يوسف بدر
لم يكن هناك شيء مفاجئ؛ فالتحضير للانسحاب من أفغانستان بدأ بخطوات جادة منذ عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. كما قامت دول الجوار، إيران وروسيا والصين، بعقد اتصالات مبكرة مع حركة “طالبان”، قبل عملية الانسحاب في عهد جو بايدن، وذلك لأنها تدرك أن الانسحاب الأميركي لا يتعلق بإعلان أميركا هزيمتها على غرار انسحابها من فيتنام. بل الأمر يتعلق باستراتيجيتها الجديدة وهي “التوجه نحو آسيا” من أجل مجابهة القوى الاقتصادية الصاعدة هناك، وعلى رأسها الصين. إذاً الانسحاب الأميركي هو رغبة من واشنطن في إيقاف استنزافها، والاستفادة من “طالبان” والمكوّنات الداخلية لأفغانستان في استراتجيتها الجديدة نحو آسيا.
الحاجة إلى عرّاب
لم يتحدد مصير أفغانستان بعد، ومن غير الواضح، إلى أي مدى ستقبل “طالبان” بإدماج مكوّنات عرقية أخرى معها في السلطة، بخاصة أن هذه الحركة تنتمي إلى إثنية البشتون، ولا يمكنها التفرد بالسلطة وحدها، في ظل وجود إثنيات ليست بالقليلة العدد، منها الطاجيك والهزارة والأوزبك. إلا أن البشتون ستظل هي الأكبر، فضلاً عن ارتباطها المذهبي السنّي.
وأمام عدم استقرار الصورة في أفغانستان، وامتلاك “طالبان” اليد العليا على معظم أراضيها؛ سيدفع هذا القوى الآسيوية إلى البحث عن عراب يُمكن من خلاله الاقتراب أكثر من الداخل الأفغاني. وستكون الفرصة الأكبر لمصلحة باكستان، تليها إيران وقطر ودول آسيا الوسطى. هذه القوى ستحاول احتواء “طالبان” خشية من التوظيف الأميركي لها ضد مصالحها، أو للتصدي لإمكان أن تتحول أفغانستان خزاناً للجهاديين، يهدد أمن القوى الآسيوية؛ بخاصة أن دولة مثل الصين، يمثل تشكيل “إمارة إسلامية” على حدودها خطراً على أقاليمها المسلمة الذاتية الحكم.
والأمر كذلك بالنسبة الى روسيا القلقة من تصاعد الحركات الجهادية والانفصالية في جمهورياتها المسلمة، إلى جانب أن الاستقرار في منطقة آسيا الوسطى وإظهار دور “منظمة معاهدة الأمن الجماعي”، يفرض عليها البحث عن “عراب” لإدارة المشهد داخل أفغانستان، بما يحمي أمنها الجماعي.
وكذلك بالنسبة الى دولة مثل تركيا، فهي تطمح الى استمرار نفوذها داخل أفغانستان، لكسب ورقة لدى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، إلى جانب المصالح الاقتصادية والتجارية، وأهمية أفغانستان في محور التجارة الآسيوية ومشروع الصين “الحزام والطريق” الذي تقاتل تركيا من أجل أن تكون جزءاً منه.
لماذا باكستان؟
تقع باكستان على حدود أفغانستان الجنوبية، وهي مناطق انتشار حركة “طالبان” البشتونية السنية.
كان لباكستان الدور الأول في تأسيس الحركة لأهداف تتعلق بمكافحة المد الشيوعي خشية على نظامها الإسلامي – القومي، ومن أجل تأسيس نظام إسلامي يحمي توازنها الإقليمي أمام الهند، ويحمي معابر تجارتها نحو آسيا الوسطى.
ولهذه الأسباب استمر دعمها العسكري والاستخباري لحركة “طالبان” طوال وجود القوات الأميركية؛ حتى أن الحكومة الأفغانية كانت تسميها بـ”الجار السيئ”. لدرجة أن الرئيس ترامب، اتهم باكستان بالكذب وخداع الولايات المتحدة، وعلّق المساعدات الأميركية لها. وبسبب سياستها، كان هناك تفضيل للهند على باكستان لدى حكومة كابول.
وطوال الأشهر الماضية، كان مقاتلو حركة “طالبان” يتدربون داخل باكستان من أجل يوم الزحف الكبير على المدن الأفغانية، وكانت المستشفيات الباكستانية تعالج جرحى “طالبان”، لدرجة أن رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، كان بمثابة المتحدث باسم “طالبان”، وقال يوم الخميس 12 آب (أغسطس) إن “طالبان” لن تعود للتفاوض ما دام الرئيس الأفغاني أشرف غني في السلطة. وهو ما يدل على أن إسلام أباد لديها سيناريوات مسبقة لكيفية إدارة أفغانستان بعد انتصار “طالبان”.
لدى باكستان رغبة في نجاح “طالبان” في الحكم؛ لأن هذا يقوّي توازنها ويمنحها عمقاً استراتيجياً أمام الهند، ويعزز من آمالها في العودة إلى أفغانستان والاستفادة منها في العبور نحو آسيا الوسطى، بخاصة أنها ما زالت تأمل تنفيذ خط غاز تركمانستان – أفغانستان – باكستان، وخروج الهند من هذا المشروع. إلى جانب طموحاتها في إنشاء كتلة اقتصادية مشتركة بين مثلث “أفغانستان باكستان الصين”، فضلاً عن العمل في مجال التعدين، الذي يمثل كنز أفغانستان الخفي.
ولهذا تشجع إسلام أباد “طالبان” على الظهور بصورة يقبلها المجتمع الدولي. وكذلك يقوم وزير خارجيتها شاه محمود قريشي بجولات إقليمية لكسب التأييد والاعتراف بحركة “طالبان”، مع إظهار أن قرار الاعتراف بنظام “طالبان” في أفغانستان يجب أن يكون قراراً إقليمياً؛ لكن إسلام أباد تدرك أن لا أحد من دول الجوار وآسيا، يريد أن تنجرف أفغانستان إلى حرب أهلية، وسبيلها لذلك الاعتراف بـ”طالبان”.
كذلك، تمثل باكستان السنية جبهة توازن أمام نفوذ إيران الشيعية؛ خشية من تكرار نموذج العراق بعد الانسحاب الأميركي؛ وتحول العراق ساحة فارغة لميليشيات إيران. وبسبب هذا، ستتعزّز أهمية باكستان لدى القوى الخليجية التي تخشى على مصالحها من النفوذ الإيراني في أفغانستان.
خط ديورند
ويمثل خط ديورند المخاوف بالنسبة الى باكستان؛ فهو خط حدودي يبلغ طوله 1,400 ميل. كان الغرض الأساسي منه هو إيجاد خط دفاعي أمام روسيا التي كانت أفغانستان تمثّل منطقة عازلة بينها وبين التاج البريطاني.
ويقسم هذا الخط منطقة قبائل البشتون بين أفغانستان وباكستان؛ لكن على الرغم من أن هذا الخط مُعترف به دولياً؛ إلا أن حكومات أفغانستان حاولت إنكاره، فضلاً عن أن قبائل البشتون لا تعترف بوجوده أساساً؛ وهذا ما ساعدها على سهولة الانتقال بين أفغانستان وباكستان، وساعد “طالبان” التي تنتمي إلى هذه القبائل، على إيجاد الملاذ والدعم داخل باكستان طوال العقدين الماضيين.
ولدى باكستان مخاوف من تكرار تجربة انفصال بنغلادش عنها، بانفصال منطقة بشتونستان؛ وفي حالة وقوع هذا؛ سيفتح الباب أمام انفصالات أخرى، منها منطقة بلوشستان الواقعة في مثلث “إيران – باكستان – أفغانستان”. ولهذا السبب تصرّ باكستان على النفوذ داخل أفغانستان والمشاركة في صنع قرارها، وإيجاد حكومة في كابول موالية لها؛ تضمن بها عدم انفصال منطقة بشتونستان، بخاصة أن منطقة القبائل تتمتع بحكم شبه ذاتي.
المحصّلة
– إن باكستان حافظت على بقاء الروح في جسد “طالبان” منذ سقوطها عام 2001 بهدف عودتها إلى الحكم بعد الانسحاب الأميركي.
– إن القوى الإقليمية تسعى الى استقرار أفغانستان لمصلحة الأمن الجماعي، ولإفشال المساعي الأميركية للإضرار بها، وهو ما سيعزز من مكانة باكستان لدى هذه القوى، بخاصة أنها تتمع بعلاقة قوية مع “طالبان”.
– إن باكستان – على غرار تجربة تركيا مع كردستان العراق – ستظل تدعم “طالبان” من أجل الوصول الى حكومة موالية في كابول، خشية من انفصال منطقة القبائل البشتونية.
المصدر: النهار العربي