنان…
أرى أن تحركا نشطا لكل شرفاء لبنان مسلمين ومسيحيين لتفعيل تضامن مسيحي عالمي مع لبنان والمسيحيين فيه..ربما يكون مفيدا إذ لا خيارات أخرى..
فلم يعد الغرب مسيحيا..كما لم يعد الرسمي الإقليمي لا عربيا ولا مسلما..
فيما لبنان مهدد بالخضوع سنوات لمشروع إستلاب هوية وسيطرة بين طرفين يبدوان مختلفين ويضمران توافقا كبيرا :
مشروع صهيوني إستعماري يتغطى بالمشاعر الدينية اليهودية..
ومشروع فارسي إيراني شعوبي حاقد يتغطى بالمشاعر المذهبية ” الشيعية “..
وكلاهما يحظيان برعاية تامة أمريكية اوروبية ضد الأمة العربية ووجودها التاريخي الحضاري ودورها الإنساني التوحيدي الثقافي الجامع..
وما المنطقة العربية إلا سائرة في هذا المنحى رغما عن إرادة أبنائها الأحرار الذين يدفعون أثمانا باهظة حفاظا على هويتهم ووجودهم التاريخي وعلى حياتهم أيضا…مسلمين ومسيحيين معا..
فإذا لم تكن إنتفاضة شاملة عارمة فربما يكون الآتي أظلم..
المصدر: المدار نت