محمود الوهب
(1)
قد يكون عنوان هذه المقالة مبالغاً فيه لأول وهلة أو يدخل في إطار اللامعقول إذ لا يتوافق مع ما يُرى أحياناً على أرض الواقع، وما تقوم به إسرائيل من عدوان على أتباع إيران في سورية ولبنان، وما يقوم به أولئك الأتباع من هجمات ضد مواقع أمريكية في العراق تحديداً، كما لا يتسق مع ما تعلنه إيران منذ أربعين سنة، وإلى الآن، من شعارات.. أي منذ أن سلَّم الإمام الخميني مفاتيح السفارة الإسرائيلية، في طهران، إلى المرحوم ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، والحقيقة أن ذلك التسليم وتلك الشعارات كانت بمثابة عربون دخول إلى البلدان العربية، وخاصة تلك المجاورة لإسرائيل، وتحت شعار المقاومة، وقد استقبل العرب والفلسطينيون الشعار بترحاب كبير بعد المأساة الفلسطينية وخسارة العرب حربين كُبْرَيَين قبل عدة سنوات، وكانت حالة الجماهير الشعبية تواقة إلى سند، وإلى من يبعث في نفوس أبنائها الأمل وهكذا أخذ السياسيون يكيلون المديح للجمهورية الإسلامية الإيرانية الناشئة، حتى إن خالد بكداش أمين عام الحزب الشيوعي السوري استشهد في أحد خطاباته، آنذاك، بالآية القرآنية الخامسة من سورة القصص: “ونريد أن نمنَّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين” لكنَّ رد الخميني جاء إعداماً لآلاف اليساريين من حزب تودة الشيوعي ومن منظمة مجاهدي خلق! وكان حافظ الأسد قد تلقف تلك الثورة، فأخذ يمكِّن للإيرانيين في سورية، وزاد من التعاطي معهم متوهماً بأنه سوف يستعيد الجزر العربية الثلاث التي كانت إيران قد اغتصبتها زمن شاه إيران (موالاة الشيطان الأكبر) بحسب الإمام الخميني بديل المهدي المنتظر الذي تبين أنه فارسي أكثر منه خليفة لله..
(2)
بُعَيْد الصحوة التي نبهت إليها ثورات الربيع العربي نازعة عن الاستبداد غطاء شعاراته المشحونة إعلامياً أخذ كاتب المقالة يوازن بين إيران وإسرائيل وأيهما أخطر على دول المنطقة، في محاولة للرد على من يقول بأن إيران لن تترك سورية وحدها، ما يعني أنها ستقف مع نظامها ضد الشعب السوري المنتفض، وهذا لا يعني تجاهل عدوانية إسرائيل المستمرة منذ وعد بلفور وإلى اليوم.. وفي هذا السياق نشر، قبل سنوات، دراسة مطولة تناولت المشتركات بين إيران وإسرائيل في نظرتهما إلى شعوب دول المنطقة، وكيفية التعاطي معها بدءاً من بنية دولتيهما العنصريتين المتسترتين برداء ديني إلى كراهيتهما للعرب والمسلمين السنة بالتحديد، وتعالي أدباء الاثنتين عليهما، وبالتالي، سعي قادتهما إلى التمدد في المنطقة المليئة بالثروات، ولا من يحميها أو يستثمرها، وادعائهما بحق تاريخي سابق ديني أو قومي.. وكل ذلك بالنسبة لإيران تحت شعار المقاومة..
(3)
لم تمض سنوات حتى انكشف ستار التضليل عن وقائع أكدت وجهة النظر القائلة لا بخطورة إيران فحسب بل بأن كل فعلها يصبُّ، في النتيجة، في خدمة إسرائيل.. أما كذبة المقاومة، فقد انفضحت منذ أن فتح جيش الأسد نيرانه على شعبه، وهو الجيش الذي يلتهم ثلاثة أرباع موازنة الدولة السورية وشعبها، إذ يستعد الجيش لمواجهة إسرائيل.. لكن ذلك الجيش “الباسل” لم يمهل أبناء الشعب السوري الذين قدموا له الورد رافعين شعار “جيش وشعب واحد” أياماً. وكان ذلك الجيش قد صبر سنين طويلة على عدوان إسرائيل المتكرر متوعداً إياه في الوقت والمكان المناسبين.. أما “سيد المقاومة” فقد كان تصريحه غاية في البلاغة لدى اعتذاره عما كان قد فعله لدى اختطافه جنديين إسرائيليين متسبباً بحرب ظالمة دفعت إسرائيل لتدمير جنوب لبنان ومكنت له مقاوماً! (“لو كنا نعرف ذلك ما أسرنا الجنديين).
(4)
تتدخل إيران اليوم في أربعة بلدان عربية على نحو صريح ومكشوف، تدخلاً سياسياً عبر أحزاب وأزلام لها وعسكرياً عبر ميلشيات على نحو يخالف أبسط قواعد العلاقات الدولية.. ولا شك في أن تلك التنظيمات تتجاوز القوانين والأعراف شراء للذمم، واغتيالاً لشخصيات وطنية بأمر إيراني مباشر وبأيدي عملاء طائفيين باتوا يشكلون أكثر من طابور خامس ما ينفي عنهم صفة الولاء لأوطانهم.. والعراق مثال حيٌّ واضح، وتؤكد تصريحات بعض قادة إيران مطامح دولة الملالي باستعادة إمبراطورية فارس: “العراق ليس جزءاً من نفوذنا الثقافي فحسب، بل من هويتنا.. وهو عاصمتنا اليوم”. (تصريح سابق لعلي يونسي مستشار الرئيس حسن روحاني عام 2015). لكن العراق قد غدا مع التدخل الإيراني خراباً كلياً.. ومثله بقية البلدان النافذة فيها: سورية، لبنان، اليمن، (ربما للتمكن من إعادة بنائها إيرانياً) فالبنية التحتية من ماء وكهرباء وطرقات تكاد تكون معدومة.. إضافة إلى تردي الحالتين الصحية والتعليمية إلى أدنى مستويات لهما.. أما الوضع الاقتصادي وانخفاض سعر عملات هؤلاء فقد صارت في الحضيض، وتنعكس على الأوضاع المعيشية والاجتماعية التي غدت مزرية، فملايين السوريين والعراقيين واللبنانيين قد هجروا بلادهم، وما تبقى يعيش تحت خط الفقر، ويقتات على المعونات الدولية ومن بعض ما يرسله إليهم المهاجرون سابقاً ولاحقاً.. ولا يرف جفن لحكامهم عملاء إيران.. وللعلم بأن الإيرانيين لا يدفعون شيئاً من خزينتهم، وإن دفعوا فإنهم يأخذونه أضعافاً، وأقرب مثال هو قطع التيار الكهربائي عن العراق بسبب ادعاء الإيرانيين بديون مستحقة على العراق تقدر بأربعة مليارات ونصف المليار دولار..
(5)
أما إذا تجاوزنا النواحي المادية والمعيشية، وحتى الاجتماعية المتعلقة بفتاوى غريبة عن عادات مجتمعات المنطقة وتقاليدها وعن بعض الشرائع الإسلامية فإن النفوذ الإيراني استطاع العودة بهذه المجتمعات إلى ما قبل الدولة الوطنية أي إلى بدائية تجاوزها تاريخ التطور البشري فجعلها تقوم على بنى طائفية أو قبلية مع تمزيق بنية النسيج السكاني التي كانت أكثر تماسكاً رغم تعطشها الشديد إلى الحرية لاستكمال مواطنية الفرد في تلك البنية.. وما وقوف إيران في وجه الربيع العربي في سورية إلا لتمنع قيام دولة مدنية ديمقراطية تفسح في المجال لبلدان المنطقة ليكون لها شيئاً من هيبة الدولة، وتكون، في الوقت نفسه، نموذجاً لدول يتحكم شعبها بمقدراتها فيسقط الاستبداد العسكري بأشكاله كافة العسكري والقبلي والطائفي ويقتلع جذور تخلفه وأسباب هزائمه..
إن الممعن في الواقع يجد الخطر الإيراني أكبر وأعمق مما ذكر ولعلَّ ذلك كان حجة بعض العرب في التهافت على دول كبرى يتوسلون الحماية منها، وعلى إسرائيل تطبيعاً وإقامة علاقات تشمل السياسة والاقتصاد والثقافة، دون الاهتمام بدولهم وشعوبهم وثرواتهم أسباب قوتهم الرئيسة.. ولا شك في أن ذلك خطأ فاحش، وهو نوع من الهروب إلى الأمام، وبالفعل فقد ازداد التمدد الإيراني نفوذاً على غير صعيد.. وكان يمكن للعرب أن يقيموا علاقات ندية وفق ما تقول به الأعراف الدولية، لكن تلك العلاقات تحتاج إلى دول متكافئة في قوتها وهو غير متوفر لدى الدول العربية بل هو مهدور فما يملكونه من ثروات وغيرها من إمكانيات متعددة تؤهلهم لمثل تلك الندية. لكن سواد قلوب بعضهم تجاه بعض، وتجاه شعوبهم المكبلة عن حركة العمل المبدع! صحيح أن بعضهم غارق في الترف حتى أذنيه، لكن أغلبيتهم متعطشة إلى شيء أسمى وأرقى.. إنه التعطش إلى الحرية مفتاح كل نهضة، وألف باء أيِّ بناء سوي، وإعمار يدوم، الحرية ودولة المواطنة ولا شيء آخر.. ويكفي بلدان هذه المنطقة أن تنزف الدم والخراب وهدر الجهد وضياع الطاقات..
(6)
أخيراً يمكن القول إن أي تتبع لأحداث ما جرى في السنوات العشر الماضية أن يرى رضا الإسرائيليين إن لم أقل فرحهم وبهجتهم مما حدث من تدمير لمقدرات الشعوب المحيطة بهم.. وهم الذين كانوا يخشون صحوة شعوب هذه البلاد وامتلاكهم مقدرات بلادهم وتفتح عقولهم.. وما هو جدير ذكره في هذا السياق الإشارة إلى تصريح رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق جورج بوش الابن الذي أجاب وزير خارجيته متأففاً من مطالب نتنياهو التي لا تنتهي يقول:
“”وما الذي يريده الإسرائيليون بعد أن دمرنا له العراق..” اليوم وفي مقابل عبارة بوش يمكن للمرشد الأعلى الإيراني “علي خامنئي” أن يتساءل أو يقول: وما الذي تريده إسرائيل أكثر من أننا دمرنا لها سورية ولبنان ونستمر في تدمير العراق وتفتيته؟!