يزداد عمق الفجوة بين الأثرياء في مناطق سيطرة الحكومة السورية والذين باتوا قلة قليلة، والفقراء الذين أصبحوا يشكّلون الأغلبية العظمى من السكان مع اختفاء «الطبقة الوسطى»، في مشهد واضح لأي شخص يعيش في العاصمة دمشق أو زائر.
المتجول هذه الأيام في الكثير من الأحياء الدمشقية وشوارع وأسواقها، يلاحظ دون أي عناء لطخة «الاصفرار» على وجوه أغلبية المارة وهزالة أجسادهم، فيما البعض منهم بالكاد يقوى على السير رغم أنهم من ذوي الأعمار المتوسطة أو من فئة الشباب والشابات، وذلك بسبب تراجع وضعهم الصحي والذي من أبرز أسبابه نقص التغذية.
ويقول شاب في العقد الثالث من العمر ويعمل موظفاً في شركة خاصة، لـ«الشرق الأوسط» عن نقص متسارع في وزنه خلال قصيرة، ويقول، «من 3 – 4 أشهر نقص وزني نحو 12 كلم والسبب بصراحة هو قلة الأكل»، ويضيف: «لا نطبخ، لأن أقل طبخة تكلف 10 – 15 ألف ليرة، والساندويتش كله غالي. الفلافل بـ1500 والشاروما بـ3000. وساندويتشة البطاطة أو البيض بـ2500، والراتب كله 100 ألف، وإذا الواحد بدّو يشتري 3 ساندويتشات فلافل باليوم ويعيش على ذلك طوال الشهر الراتب ما بيكفي، ومعظم الناس مثلي تقضي اليوم على وجبة واحدة».
«والله الموت أفضل من هالعيشة»، عبارة بات يرددها الكثيرون من سكان دمشق عند حديثهم عن غلاء المعيشة وصعوبتها، وتقول لـ«الشرق الأوسط» عجوز في الخمسين من العمر، «كنا نُسكت الأولاد بخبز وشاي والكبار تصبر على الجوع، اليوم حتى رغيف الخبز صار على الناس بالويل وبالحسرة»، في إشارة إلى تخفيض الحكومة حصة العائلة اليومية من كمية الخبز ورفعها ثمن الربطة الواحدة (7 أرغفة) إلى 200 ليرة سورية بعدما كانت بـ100، وتجاوز ثمنها في السوق السوداء 1000 ووصوله أحياناً إلى 1300.
وتضيف العجوز: «الراتب 60 ألفاً. شو نعمل فيه؟ حق (ثمن) خبز دوبوا (بالكاد) يكفي، والكبار والصغار صاروا جلدة وعظمة، والوجوه صفرة صفرة ما فيها نقطة حمار، والكل صار يدوخ ويقع أحياناً. لا بنشرب حليب ولا بناكل بيض وبالمناسبات لمّا (عندما) يتحسن علينا البعض نشتري شوية (قليلاً) برغل أو رز وشوية خضره. يلعن أبو هالعيشة».
وتؤكد سيدة أخرى لـ«الشرق الأوسط»، أن العائلات التي تعيش في مناطق سيطرة الحكومة ولديها أولاد لاجئون في أوروبا كانت «مستورة بمائة أو مائتي دولار يرسلها أولادها لها في الشهر، ولكن اليوم في ظل هذا الغلاء، ولا حتى 400 دولار تكفي العائلة في الشهر»، وتلفت إلى أن «إيجار شقة متواضعة بأطراف العاصمة أصبح نصف مليون ليرة بالشهر، وإذا إيجانا (زارنا) ضيف بعيد وجبة الغداء بتكلف أكثر من 100 ألف، وعلى هذه الحال العائلة بدّها مليون ونص بالشهر».
وعلى حين يلجأ الناس إلى الشوارع والحدائق العامة للتخفيف عن أنفسهم من حدة موجة الحر العاتية التي تضرب البلاد منذ بداية فصل الصيف، في ظل استمرار انعدام التيار الكهربائي لتشغيل المراوح والمكيفات، تشاهد المطاعم والملاهي الليلية في الأحياء الراقية وسط العاصمة وهي ممتلئة بالزبائن ويصعب وجود طاولة فارغة، وذلك وسط إضاءة مكثفة تبهر الأبصار وتكييف مستمر باستخدام المولدات الكهربائية العاملة على البنزين أو المازوت.
عامل في أحد تلك المطاعم، يؤكد لـ«الشرق الأوسط»، أن هذا المشهد يتكرر «بشكل شبه يومي»، ويضيف: «فاتورة الطاولة تصل ما بين 400 و500 ألف ليرة وبعضها يتجاوز 700 ألف وربما يصل إلى مليون ويدفعون». ويوضح أن «كثيراً من الزبائن واضح أنهم لا يتعبون بالحصول على المصاري (المال) وأثروا من التعفيش والنهب والتشليح والسرقة خلال الحرب وراكموا ثروات كبيرة، وبعضهم من أغنياء البلاد القدامى».
وبينما يتخبط أغلبية الناس في دمشق بالجوع ويكافحون للحصول على لقمة العيش ويتمنون الحصول على كأس ماء بارد أو قطعة من الثلج الذي تشهد أماكن بيعه طوابير للحصول عليه بسبب انقطاع الكهرباء اللازمة لصناعته، تؤكد مصادر أهلية في المنطقة الساحلية غرب البلاد لـ«الشرق الأوسط»، أن الحجوزات في الفنادق والشاليهات هناك «مغلقة لمدة شهرين قادمين»، وهي «من قبل سوريين!»، رغم وصول أسعار الحجز إلى أرقام مرتفعة جداً لا تصدَّق، إذ يصل سعر حجز غرفة لليلة في فندق إلى «400 ألف (ليرة)، فما بالك بسعر حجز شاليه لمدة أسبوع أو عشرة أيام؟».
وقبل سنوات الحرب العشر، لم تكن غالبية السوريين من الأثرياء، لكن البلاد اتسمت بوجود «طبقة وسطى» واسعة، تتمتع بمستوى معيشة مريح نسبياً، ومع هذا، تسببت إجراءات تحرير الاقتصاد، التي بدأت في تسعينات القرن الماضي، في اتساع الفجوة بين الأثرياء والفقراء. وتراجعت الخدمات، وكذلك الدعم الذي تقدمه الدولة لأسعار المواد الأساسية، لا سيما أسعار الوقود، كما تقلصت أموال الدعم الموجهة للمزارعين، الذين شكّلوا في وقت مضى فئة موالية للنظام يمكن الوثوق بها، أو على الأقل أكثر فئات المجتمع هدوءاً.
وخلال سنوات الحرب راحت أعداد «الطبقة الوسطى» تتراجع تدريجياً وصولاً إلى انعدامها حالياً وانضمامها إلى طبقة الفقراء المعدمين مادياً بسبب الغلاء وتراجع مداخيل العائلات الشهرية، على حين ظهرت طبقة جديدة نسبتها قليلة جداً وأطلق عليها «أثرياء الحرب» ومعظم أفرادها من قادة الميليشيات المسلحة الموالية للنظام ومن المقربين منه، وقد راكم أفرادها ثروات كبيرة من التعفيش والنهب والتشليح والسرقة والفساد.
وذكر «مركز السياسات وبحوث العمليات» السوري الخاص في يونيو (حزيران) الماضي، في دراسة استقصائية حول الحياة اليومية للسكان في 3 أحياء من مدينة دمشق، أن 94% من عائلات المستجيبين للدراسة تعيش تحت خط الفقر الدولي الذي يقدر بـ1.9 دولار يومياً للفرد الواحد.
وتزداد مشكلة الجوع في مناطق سيطرة الحكومة مع تواصل فقدان مداخيل العائلات الشهرية جزءاً كبيراً من قيمتها بسبب الانهيار القياسي لسعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الذي يسجل حالياً أكثر من 3200 ليرة، بعدما كان بين 45 و50 ليرة في عام 2010.
وباتت أغلبية المواطنين في مناطق سيطرة الحكومة تعيش أوضاعاً معيشية مزرية للغاية بسبب الارتفاع الجنوني للأسعار، خصوصاً المواد الغذائية، حيث ارتفعت أكثر من 50 مرة، بينما لا يتعدى متوسط الراتب الشهري لموظفي القطاع العام 25 دولاراً، ولموظفي القطاع الخاص 50 دولاراً، بعدما كان راتب الموظف الحكومي قبل سنوات الحرب نحو 600 دولار.
المصدر: الشرق الأوسط