تمر علينا هذه الأيام الذكرى الثامنة عشر لرحيل المفكر السوري الدكتور جمال الأتاسي، وهو القائد السياسي والمفكر العروبي الذي ترك إرثًا وطنيًا، وفكرًا مستنيرًا لا يمكن تخطيه، بل لا يجوز لأي باحث يحاول قراءة المشهد السياسي والفكري والثقافي للشعب السوري، وهو يعيش مراحل ثورته المتعددة، دون التوقف طويلاً أمام محطات ومفاصل أساسية، كان لها الأثر في مسيرة الوطنية السورية، كما كان لها الأثر أيضًا في مساحات كبيرة من فكر عروبي قومي، يتطلع للمستقبل، بلا شوفينية، وعبر نظرة نقدية، كانت على الدوام بستان الفكر الاستراتيجي الذي مشى فيه جمال الأتاسي، وهو صاحب نظرية (النقد المزدوج طريق للاستيعاب). في هذه اللحظات المفصلية من حياة سورية والأمة يجدر بنا أن نقف مع محطات وانبثاقات فكرية سياسية ذات طابع قومي عروبي مستنير. كانت قد أثرت في حياة جمال الأتاسي، بما عكسته على حياته وحياة أمته من إرهاصات لحالات انتفاضية وثورية آثر التركيز عليها. نختارها اليوم استذكاراً ودرساً واستلهامًا سياسيًا وفكريًا، عساها تفيد مستقبلات هذا الوطن السوري الجريح، وهذه الأمة الغارقة في حالات تشظٍ اقليمي ومحلي، وما قبل قومي، لم يعرف الواقع العربي مثيلاً لها. لقد كانت حياة جمال الأتاسي برمتها دروساً للعمل الوطني والقومي، فمن الثورة الجزائرية إلى الثورة الفلسطينية، إلى معركة الوحدة العربية، إلى رؤياه في مسألة التسوية مع الكيان الصهيوني. إلى الحصار الكبير الذي جرى للعراق. ومن ثم احتلاله، إلى غير ذلك من منعكسات مازالت لا تبرح واقعنا الوطني والعربي والاقليمي، تاركة آثاراً سلبية في جميع منحنيات الحراك القومي العربي، وحيث يمكننا اليوم وبعد غيابه بثمانية عشرة سنة، أن نقف أمام محطات ذات طابع مفصلي في حياتنا جميعاً، ويمكن تحديدها بما يلي:
العلاقة مع الثورة الجزائرية:
اهتم جمال الأتاسي بالحالة الثورية الجزائرية منذ انطلاقها ضد الاستعمار الفرنسي، وحتى مرحلة متأخرة من انتصارها وتحقيقها للحلم الوطني الجزائري، والحلم العربي المتحرر من رجس الاستعمار الغربي بكل أشكاله. ولقد كان للدكتور الأتاسي دراسات ودروس ووقفات أمام هذه الثورة مضافاً إلى ذلك شعوره بالاندماج فيها على اعتبارها ثورة وطنية تحررية لم تأت خارج السياق التحرري العربي الذي تفتحت مدارك الدكتور وجيله على بواعث ثورته القومية.
يتحدث الأتاسي وهو يتأمل في كتاب / فرانز فانون / قائلاً ” لقد نشبت هذه الثورة في قطر عربي متخلف ومستعمر، فقامت تطالب باستقلال وطن وبحق شعب في أن يقرر مصيره، ووراء هذا المطلب المباشر سارت حركة ثورة جذرية أخذت تبدل مجتمعاً بأكمله وتغير حياة الناس وأفكارهم وعاداتهم، بدأت ثورة وطنية بسيطة وكأنها ثورة تجريبية تفتش عن طريق النجاح. وبدأت ثورة محاصرة يطبق عليها عدوها من كل جانب ويعمل في داخل المجتمع الجزائري تهديماً وتخريباً. فكان لابد لها من أن تعتمد على نفسها، ومن أن تواجه وحدها مصيرها، ولكنها بدأت ثورة جذرية منذ أن عرفت طريقها إلى قلب الشعب فرسخت قواعدها في صميم مجتمعها، وارتفعت إلى أعلى مستوى يمكن أن ترتفع إليه ثورة وطنية واجتماعية وسياسية حديثة”.
وفي سياق بحثه الذي ينقب في كتاب (فرانز فانون) عن الثورة الجزائرية أشار جمال الأتاسي إلى أن ” فانون رافق ثورة الجزائر منذ بدايتها، وآمن بأنها ثورة جذرية، وأنها ثورة إنسانية أصيلة لن تنحصر في أرضها وشعبها، بل سيكون لها انعكاساتها على افريقيا كلها، وعلى الشعوب المستعمرة والمتخلفة جميعها. وآمن (فانون) بأن الثورة هي الطريق الوحيد إلى تحرير الإنسان وأن العمل الثوري الدائم هو السبيل إلى أن يتجاوز الإنسان وضعه وإلى أن ينتقل من العبودية والضياع إلى الوجود الحر الكريم.
في (دروس من الثورة الجزائرية) يتحدث الأتاسي عن الأسس التي بدأت بها الثورة الجزائرية منذ انطلاقتها وهي التي أكدت عبر مجلة (المجاهد) في حينها ” أن العنف الثوري هو مخاض التاريخ ” ويتابع الأتاسي قائلاً: ” إن العنف ليس هدفاً للثورة، بل هو أسلوب البداية، إنه هو الذي يحسم، ويفصل ليأتي النصر الذي يوحد وينشئ، وليقوم مجتمع جديد على الثورة.” ويرى الأتاسي أن الثورة الجزائرية ” بدأت ثورة وطنية تطالب باستقلال (التراب الجزائري) ووحدته، وبحرية شعب الجزائر في أن يقرر المصير الذي يريده لنفسه. وراء هذا المطلب المباشر، سارت حركة جذرية أخذت تبدل مجتمعاً بأكمله “
وينظر جمال الأتاسي للثورة الجزائرية من منظور عروبي وإنساني في نفس الآن، لكنه وجه النقد للعرب الذين لم يستطيعوا النفاذ إلى دواخل الثورة ومضمونها الإنساني التحرري. فقال: ” نحن عرب المشرق، وإن كنا قد أيدنا تأييداً مطلقاً هذه الثورة، لم نستطع أن ننفذ إلى أعماقها، ولا أن نرتفع إلى مستواها، إننا لو فهمنا حقيقة هذه الثورة، لكنا استجبنا لما تحركه الثورة العميقة في النفس، ولكنا بدلنا ما في حياتنا وما في أنفسنا، فالوعي الثوري ليس معرفة يكتسبها الإنسان بالاطلاع، بل هو عملية تبديل للإنسان “.
كتب الدكتور الأتاسي في 21/1/1962 أي قبل انتصار الثورة الجزائرية يقول: ” ان انتصار الثورة في الجزائر آت قريباً ولا ريب، ويبقى علينا نحن عرب المشرق أن ننهض إلى مستوى هذه الثورة، إلى مستوى وعي تجربتها والالتقاء معها “.
الديمقراطية بند أول للمشروع الوطني والقومي:
الديمقراطية في حياة الراحل جمال الأتاسي كانت بنداً أساسياً لا حياد عنه في صياغته الفكرية السياسية للمشروع القومي العربي النهضوي، وكذلك للمشروع الوطني، وهو من حاول ادماج المسألة الديمقراطية بهذا المشروع القومي، وكان دائماً وعلى طول المدى يصر على أولوية الديمقراطية، وهكذا كانت نظرته العروبية التي حمل لواءها على مدى عمره الوطني والسياسي.. لكنه هو من حدد رؤيته في عملية تزييف الديمقراطية، وهكذا كانت نظرته وقراءته لميثاق عبد الناصر الوطني. فقد أكد أن ” الثورة الناصرية والميثاق الوطني لعبد الناصر، حملا نقداً مزدوجاً، لذلك التزييف للديمقراطية الليبرالية والبرلمانية، التي مكنت لدكتاتورية تحالف الإقطاع ورأس المال، وأيضاً لذلك التزييف للديمقراطية الاشتراكية الذي مكن للأنظمة الشمولية ودكتاتورية الفرد والحزب ولرأسمالية الدولة، ولكن رفض الأحزاب التي قامت في ظل تكريس سيطرة تحالف الإقطاع ورأس المال التابع، ورفض دكتاتورية الحزب والطبقة ، كرسا نوعاً من الرفض لمبدأ الحزب السياسي وتنظيم العمل السياسي الشعبي في أطر أحزاب سياسية في الوعي العام للكثير من المجموعات والجماهير ، أو للالتفاف من حولها في صيغ غير مجدية”.
يعتبر الدكتور جمال الأتاسي ” أن التأخر والتقصير الديمقراطي في حركة تكوين مجتمعاتنا الوطنية وأنظمة الحكم التي قامت عليها، والقوى السياسية وأدوات العمل السياسي في نضالنا الوطني والقومي، كانت من عوامل إضعاف تماسك البنيان العام لحركة نهوضنا القومي، وكانت الثغرة التي نفذت منها الكثير من النكسات كما نفذت قوى الرجعية والردة وتسلطت وسيطرت نظم التسلط وقوى النهب والاستغلال والفساد، وهذا ما أوجب ومازال يوجب على الطلائع القومية التي تتقدم اليوم لساحة العمل السياسي والتنظيم ، إجراء مراجعة عامة على كل مساراتها السابقة فيما يتعلق بالديمقراطية وتكوينها الديمقراطي “.
الأتاسي يعتبر أن المبدأ السادس من مبادئ ثورة / 23/ تموز / 1952 الذي قال بالديمقراطية السليمة، هذا المبدأ بات أولوية اليوم ” الديمقراطية تأتي اليوم بالضرورة، وبعد المعاناة الطويلة، لتحتل الموقع الأول ولتكون المبدأ الأول من مبادئ نهجنا الوطني ومشروع نهوضنا القومي “.
رؤيته للقضية الفلسطينية والجولان والتسوية:
القضية الفلسطينية كانت وعلى الدوام دينونة فكر جمال الأتاسي، ومحور تفكيره السياسي، والجرح الغائر في ملكوت عقلانيته السياسية. كما كانت قضية احتلال الجولان الذي فرط به حافظ الأسد، محور اهتمامه الذي دأب على أن يستمر في منظوره الوطني، كي تستعيد سورية حقوقها الوطنية كاملة في السيادة على أرضها وجولانها ومياهها وكذلك تحقيق أمنها. ولقد أدرك الأتاسي ومنذ البداية أنه ” ما كان احتلال الجولان ولا احتلال جنوب لبنان إلا بسبب القضية الفلسطينية والالتزام القومي بها، وأن هذه القضية ستبقى قائمة وملزمة، ولن تأتي عليها اتفاقية سورية أو لبنانية، ولا فلسطينية أيضاً “.
كما أدرك الأتاسي أن هناك ” كلام كثير من السلام، والسلام مطلب الشعوب وقضيتنا الكبرى، ولكن هذا الذي يجري مازال بعيداً جداً عن أن يكون طريقاً إلى السلام، لا ذلك الشامل ولا العادل، فنحن أمام مسارات تسوية وتسويات، وبهذه المعايير نتعامل معها “. بهذه الرؤيا كان وعي الدكتور جمال لمسألة التسوية مع الكيان الصهيوني، وضمن هذه الاستراتيجيا كان مؤداه السياسي وتحالفاته السياسية، التي لم يقبل معها أي مساومة مهما علا أو كبر ثمنها.
كان جمال الأتاسي في فتراته الأخيرة يحاول الاستناد والاتكاء على رأي جمعي جماعي في هذه القضية، فهو من يؤكد أن التجمع الوطني الديمقراطي الذي يرأسه قد سجل في مشروعه البرنامجي تساؤلًا مهماً بهذا الصدد مفاده : هل إن علينا نحن العرب، أن نرفض السلام أو أن نكون ضد أية تسوية سياسية للصراع القائم، وأن لا تكون لدينا برامجنا لتسوية سياسية تنسجم ورؤيتنا التاريخية لهذا الصراع، وجوابنا كان – يردف قائلاً – ( لا ) قاطعة، ففي منطق الأمور هناك تسوية سياسية، وتسوية سياسية .هناك تسوية سياسية تكون فشلاً جزئياً لإسرائيل، إثباتاً لعجزها عن التوسع حتى بعد نصر عسكري هائل، وتحصرها وتحصر زخم نموها السكاني بالهجرة، (يمكن التعامل معها) وهناك تسوية سياسية بالعكس، توسع اسرائيل إقليمياً وترفعها معنوياً وتفتح لها أبواب التوسع الاقتصادي، وتذل العرب، وتدفع بهم إلى حضيض التمزق والاستسلام (ونحن بالقطع ضدها)، ونخشى أن يكون هذا الذي يراد بنا.”
لكن الأتاسي كان واضحاً وشفافاً في ذلك حين قال ” لابد من أن تكون مسارات الأمور واضحة أمامنا، فلا تجري في الظلام، فنحن لسنا مع المنطق الذي قال به السفير/ أنديك/ والوزيرة / أولبرايت/ تحت شعار استنبات الفطر في الظلام، ليقدم لنا قطافه ناجزاً إلا أن ذلك الفطر النابت في الظلام منه ما يكون ساماً، وكم من سموم وألغاز زرعت ومازالت الولايات المتحدة تزرع على طريق أمتنا وفي حياة نظمها. نقول هذا لكي لا نؤخذ بما يبدي الرئيس كلينتون من تلهف وما يبذله من أقوال ووعود، أو ما سماه وسيطنا (باتريك سيل) بـ (الرعاية العطوفة) أو نراهن على طموحاته في أن لا يخرج من البيت الأبيض، إلا وقد دخل التاريخ كصانع للسلام “.
لقد أدرك الدكتور جمال مبكراً أن ” ما يدبره الأمريكي مع اسرائيل لن يكون بأية حال سلاماً لنا وسلامة لأمتنا ومستقبلها، وليس لنا ونحن ننخرط في مسيرة التسويات أن نغض الطرف عما تفعله الإدارة الأمريكية في العراق وما تكيد له في السودان أو من تدخلاتها، وما قادت له وأوقعته بأمتنا “.
أما الخطر الأمريكي الاسرائيلي على منطقتنا فواضح وضوح الشمس لدى الدكتور الأتاسي ، وبالتالي فقد نبه إلى أن ” الحلف الأمريكي الإسرائيلي يريد أن يمسك بالمنطقة ومصائر أوطانها وشعوبها من حيث وصلت إلى ما وصلت إليه مسيرة التراجع والتفكك العربي، وما بلغته من انحسار وضياع حركة الشعوب تحت وطأة نظم القطرية والتسلط، لتستلب إرادة الأمة، بل ليستلب وعي شعوبها بما يُكاد لها ويدبر وتستلب ذاكرتها، لتقوى اسرائيل وبرعاية أمريكية على أن تملي عليها شروطها وتطبيعها وتسوياتها، ولقد كان لهذه الأمة مشروعها في المواجهة واتخاذ مواقفها الموحدة والنهوض بإمكاناتها وقواها. ومقاومة الشعوب وما تتطلع إليه حركة الشعوب. كانت تدفع على هذا الطريق بإرادة وتصميم، وهي اليوم وبعد كل ما أصابها من نكسات، مازالت ومن مواقعها المتفرقة تدفع، حيث لا بديل أمامها حيال ما يجري وما آلت إليه الأمور إلى التطلع لتماسك عربي جديد وتضامن، يوقف حركة التراجع والسقوط ويعترض مسيرة الانفراد والتفريط والاستسلام”.
في المسألة العراقية:
العراق.. أرض السواد كان هماً كبيراً يحمله الدكتور جمال الأتاسي، وهو الذي هب يوماً للمشاركة في ثورة رشيد عالي الكيلاني، التي رأى فيها ثورة قومية عربية في مواجهة قوى الاستعمار البريطاني، ولم تتغير رؤيته حول العراق وصولاً إلى العدوانات المستمرة التي وقعت على العراق من قبل الأمريكان ومن معهم.
في الوضع العراقي رأى الدكتور الأتاسي أن سطوة القوة الأمريكية وغطرسة القوة هي العليا، في تحدٍ لا سابقة له لكل العالم، والتجاوز عن كل ما يسمى بشرعية ومشروعية قوانين دولية، لتصبح هي القانون الحاكم الناهي”. وعلى ذات المعطى يفسر كل ” ما أخضع له العراق من عقوبات وما قدم ويقدم من تنازلات، وكل ما أصابه من تدمير متلاحق لكل بناه الفوقية والتحتية. وكل ما أصاب شعبه من تقتيل وإفقار وإمراض أخذ مجراه كنمط من أنماط الإبادة الجماعية لشعب عربي كبير، وعلى هذا الطريق تستمر العقوبات ويستمر هذا الحصار الذي لانهاية له. ويستمر الاستنزاف ويستمر التنكيل بالعراق وشعب العراق، وكأنما هو إنذار في الوقت ذاته وتهديد لكل من ينتصر للعراق وشعب العراق، أن يحل به ماحل بالعراق”.
الواقع أن من يقرأ تحليلات الأتاسي حول العراق يدرك قدرة الاستقراء الأولي والصحيح لما كان يحاك للعراق، ويتبين مدى امتدادات نظر الدكتور الأتاسي كرؤيا استراتيجية مابرح المشتغلون بالسياسة والفكر يأخذون بها حتى اليوم.
كتب الأتاسي قبل خمسة وعشرين سنة يقول: ” يراد إنضاج الظروف لتفجير العراق من داخله وتقسيمه أو تحويله إلى كيان ضعيف مقطع الأوصال، يسالم اسرائيل ويستسلم لها ويعترف ويطبع، ويمر أنابيب نفطية إليها وعبرها، وليخضع بالولاء لأمريكا والمخططات الأمريكية أو ما يسمى بالاحتواء الأمريكي، شأنه شأن غيره من الأقطار والإمارات العربية المحتواة ولتصبح منطقة الخليج كلها قاعدة للعدوان الأمريكي في مخطط آخر. هذا في الوقت الذي تظل فيه سورية تحت التهديد من شمالها وجنوبها وتحت الضغوط الأمريكية لكي لا يقوم أي تواصل بينها وبين العراق، عمقها الاستراتيجي والقومي “.
في العروبة:
يرى الدكتور جمال الأتاسي أننا ” نلمس فعلياً بوادر وعي عروبي جديد في العديد من المجتمعات والمواقع الشعبية العربية، وتجد تعبيراتها في المواقف التي تتخذها طلائعها الثقافية والسياسية، التي وهي تنشد طريقاً للخروج بالأمة من أزماتها المستعصية، لا نرى طريقاً للتقدم من جديد، إلا الإمساك بمشروع وحدوي نهضوي ما هو إلا التجديد للمشروع الناصري واستنهاض حركة الشعوب بدءً من تحرير إرادتها بالتغيير الديمقراطي والتواصل مع ما انقطع من التحرك نحو أهداف الأمة ، ثم يضيف ” إن العروبة اليوم في أرجاء الوطن العربي ومجتمعاته، قواعدها الشعبية وأحزابها وتجمعاتها، ولكنك إذا ما أردت أن تتلمس أحوالها أو تبحث عن مصائرها، فإنك لن تجدها في مواقع الحكم واحتواءاته، وإنما تجدها بالضرورة في المعارضة”.
وقد انبرى الأتاسي ليبحث في مصائر العروبة التي اعتبرها في مصائر هذه الأمة، وما تاريخيتها في سورية أو في مصر عبد الناصر التي كانت وتبقى المرجعية والمنطلق، أو لدى شعوب الأمة العربية وأوطانها، إلى تاريخية انبعاث أمة ونهوضها وتاريخية حركة شعوب أمة تقدمت على طريقها، هذا عندما يكتب التاريخ أو يقرأ التاريخ بوعي وإنصاف ومن غير تحريض أو تزوير.
أو كما أشار عبد الناصر بهذا الصدد في خطابه الأخير قبل الغياب (وليست تعنينا في ذلك شهادة أي فرد وإنما تعنينا في ذلك شهادة التاريخ مبرأة من العُقَد والأهواء ومن التخريب والنسيان) ونحن اليوم أمام حملات مركزة جديدة ضد العروبة وتجربة عبد الناصر، من أعداء هذه الأمة وأعداء وحدتها، وتشويه كبير لتاريخها ومسارها، تحسباً من صحوة عروبية جديدة لشعوب الأمة، ولا بد من التصدي وفضح مقاصدها وأضاليلها”.
وحول فهمه للعروبة والناصرية كان يتحدث دائماً بقوله ” ما كان فهمي للعروبة إلا كفهم أي مفكر عمل على وعي واستيعاب تجربة عبد الناصر، ومعطيات تلك الحقبة، التاريخية وما قدمت من مرتكزات لنهوض الأمة وتقدمها، كما ظل متمسكاً بمشروع عبد الناصر النهضوي وتجديد هذا المشروع وعملت وأعمل مع كل العاملين في المجال القومي ويحملون مثل هذه التطلعات، لتكون الأداة والحركة التي تحمل مثل هذا المشروع وتناضل وتدفع على طريق تحقيق أهدافه “.
وعن تاريخية العروبة في سورية وكيف أتى للعروبة يقول الأتاسي: ” لقد جئت إلى الناصرية من حزب البعث، ولقد كنت من صانعي ذلك البعث الذي حمل في الأربعينات والخمسينات مشعل التحرر والوحدة، ولقد جئت إلى الناصرية عندما وجدت في عبد الناصر وما نهض له الفرصة التاريخية التي أتيحت للأمة للتقدم بها على طريق وحدتها، وليس لنا في أن نفوت على الأمة هذه الفرصة، ولقد وجدت في الناصرية وقيادة عبد الناصر امتداداً للبعث الذي كنته وقومية حزب البعث وتجاوزاً لها وتقدماً عليها في آن، من حيث الممارسة ، ومن حيث وضع الشعارات والأهداف في إطار استراتيجية للتقدم على طريقها وفي إطار مشروع متكامل للنهوض بالأمة لمواجهة أعدائها ومعوقات نهوضها ووحدتها “.
ويتابع: ” لقد فهمت الناصرية أول ما فهمتها في سورية وتعاملت معها عندما اكتشفتها في حركة الجماهير الكبيرة التي هبت وثارت ضد الانفصال وقامت تنادي بعبد الناصر وإعادة الوحدة مع مصر عبد الناصر، اكتشفتها في خطاب عبد الناصر والنهج الناصري في التقدم بالوعي القومي لشعوبنا، وهكذا فإن التمسك بالنهج العروبي والقومي والنضال من أجل تجديد الوحدة بين سورية ومصر كانا ومازالا من خصوصيات الحركة الشعبية الناصرية “.